مقدمة
كتب سعادة في حقول متعددة معتمداً على ثقافة واسعة شاملة وبمرجعيّة عقل حاد واضح، ليس فقط عن سوريا، بل على مستوى العالم، وذلك في فضاء عدة علوم وأهمها في حينه علمي الاجتماع والجغرافيا السياسية الحديثين آنذاك. وهو أول مفكر يدخل أحدث العلوم في النظر إلى الشأن العام والسياسة، ومن المتوقع أن يكون هذا هو الأساس والمبرر الغربي لاغتياله بتلك السرعة العالية، فقد قدم القضية السورية كقضية جيوسياسية حساسة في تاريخ العالم، وليست مجرد قضية محلية – إقليمية وبما يناقض ويكشف استراتيجيات اتفاقية سايكس – يكو ووعد بلفور.
فهل نستطيع أن نقرأ سعادة فيما كتبه وقاله وسلكه بدون هذه الثقافة الواسعة الشاملة والعقل المتقدم؟!
إنَّ من أهم المتغيرات العالمية هي أننا انتقلنا من البيئة المغلقة أو المحددة منذ الزمن الغابر إلى البيئة المفتوحة اليوم بسبب سهولة الاتصال والتواصل على مستوى العالم. كذلك يمكن أن نلاحظ أن العلم اليوم أصبح أوسع من الخيال عكس ما كنا عليه إذ كان الخيال أوسع من العلم. ويمكن لنا إضافة متغيرات أخرى.
لا أرى أن تفريد العقيدة إلى عناوين متعددة، ولا إلى مفاهيم أو مصطلحات سيساعد في إحاطتنا للعقيدة، وهذا لا يقلل من أهمية وقيمة المفاهيم منفردة على الإطلاق، لأننا لن نستطيع النظر إلى العقيدة ككل واحد بالمفاهيم منفردة كلاً لوحدها، فمفاهيم الحقيقة، الفلسفة، العقل، الثقافة، الإنسان، الأرض، الاقتصاد…أساسية في النظر إلى العقيدة ككل واحد. ثم وبعد الإحاطة بالعقيدة يمكن أن نتقدم إلى العناوين الفرعية (الهامة) التي طرحتها العقيدة.
علينا اليوم أن نلاحظ أنه تم في الواقع العملي والحياة الفكرية تفتيت الشعارات الكبرى إلى مجموعة أعمال صغيرة تفرض ذاتها على الحياة. فكل ما هو قومي.. الأرض، الشعب، الاقتصاد…… أصبح عناوين فرضت ذاتها على الشأن العام، ولا نلغي أهميتها هنا، مثل جمعيات المعاقين، تحرير المرأة، المستوى المعاشي، العاطلين عن العمل، رغم أهميتها ….. إلى ما هنالك من عناوين جزئية في سياق قضية كلية لا زلنا نلمسها على مستوى الحياة القومية. وقد سيطرت على الحياة بشكل أنها امتلكت الزمن والفكر والجهد على حساب القضية الكلية – القومية. وفي هذا السياق أفهم ما سمي المجتمع المدني المنفصل عن القضية الكلية الذي يروج له منذ تسعينيات القرن الماضي غير المجتمع المدني المرتبط بالقضية الكلية تماماً.
وحيث أن سعادة هو المؤسس فمن الضروري الاستناد إلى ماكتبه لنا للانطلاق بثقافتنا وعقلنا إلى الأمام، هذا الانطلاق الذي يحمل من احتمالات الخطأ والصواب مما يجعل الموضوع مفتوحاً أمام كتابات الآخرين التي تساهم في الوصول إلى فهم أفضل باستمرار. وحيث أننا نرتكز على عقيدتنا فعلينا عندما نكتب أن نرتكز على ما كتبه سعادة ونبدأ منه، وليس العكس بأن نكتب ثم نستشهد بسعادة على كتاباتنا، وعلى ذلك تتأسس مقاربتنا لمفهوم الثقافة في القوميّة الاجتماعيّة على ما جاء في كتاب نشوء الأمم الذي نعتبره المصدر الأساس في الوصول إلى خلاصات جدّية قادرة على محاكاة العناوين التفصيلية المزدحمة في حياتنا المعاصرة.
من مقدمة كتاب: نشوء الأمم: “إنّ [نشوء الأمم] كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها…….وكنت أودّ أن أعود إلى مراجعة هذا الكتاب في متّسع من الوقت ليجيء أكمل في الشّكل ويكون أكثر إسهاباً في بعض المواضع، ولكنّ تعاقب السّجون والظّروف السّياسيّة الصعبة الّتي وجدتني فيها بعد سجني الأوّل جعلت العودة إلى هذا الموضوع العلميّ أمراً مستحيلاً. ولمّا كانت حاجة النّهضة القوميّة إلى هذا الأساس العلميّ ماسّة رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصليّة، كما خرجت من السّجن……….ومهما يكن من الأمر فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة. ومع أنّ نشر هذا الكتاب الأوّل لا يسدّ الحاجة إلى الكتاب الثّاني فهو يسدّ الحاجة إلى كتاب في نشوء الأمم بوجه عامّ.”
إذاً، طالما وصلنا اليوم إلى سيطرة العلم على كل الأمور فلا نرى أي بداية إلا من الكتاب العلمي، نشوء الأمم.
الثقافة
يكتب سعاده في الفصل السابع من كتاب نشوء الأمم:
“الحقيقة أنّ طبيعة الثّقافة عامّة كطبيعة الدّين. وإنّما قد مرّ على العالم أدوار ثقافيّة سمّي كلّ دور منها باسم الشّعب الّذي قام به أو اللّغة الّتي كانت واسطته. فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة وهو دور الجمع بين الزّرع والغرس وسلك البحار والتّجارة وإنشاء الحروف الهجائيّة والدّولة المدنيّة وخصوصاً العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدّم معنا آنفاً. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة الإغريقيّة عنينا بها الفلسفة والفنّ اللّذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة العربيّة عنينا بها ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية، كالحساب، والهندسة، والطّبّ، والكيمياء. وإذا تكلمنا عن الثقافة الحيّة كلّها مع الاحتفاظ بالألوان أو الصبغات القومية لبعض نواحي الثّقافة.”
ونرى هنا أن سعادة يعترف بكل الثقافات عبر التاريخ ولم يستأثر بأولوية الأمة السورية في ثقافتها، بل أعطى كل أمة حقها فيما قدمته للإنسانية جمعاء. ويمكن لنا أن نستنتج أن لكل زمن ثقافته قدمت لمصالح البشرية ما ساعدها على الانتقال إلى طور جديد، لتأخذ كل أمة منها حسب طاقتها الثقافية ومؤهلاتها الروحية.
فمن يعبر اليوم عن الدور الثقافي في العالم؟!…. طبعا، هذا سؤال يفرض ذاته، من أجل أن نتفاعل مع صاحب هذا الدور إذا أردنا أن نرتقي، خاصة وأن سعادة عبر عن أن طبيعة الثقافة عامة. وقد لا تكون أمة بعينها، بل أمم متعددة في كل المجالات. إن التفاعل مع أصحاب الدور الثقافي اليوم يجب أن يتحول إلى منتج بطريقة ما.
ويكتب سعادة في المقدمة “ليس كل درس اجتماعي درساً مفيداً. فإنّ من الدّروس ما هو كتبي أو مدرسي فيكون مجموعة مواد عامة أو معلومات أوليّة لا تساعد على تقرير نظرة أو معرفة طبيعة واقع اجتماعي معين.”
“إذن، ليست الثّقافة شيئاً خاصّاً، بل شيئاً عامّاً يتفاوت في الدّرجات بين الأقوام. فالسّوريّون والإنقليز والألمان والفرنسيّون والمصريّون وجميع الأقوام المتمدّنة يشتركون في ثقافة واحدة عامّة دورها هو الدّور العصريّ. ولكنّ كلّ أمّة من هذه الأمم تحتفظ لنفسها بإسلوبها الأدبيّ أو الفنيّ الخاصّ في ما تعطيه لهذه الّثقافة. ويجوز أن يكون لكلّ أمّة بعض مظاهر ثقافيّة خاصّة.”
يعود سعادة ليؤكّد أنَّ الثقافة شيئاً عاماً وليس خاصاً، وهي التي تؤسس للمقاربة أو المفارقة بين الأمم فالعنوان الرئيسي للأمة هو ثقافتها التي تجعلها تأخذ موقعها النسبي بين الأمم.
ويكتب سعادة في نشوء الأمم الفصل السادس:
“… فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟ وإذا كانت المجتمعات البشريّة الثّقافيّة تتقارب بعضها من بعض بعوامل ثقافاتها…”
(ماهي العوامل الثقافية؟) …. والتفاعل العملي بين المجتمعات يتم وفق مستوى ثقافاتها حسب مصالحها وآفاقها.
“إذن لا تعيّن الثّقافة الأمّة، ولكنّ الثّقافة تكون فارقاً بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ شيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة.”
ومن هنا نرى أنَّ المتغيرات العالمية الأخيرة تجعلنا ننظر إلى أهمية المؤهلات الروحية ودورها بجدية عالية. مع ملاحظة أن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، أوجدوا آلية متكاملة في الاقتصاد والسياسة العالمية، لتفريغ المؤهلات الروحية وسحب كل الطاقات العقلية والفكرية والسياسية أو جعلها تهاجر بإرادتها إليهم، ومصادرة أو السيطرة على الجغرافيا المحلية بالتقسيم مع الخرق الثقافي وتصدير الشعارات السياسية الجذابة والتحكم بالنقد لزعزعة الاقتصاد بشكل دائم.
مما سبق أعلاه نرى أن الثقافة تصح أن تكون البداية – المفتاح للتقدم والدخول إلى القومية الاجتماعية، ويمكن اعتبارها المفتاح الأول والأشمل لها.
ما الثقافة؟
الإجابة متضمنة فيما كتبه سعادة في مؤلفه نشوء الأمم في الفصل الخامس:
“الحقيقة أنّ الأطوار الزّراعية الّتي وصفناها آنفاً لا تعني شيئاً ثقافيّاً إلاّ متّى نظرنا إلى العمل المبذول فيها ومقداره وكيفيّة تنظيمه وما يتبع ذلك من الأحوال الاجتماعيّة، أي إنّه لا يمكننا أن ندرس الثّقافة ومراتبها ونتتبّع تطوّرها إلاّ في سياق التّفاعل، أي في تتبّع أعمال الإنسان على مسرح الطّبيعة.
والمقياس الّذي نقيس به قيمة أيّة مرتبة ثقافيّة هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السّبيل، لأن كلّ تطوّر في الحياة الاجتماعيّة وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث إلاّ ضمن نطاق هذه العلاقة.
فالنّظام الاجتماعيّ هو دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له.
ونحن نتتبّع تطوّر الثّقافة العمرانيّة بتتبّع تنظيم الإنسان مجتمعه بناء على هذا التّفاعل، فكما أنّ
التّطوّر الإنسانيّ، نشوءاً وارتقاءً، كان وفاقاً لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة، أي إنّه تطوّر محتّم بالاختيار الطّبيعيّ لا مفضّل بالاختيار العقليّ، كذلك التّطور الاجتماعيّ، نشوءاً وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية.
فإذا كان العقل نتيجة تطوّرات الدّماغ الفيزيائيّة، فالعقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة.”
إذاً، هناك ما لا يمكن اعتباره شيئاً ثقافياً، ولكن هناك أمور يمكن اعتبارها شيئاً ثقافياً لتعطينا موقعنا النسبي بين الأمم. فكيف نعرف لنحدد ما هو ثقافي لنا وما هو غير ثقافي؟
نرى هذا المقياس واضحاً عندما يعبر سعادة عن الثقافة الاولية والثقافة العمرانية، فيكتب:
“تقتصر الثّقافة الأوّليّة على:
1) إقامة النّسل.
2) والسّعي وراء الرّزق بالمعنى الحرفيّ.
أمران ينتج عنهما نظام اجتماعيّ أوّليّ محدود، كما رأينا في خصائص المجتمع البدويّ، بل دون ما ذكرناه هناك.
أمّا الثّقافة العمرانيّة فتقوم على:
1) إقامة النّسل.
2) تحصيل الرّزق واستدرار موارده.
3) التنظيم الاجتماعيّ الاقتصاديّ.
ثلاثة أمور تتوّج بالحياة العقليّة المشتملة على المنطق والأخلاق وسلامة الذّوق.”
لكن الغرب بدأ بتفكيك حياتنا العقلية، فبدلاً من أن يكون مصدرها ثقافتنا العمرانية الواحدة، أصبح لها ثلاثة مصادر، العرف والمذهب والإعلام ومنطق السوق….. وغيره.
ونرى في تحديد سعادة للثقافة الأولية والعمرانية كم هي شاملة وواسعة. ويمكن لنا اعتبار هذا المقطع أساساً فكرياً لبرنامج عمل عام عملي للأمة. فالثقافة تؤثر وتتأثر بالعائلة والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي والحياة العقلية. نرى هنا أن الثقافة لها بداية، ولكن ليس لها نهاية “الثقافة عمل طويل لا يمكن أن يتم برسالة واحدة أو كتاب واحد، ولأن الأمور تحتاج إلى تفصيل وتوضيح بالنسبة للمسائل التي نواجهها”
الثقافة روابط وعلاقات ومستويات وتبدأ من معالجة الموارد فالإنتاج وتتطور حتى تصل إلى شكل الدولة “…إنّ قضية من هذا النوع تتكشف عن كل هذه الأهداف الخطيرة تحتاج إلى دراسة منظمة متسلسلة لا تجمعها محاضرة واحدة أو كتاب، بل هي تستمر، ويستمر الفكر يتغذى منها ويتفتح على شؤون العالم مطلقاً، ويظل مجتمعنا يجد في هذا التفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الحياة الجيدة التي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها..” لنستمر دائما بالاطلاع على شؤون العالم.
وسعادة يزيد علينا فيما هي الثقافة في الفصل الخامس:
“…وظلّت صناعة الأحجار ثقافته الوحيدة، ومن صناعته هذه الأدوات نستطيع أن نتتّبع ثقافة الإنسان منذ ابتدائها. تأتي أخيراً المرتبة الثّالثة، التي أطلقنا عليها اسم ثقافة الإنتاج التّجاريّ، وهي الثّقافة القائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصّناعات الكبرى. وهذه هي مرتبة التّمدّن الحديث الّتي أخرجتها من المرتبة الثّانية …… وكان من وراء اتّساع نطاق هذه الزّراعة وتحسينها أنّ حاصلها كثر إلى درجة صار عندها قسم كبير من أهل هذه الثّقافة محرّراً من الحاجة إلى زرع وحصد قوته بنفسه وأصبح في إمكانه الاهتمام بالشّؤون الثّقافيّة الأخرى والانصراف إليها، فنشأ عن ذلك التّخصّص الرّاقي الّذي هو أبرز ميزة في حياة المجتمع المتمّدن الاجتماعية وأرقى مرتبة في مراتب الاقتصاد الاجتماعيّ وأفعل أسلوب للحصول على أكبر نتيجة من مبدأ التّعاون.
بيد أنّه مع كلّ هذا التّقدّم في الثّقافة العمرانيّة ونشوء الثّقافة النفسيّة أو العقليّة فإنّ الحياة العقلية ظلّت ابتدائيّة ومقيّدة بالضّروريّ لشؤون المجتمع، لأنّ وسائل تحرير العقل كانت لا تزال ناقصة…”
التّجارة هي أحد العوامل العظمى في تفاعل الثّقافات وأحد العوامل الاقتصاديّة الكبرى.
ونفهم من سعاده أن الثقافة لا تكتمل إلا بتمددها في كل مفاصل المجتمع ونظامه وتنظيمه وانتظام الشعب فيها.
ثم يكتب لنا عن الدولة في الفصل السادس:
“وبديهيّ أنّ الدولة شأن ثقافيّ بحت، لأنّ وظيفتها، من وجهة النّظر العصريّة، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إمّا بالعرف والعادة ــ في الأصل ــ وإمّا بالغلبة والاستبداد. فهي إذن شأن من شؤون المجتمع المركّب، لا وجود لها إلا في المجتمع كذلك السّياسة لا وجود لها بدون الاجتماع.
ليست الدّولة في ذاتها مقياساً للثّقافة العقليّة، بل بما تنطوي عليه من حقوق…”
العزلة التّامة منافية للتّمدّن والارتقاء الثّقافيّ.
ويكمل في الفصل السابع:
“وأمّا المظاهر الثّقافيّة العموميّة فتشمل جميع ما ذكر من لغة ودين وعادات وتقاليد وتاريخ وأدب وهي كلّها من مظاهر المتّحد الاجتماعيّ الأتمّ الّذي هو الأمّة.
……والثّقافة هنا بمعنى Culture وهي مجمل العلوم والفلسفات الّتي تتناول الحياة وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوى عقليّ واتّجاهات فكريّة واعتقادات مناقبيّة وإدراك للشّؤون النّفسيّة والمادّيّة.”
فالثقافة كما يراها سعادة لها مقدمات ونتائج، هي ليست مجرد تحصيل لأنه يجب أن يكون لها حاصل قي العقل والفكر والمناقب والإدراك، وإلا فما الفائدة من استيعابنا للعلوم والفلسفات إذا لم يترتب عليها فوائد!!, فالمطلوب الوصول إلى حلول عملية تطبيقية تنموية باستخدام كل ما في العالم من علوم وفلسفات تتناول الحياة وماله علاقة بها، عدا عن الاختبارات والتجارب والوقائع التي مرت بها الشعوب للاستفادة من كيفية تقدمها:
وما يحصل من ذلك من مستوى عقليّ واتّجاهات فكريّة واعتقادات مناقبيّة وإدراك للشّؤون النّفسيّة والمادّيّة.
يمكننا أن نستنتج أن الثقافة تدخل في كل تفاصيل حياتنا، شرط أن نعرف ماذا نريد “ما نريد هو ما نحن…الفصل السابع من نشوء الأمم” وأن نتمكن من تحويل كل تفاصيل حياتنا إلى شأن ثقافي، وإلا فإن عملنا لن يفيد الأمة، خاصة أن سعاده حملنا مسؤولية كبيرة أمام أنفسنا والأمة وأمام العالم.
المتحد والثقافة
إنَّ أهمية هذا العنوان هو في استخدامه من قبل الغرب وأمريكا والصهيونية في عمليات التهجير والهجرة، حتى الهجرة الداخلية، لأسباب تتعلق بتفكيك المجتمعات من الداخل وزرع ثقافة تابعة تخدم مصالحهم.
كتب سعادة في الفصل السابع لنشوء الأمم:
“أريد أن أجاري هنا مكيور في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد ……ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، …… ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة.”
لنتوسّع في درس هذا الموضوع ولننظر في التّخبّط الّذي يجرّنا إليه حسبان صفات مشتركة أساساً للمتّحد.
“إذا كانت المصلحة الاقتصاديّة أساسيّة في كلّ مجتمع فهو لأنّها تخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة. والمتّحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيويّة، ولكنّها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيّدة بالنّسبة إلى المرتبة الثّقافيّة والدّرجة الاقتصاديّة.”
وهنا يتدخل الغرب في المصلحة النفسية للمتحد الناتجة بالتفاعل عن الاشتراك في الحياة الواحدة، ويفصلها عن المصلحة الحيوية للمتحد ككل ليعيد انتاجها بشكل ضيق على أساس أثيني، ديني، مذهبي، عشائري، قبلي، …. فيصبح لكل زمرة قي المجتمع مصالحها الحيوية المستقلة والخاصة بها! ثم لتعود وتطالب بتفرد واستقلال مصالحها الحيوية (حق تقرير المصير)
“قد عرّفنا المتّحد …… ونعرّفه بالنّسبة إلى مصالحه وإرادته، فهو من هذه الوجهة وحدة اجتماعيّة حاصلة لأعضائها القناعة الدّاخليّة الإجماعيّة. إنّ لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإرادتهم، في حياة عموميّة مشتركة على مستوى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة. ……. فالمتّحد الاجتماعيّ ليس مجرّد أوصاف أو مصالح، بل هو أمر واقع. هو جماعة من النّاس تحيا حياة مشتركة في بقعة معيّنة ذات حدود.”
نرى مما ورد أعلاه أن معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم “إذا كانت المصلحة الاقتصاديّة أساسيّة في كلّ مجتمع فهو لأنّها تخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة. والمتّحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيويّة، ولكنّها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيّدة بالنّسبة إلى المرتبة الثّقافيّة والدّرجة الاقتصاديّة.”
لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإرادتهم، في حياة عموميّة مشتركة على مستوى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة. فللمتحد حياة عموميّة مشتركة على مستوى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة. وعلى درجة اقتصادية معينة، لتخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة.
المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي في المتحد
يكتب سعادة في الفصل الخامس من نشوء الأمم في خصائص المجتمع البدوي من موقع الناظر إليها من ثقافته ونظرته:
“يمكننا الآن أن نتقدّم بارتياح إلى النّظر في خصائص أو مزايا المجتمع البدويّ والمتوحّش. وأولّ ما نلاحظه في هذا المجتمع أنّ مستواه الاقتصاديّ لا يزال على درجة ابتدائيّة بحت فهو لا يعلو عن درجة سدّ حاجة الحياة مباشرة إلاّ قليلاً. ومن مظاهر هذه الدّرجة فقدان الصّناعة أو وقوفها عند حدّ صنع بعض الأدوات الضّروريّة، خصوصاً الخشبيّة منها، كالأوتاد والرّكائز والعصيّ وجدل بعض الأعشاب والنبّاتات لسقوف وحيطان الأكواخ (الجماعات الأوّليّة) ونسج الوبر والشّعر للخيم وبعض اللّباس (الجماعات المنحطّة المتبدّية) وأسباب عيش الجماعات التي على هذه الدّرجة تقتصر على الضّروريّ ويندر أن تتعدّى إلى الحاجيّ فضلاً عن الكماليّ. فكثير من الجماعات الأوّليّة تطلب سدّ الحاجة مباشرة أو بمداورة قليلة. وحاجاتها تقف عند حدّ الحصول على البلغة ونقع الغلّة ومدرأ واق من العوارض الجوّيّة وغدر الحيوانات المفترسة. وعلى ما يقارب هذا الجماعات المنحطّة المتبدّية. وهمّ مثل هذه الجماعات هو غالباً في الصّيد وجمع القوت النّباتيّ النابت من تلقاء نفسه (عمل النّساء) وزرع بعض الحبوب على كيفيّة أوّليّة رديئة. وفي شرقنا الأدنى نرى العرب يسدّون حاجاتهم المعاشية مباشرة أو بما يشبه المباشرة كتناولهم لبن النّوق والتقاطهم التّمر. وتربية الجمال أهمّ شؤونهم الاقتصاديّة وترتقي حياتهم إلى رعاية الماشية وتربية الخيل. وبيوتهم شعر ووبر وكذلك لباسهم. ويجمعون إلى ذلك زراعة أوّلية يتولاّها أهل المدر منهم.
وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ وإذا وجد شيء من ذلك فهو في صورة أوّليّة غامضة. ومن درسنا أحوال العرب الذين هم في جوارنا نرى أنّ الفرد لا يكون عندهم سوى وحدة عدديّة في القبيلة سواء في ذلك أهل الوبر وأهل المدر، والانتساب إلى إحدى القبائل هو ضرورة. ومن هذه الحقيقة ندرك أهميّة الثّأر الّذي يعني حقّ القبيلة لا حقّ الفرد كما سيجيء ويرى فقدان الملك الشخصيّ عندهم في أنّ الفرد لا يمكنه الاعتماد على نفسه في الدّفاع عن الممتلك وفي أنّه إذا فقد أحد مقتنياته توجّب على بقيّة أفراد القبيلة أن يعطوا كلّ واحد من ماله ما يعوّض على الرّجل خسارته.”
نلاحظ في تقييم سعادة للمجتمع البدوي ما يلي: لكل متحد مستوى اقتصادي واجتماعي ينتج عنه مستوى ثقافي نسبي في الأمة. ونرى أن هذا التقييم يصح بدرجة معقولة على المتحد يمكن أن تعطينا مؤشراً لنا، فللمتحد مستوى ثقافي ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة بالتفاعل.
كيف تصرف الغرب في مجتمعاتنا؟
لقد فصل بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي بالفصل بين المصالح الحيوية والمصالح النفسية، ومن ثم تحريك صراعات داخل المتحدات على أساس المصالح النفسية الجزئية تدفع إلى الهجرة أو التهجير، فالهجرة أو التهجير تعنيان عملياً الفصل بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي للزمرة الاجتماعية، ودفعها للهجرة أو تهجيرها إلى متحد آخر لاينسجم مستواها الثقافي الموروث مع المستوى الاجتماعي للمتحد الجديد، مما يثير تغيير في الديمغرافيا المتشكلة تاريخيا عبر تعاقب الأجيال في المتحد الجديد، فيجعل المتحد الجديد متخلخلا غير مستقر ويحتاج إلى أجيال لإعادة الاستقرار من جديد. لكن تأثير الهجرة والتهجير يبدو ضعيفاً على المجتمعات الغربية المتشكلة لأن لها تنظيماً ونظاماً ثابتاً يستطيع هضم تلك الهجرات إليها.
تفكيك المتحدات
إنَّ طبيعة النظام الرأسمالي العالمي الذي يعمل بدافع الربح الأقصى (الفاحش) بأهداف استراتيجية، يدفع إلى الاتجاه نحو الصناعة والصناعات العسكرية والتكنولوجية، مما يؤدي إلى تمركز رأس المال في هذه الصناعات، ومع التخلف الاقتصادي والانخفاض الكبير في المستوى المعاشي اليومي نصل بالتالي إلى هجر المتحدات الزراعية، وكل المتحدات التي لا تلبي تحقيق الحد الأدنى من المستوى المعاشي اليومي… إلى المدن للبحث عن حياة أفضل، لتنشأ المدن الكبرى حيث المصارف جاهزة لتقديم القروض إلى من يبحث عن إنشاء فرصة غير عادلة له ولعائلته ومستقبلهم.
بنشوء المدن الكبرى نشأت الحاجة إلى الغذاء بشكل كبير فظهرت مجموعة من الوسطاء الذين يشترون من المزارع إنتاجه ليبيعونه في سوق المدينة بما يحقق لهم أرباح تتناسب ومستوى حياتهم التي يحلمون بها، وقد أدى هذا إلى التحكم بأسعار دنيا للمحاصيل الزراعية، وفي الحد الأدنى بأقل ما يمكن، فخسر الفلاح قدرته على تطوير حياته مما دفع بأبنائه إلى هجرة المتحد باتجاه المدينة الكبيرة، فخسر المتحد كل الخبرات الزراعية المتوارثة.
هذه نظرة مبسطة إلى آليات تفكيك المتحد، وآخر ما تعرضنا له هو قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية فأرجع الحياة الزراعية إلى مرحلة ثقافة البستان كما ورد في كتاب نشوء الأمم، حيث لم يعد الفلاح يقدر أن يحقيق فائضاً مالياً يستطيع به التطور باتجاه التصنيع الزراعي فبقي حيث هو، ويحتاج للاقتراض من المصارف ليستطيع أن يفكر بتطوير بستانه.
من الظن أننا خسزنا المتحد في غالبية مناطق الأمة ولم يتبق إلا القليل، ونحتاج إلى إعادة حضورها في الحياة.
الأنثروبولوجيا الثقافية
من المؤكد أن سعادة قرأ علم الأنثروبولوجيا واعتمده في كتابه، وهذا ما ذكره في الفصل الثاني من كتابه نشوء الأمم. ويفيدنا كثيرا الاطلاع على علو الأنثروبولوجيا فهو يساعدنا كثيرا على كيفية قراءة كتاب نشوء الأمم. فمن المناسب هنا التعرف على علم الأنثروبولوجيا الثقافية:
بظهور أول مفهوم واضح لاصطلاح الثقافة، وقد تم ذلك لأول مرة على يد العلامة ادوارد تايلور E. Tylor في عام 1871م حين قال: (الثقافة … هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضو في المجتمع) وقد ساد هذا التعريف عند كل رواد هذا الفرع في القرن التاسع عشر.
يختلف الأنثروبولوجيون فيما بينهم حول وضع الحدود الفاصلة بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية. فلا يمكن تحديد الفروق الأساسية بين الأنثروبولوجيا الثقافية التي تختص بموضوع الثقافة والأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تختص بالبناء الاجتماعي الذي هو أحد القطاعات الكبرى للثقافة، وذلك لوجود اختلافات في المراحل التكوينية التي مر بها كل علم.
ومن الضروري في دراسة الانسان واعماله التمييز بين عبارة (ثقافة) وبين العبارة المرافقة لها (المجتمع). فالثقافة هي طريقة حياة شعب ما. ان الانثروبولوجيين الاجتماعيين البنائيين يعتبرون المجتمع هو الحقيقة النهائية التي تجعل من الممكن فهم طبيعة الانسان والنظم الاجتماعية التي تحكم ذلك المجتمع، بينما يرى العلماء الثقافيون ان الثقافة هي تلك الحقيقة النهائية المتمايزة بذاتها. وان المجتمع ليس سوى أداة ووسيلة لقيام الثقافة ووجودها واستمرارها.
ومن هنا يمكننا القول بان الاتجاه الثقافي يغلب على الدراسات الأنثروبولوجية الامريكية، بينما تميل الانثروبولوجيا البريطانية ميلا شديداً نحو الدراسات البنائية، ويرتكز هذان الاتجاهان على التفرقة بين المجتمع والثقافة, واختلاف العلماء حول تحديد موضوع الانثروبولوجيا وهل هو دراسة العلاقات الاجتماعية او قواعد العرف والتقاليد.
لذلك تذهب المدرسة الإنجليزية إلى ضرورة الفصل بين الأنثروبولوجيتين على أساس أن كل فرع مهما مستقل بذاته، أما المدرسة الأمريكية فترى أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية فرع من فروع الأنثروبولوجيا الثقافية.
اقترب موضوع الأنثروبولوجيا الاجتماعية من موضوع الأنثروبولوجيا الثقافية عندما قرر دوركهايم Durkheim ضرورة دراسة (الحقائق الاجتماعية) على أنها أشياء (أي شيء يوصف بصورة مؤكدة على انه شيء حقيقي) لذا تتصف الحقائق بانها أولا: انها خارجة عن الفرد, وثانياً: انها ملزمة له، ترتب على ذلك إعلان كل من العلامة الفرنسي مارسيل موس والاستاذ M. Mauss والاستاذ برونسلاف مالينوفسكي B. Malinowski أن (الأشياء) التي من صنع الإنسان هي أيضا ظواهر اجتماعية وتدخل في نطاق علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية، ويرى العالم ليفي ستراوس L. Strauss أن هذا الإدماج للأشياء في نطاق الأنثروبولوجيا الاجتماعية ساعد على اقترابه التام من الأنثروبولوجيا الثقافية ويقول ما نصه: (وهكذا يمكن لنا أن نقول أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية أصبحتا تدرسان نقس الموضوعات، ولكن يوجد اختلاف بسيط وهو أن الأنثروبولوجيا الثقافية تبدأ بدراسة الأشياء المادية والفنون العملية وتنتقل منها إلى دراسة النشاط الاجتماعي، بينما تبدأ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بدراسة الحياة الاجتماعية والانتقال بعد ذلك إلى دراسة الأشياء التي هي من نتاج العلاقات الاجتماعية وعن طريقها تعبر الحياة الاجتماعية عن نفسها. ويمكن تشبيه هذين العلمين بكتابين يحتويان على فصول متشابهة، ولكن يختلفان في ترتيب تلك الفصول وفي عدد الصفحات).
ويذكر الاستاذ (هوجبن Hogbin) ان التفرقة بين المجتمع والثقافة تنطوي على كثير من الصعوبات، ولكنه يعرف المجتمع بانه يشير الى كل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين افراد المجتمع المحلي، اما الثقافة فإنها تعني كل انماط السلوك المقنن، وبذلك فان كلا منهما هو وجه لشي واحد، بعبارة اخرى إذا كان المجتمع هو مجموع العلاقات الاجتماعية، فان الثقافة تكون هي محتوى هذه العلاقات، او اذا كان المجتمع عبارة عن مجموعة منظمة من كائنات البشرية التي تتميز بطريقة معينه للمعيشة، فان الثقافة تكون هي تلك الطريقة ذاتها.
تبدو الانثروبولوجيا الان كما لو كانت منقسمة الى علمين مستقلين أحدهما عن الاخر كل الاستقلال، وهما الانثروبولوجيا الاجتماعية التي تهتم بالعلاقات والنظم والابنية الاجتماعية، والانثروبولوجيا الثقافية التي تهتم بدراسة العادات والعرف والتقاليد وغيرها من مكونات الثقافة على العموم، فالاهتمام بدراسة البناء الاجتماعي معناه، التركيز على العلاقات الاجتماعية بصرف النظر عن تفاصيل التعبيرات الثقافية التي يتضمنها سلوك الناس، ثم تفسير هذه العلاقات على المستوى الاجتماعي البحت.
كيف نجعل كل أمر وتفصيل ثقافياً؟
نستنتج مما ذكر أعلاه أن هناك مسارين للثقافة، المسار الأول، داخلي تفاعلي، ينتج عن التفاعل داخل المتحد والأمة. والثاني هو خارجي ينتج عن الثقافة العالمية، في المجال الزراعي كالزيتون مثلا، فكيف نحقق الفائدة التي نريد؟
عندما نترجم إرادة سعادة انتقال مجتمعنا إلى ثقافة الإنتاج التجاري، وقد أعطى قيمة للتجارة الخارجية، أراد أن ندرس جودة المنتج والسوق العالمية والتسويق…إلخ، حتى بالنسبة للمحاصيل الزراعية، فكيف يتم هذا؟
من الظن أننا نحتاج إلى هيئة عليا للثقافة تعمل على تقاطع الثقافة الناتجة داخل المتحدات مع ماتحصل عليه من الثقافة العالمية لتقوم بفرز المعطيات وإعادة إنتاجها بما يفيد كل متحد عبر هيكلية ثقافية تطال كل بنية المجتمع ليصبح كل أمر شيئاً ثقافياً، والابتعاد عن القرار الفردي الذي غالباً ما يكون قاصراً لا يستطيع أن يتناول حقيقة وجوانب الموضوع.
وأخيراً، من المفيد إثارة السؤال التالي: مَن هو المثقّف في القوميّة الاجتماعيّة؟
———————————–
تنويه: اعتمدنا نسخة ألكترونيّة من كتاب “نشوء الأمم” – أنطون سعادة، وكل ما ورد في النصّ بين مزدوجين صغيرين “…” يعود لسعادة.