في مجرى تاريخ كان نهباً لمصادفات حددت سيرورته اللاحقة، نشأت الدولة القطرية العربية المعاصرة على أنقاض امبراطورية شرقية عثمانية فشلت كل محاولات تحديثها واحتفظت بأهم صفة لنظامها السياسي ألا وهو الاستبداد.
دول قطرية لم تعبّر عن خيار أمة، بمعزل عن ضيق تصوّر الانتماء إليها أو اتساعه، بمعزل عن تحديدها الجغرافي أو الاتني أو الديني. بكلمة أخرى لم تنشأ دولة تجسّد أمة سورية متحدة أو أمة عربية واحدة، أو أمة إسلامية جامعة. وهي الخيارات الإيديولوجية – السياسية الثلاثة التي واجه فيها العرب مصيرهم ومستقبلهم. بل قل إنّ حركات التحرر من الاستعمار الأوروبي قد خضعت لهذا الشكل أو ذاك لمنطق التقسيم الاستعماري للمنطقة، كما انتصر منطق المستعمر في تلك البلدان التي لم تشهد مقاومة لهذا الغريب الأوروبي. نشأت الدول خارج الأمة، وظلّت الأمة تبحث عن دولة كسبيل لوحدة الأمة. فانتصرت القبيلة في الجزيرة العربية ونشأت الدول في حدود قوة السيطرة التي حدد الاستعمار خياراتها النهائية وفق مصالحه الاستراتيجية. فاحتفظت الإمامة في شمال اليمن، وأنشأ السعوديون دولتهم بعد صراع مع آل الرشيد والهاشميين. ورسم كوكس حدود الكويت لآل الصباح وحدود العراق مع الجزيرة، وأقامت قبائل الرعي والصيد دويلاتها في الإمارات وقطر والبحرين.
أما في بلاد الشام، فقد أُهدي شرق الأردن إلى الأمير عبد الله ليعلنها دولة مستقلة، وضم جبل لبنان إلى شماله ليشكّل دولة طوائف لبنان الكبير، وقُدّمت فلسطين إلى الحركة العنصرية الاستعمارية – الصهيونية لتظهر دولة غريبة، وأسست سورية بالباقي دولتها المعاصرة.
وقس على ذلك بلاد المغرب العربي، وحدها مصر التي ظهرت فيها الدولة منذ القرن التاسع عشر والتي أخفقت في وراثة الإمبراطورية العثمانية المنهارة، وليتبدد حلم محمد علي باشا.
في مستوى شكل الدولة، فقد أنشأ الفرنسيون الجمهوريات وأقام الإنكليز الممالك والإمارات. أما النظام السياسي، فلقد تحدد وفق جملة شروط كان أهمها الاحتفاظ بسلطة الدولة في انفصال كامل عن خيارات المجتمع، واقعة كهذه ما كان عليها إلاّ أن تخلق نظاماً سياسياً يقوم على الاستبداد والإكراه السياسي. وفي هذه النقطة بالذات تساوت الجمهوريات والممالك والإمارات.
وإذا كانت الدولة تاريخياً نزوع نخبة لتوحيد جماعة من الناس ذات خصائص مشتركة إثنية ولغوية وجغرافية وثقافية، أو نزوع شعب – أمّة بكاملها نحو وحدة سياسية، وهذا ما يحدد في النهاية النظام السياسي في أية دولة، فإن الدولة القطرية العربية لم تكن ثمرة هذين الشرطين، وبالتالي لم يتحدد نظامها السياسي إلاّ في آلية النظر إلى الدولة كملكية خاصة لقوى تمتلك عناصر السيطرة المتنوعة والتي ظلّت تحتفظ بها خشية نزع ملكيتها هذه. فلا هي انطلقت من الجغرافية ولا من اللغة ولا من الجنسية ولا من الثقافة ولا من نزوع شعبي أو نزوع أمّة، بل ظلّ التناقض بين الأمّة والدولة. ولكي تستمر الدولة خارج الأمّة، ولمقاومة أيّ طموح مستقبلي للأمّة في دولة كان عليها أن تفرض نفسها بكل أدوات القمع مهما كانت النتائج المدعوة لمثل هذا القمع طالما يوفر لها استمرار سلطة الدولة المصطنعة أصلاً والتي لا تاريخ لها.
وإذا كان النظام السياسي يحدد طريقة ممارسة السلطة، ومؤسسات وأجهزة الدولة تحددان طريقة إدارة المجتمع ويحتفظان باستقلالية نسبية عن النظام السياسي، ففي الدولة العربية القطرية توحد على نحو استثنائي النظام السياسي للدولة ومؤسساتها وأجهزتها. بحيث لا وجود لأية مؤسسة خارج الوظيفة التي تؤديها لسلطة الدولة.
إذ ذاك صار معيارنجاح مؤسسة الدولة هو مدى تأديتها للوظيفة التي حددها النظام السياسي، فغاب حق المواطنة في مقابل الولاء. والولاء المطلق لسلطة الدولة ونظامها بل ولشكلها. وصار موظف المؤسسة هو الامتداد الطبيعي للحاكم المطلق أو لقلة من تحالف حكام مطلقين يوحدون بين الانتماء إليهم والانتماء للوطن.
يقودنا هذا التوظيف إلى نتيجة أساسية لتحديد طبيعة الدولة القطرية العربية الراهنة: غياب الأساس التاريخي الطبيعي لنشأة الدولة وتغيرها، وأقصد بالأساس التاريخي الطبيعي تلك العملية من التطورات الداخلية المتراكمة التي تقود حتماً وبالضرورة إلى تحديد الصيغة التي يجب أن تكون عليها الدولة، إن من حيث صورتها أو نظامها السياسي أو وظيفتها أو نمطها أو قواها الاجتماعية.
فلو أخذنا دولة راهنة كالأردن مثلاً، فسنجد أنّ شكل الدولة وهوالملكي، لم تحدده عوامل تناسب القوى الاجتماعية – الطبقية السياسية وصراعها على امتلاك سلطة الدولة. فلو خضع شرق الأردن للاستعمار الفرنسي، لكان شكل الدولة جمهورياً قياساً إلى تلك الدولة التي استعمرت.
وممارسة الملك لسلطته تحدد بوصفه شخصاً يجب أن يفرض الولاء له بكافة السبل. وبالتالي فإنّ التناقض بين سلطة الملك والحركة السياسية الوليدة ما كان يمكن أن يحسم إلاّ عن طريق الإكراه والعنف المادي والمعنوي. ولم يكن الملك ينتمي إلى قوة طبقة متعينة خيارها هو هذا النظام وهذا الشكل، بل إنّ الدولة ذاتها هي التي عملت على خلق مثل هذه القوة بوصفها المصدر الأساسي للثروة. أي إذا كانت الثروة هي العامل الحاسم في امتلاك السلطة فطرياً، فإنّ الدولة هي التي أصبحت عامل تنامي الثروة، بل إنّ جغرافيا الدولة أي الأرض كان يمكن أن تضيق وتتسع، وبالتالي فإن الانتماء للدولة – كجنسية جاء تعسّفياً جداً. فالجنسية ظاهرة تاريخية مرتبطة بمفهوم الشعب الذي تكوّن عبر مئات السنين وتولّد لديه الشعور عبر عوامل مشتركة بأنه ينتمي إلى أمّة – عرق بالمعنى الانتروبولوجي للكلمة.
وبالتالي فإنّ كلمة أردني لا تحيل إلى جنسية بقدر ما تحيل إلى اسم دولة كان يمكن أن تحمل أيّ اسم آخر، ودون أن تحيل إلى معنى الجنسية.
إنّ السؤال نفسه قد يطرح حول معنى السعودي أو الإماراتي أو اللبناني. فالجنسية تشير إلى هويّة متعينة تاريخياً وتحيل إلى مجموعة من الصفات لا تحدد بمعزل عنها أية هويّة وتميز إنسان يشعر بانتمائه.
وبما أنّ الدولة القطرية لم تقد إلى انتصار هويتها المصطنعة، فإنّ سكان الدولة العربية القطرية يسعون إلى هويات أكثر ثباتاً ويقيناً كالهوية القومية أو الهوية الثقافية، أو قيام البعض من المؤدلجين لتأسيس هوّية ضيقة بناءً على تاريخ يُقصّ قصاً من مجرى التاريخ العام للمنطقة.
ومن هنا ينشأ التناقض بين هوّية تأسست تاريخياً وهوّية ليس لها أسباب استمرارها. أيّ بين الهوية والدولة. وهكذا تغدو الدولة عامل نزع الهوية وليس تثبيتها، ومهما كانت وسائل العنف والإكراه شديدة، فإنها ليس بمقدورها أن تكون هوّية على هواها.
من هنا يمكن القول أنّ حجم التناقض بين الدولة والمجتمع في العالم العربي لا مثيل له تقريباً في العالم المعاصر، لأنه تناقض يجري في نهر مجرى التاريخ.
فبدل أن تقود الهوّية إلى الدولة تسعى الدولة لخلق الهوّية وبدل أن تغدو الدولة هي عامل توحيد للمجتمع تتحول إلى عامل تفتيت له، بل وتعوّل عليه من أجل استمرارها ولهذا تراها تسعى جاهدة لإعادة إنتاج أشكال الانتماء الما-قبل قومية، كالأسرة والقبيلة والطائفة وتستند إليها. كما تسعى لإثارة النزاعات الهامشية على الدول الأخرى وأهمها نزاعات الحدود كي تؤكد تاريخية حدودها الجغرافية من جهة وتزيل الروابط القائمة بين سكان المنطقة من جهة ثانية.
وبما أنّ هذا الكلام يأتي بمناسبة استشهاد أنطون سعادة، فحسبي القول أنّ التناقض بين المشروع القومي السوري والدولة اللبنانية، هو مثال حي للتناقض بين دولة قطرية تسعى نحو ترسيخ الانتماء الطائفي ومشروع يسعى نحو تجاوز الطائفة نحو الأمّة. مهما كانت نقاط الاختلاف حول الهوّية السورية.
ما كان يمكن لهذه الدولة في مواجهتها لنقيضها إلاّ أن تستخدم العنف الذي تسنده قوانين تعسفية لإضفاء شرعية على العنف والإكراه.
غير أنّ التناقض بين الدولة القطرية والمجتمع، لا يظهر فقط في حقل الهوّية، بل في حقول متعددة لا تستطيع الدولة مواجهتها إلاّ عن طريق الاستبداد، فلمّا كانت من مصلحة الدولة الإنتاج الدائم للانتماء الما-قبل قومي، فإنها ولا شك تعوّل على حكم الأقلية، فتنشأ الدولة – العائلة، الدولة – القبيلة والدولة – المنطقة، الدولة – الطائفة، وفي سيرورة هذه الدولة – تنشأ الدولة – الطبقة التي تأخذ سماتها مما سبق ذكره.
إنّ استمرار السيطرة الذي يعني استمرار الثروة. واستمرار الثروة كاستمرار للسيطرة يفضي إلى مواجهة مباشرة بين الدولة وفكرة الحرية بكل تقنياتها السياسية والفكرية والاجتماعية والفردية. ذلك أنّ الحرية بمعناها التاريخي المتعين لا تظهر إلاّ في نشاط إنساني متجسد اجتماعياً وفردياً بنفس الوقت. وبالتالي فمصادرة الحرية تحيل مباشرة إلى مصادرة النشاط الإنساني. إذ ذاك تغدو الديمقراطية وهي حقل تفتح الإمكانيات البشرية وتحولها إلى واقع هي العدو الأول للدولة.
أي أنّ حق الدولة يصادر مباشرة حق المجتمع وينتج بالضرورة غياب المجتمع المدني بكل أشكاله الحزبية والنقابية والتعليمية والصحافية والفكرية – الإيديولوجية.
عندما يحصل أن تستعير الدولة القطرية كل أشكال المجتمع الديمقراطي ولكنها تفرغها من أي مضمون عملي.
فهناك الحزب، ولكنه المتماهي مع السلطة، وهناك النقابة التي تتحدث باسمها وليس باسم من يفترض أنها تمثلهم، وهناك الصحافة التي لا تجرؤ على الكلام إلخ.. وهكذا تفقد الحياة طابعها المعشري وتتفتق عن ظاهرتين خطيرتين.
ظاهرة اللامبالاة بما يعصف بالوطن من أخطار ومشكلات، أو التوجه نحو العنف المضاد وقد سدّت كل منافذ التعبير عن الشخصية المجتمعية.
تنتج اللامبالاة ظاهرة التقية بالمعنى الدقيق للكلمة، فتتفشى مظاهر الكذب والممالأة والخداع والغش. وتنتج ظاهرة العنف المضاد تبادل العنف الذي يضاعف من غياب الشعور بالأمن الشخصي وتتضاءل أكثر فأكثر قيمة الإنسان حتى تبدو الحياة مستحيلة لا سيما إذا اتخذ العنف صيغة الحرب الأهلية. إنّ الخراب الأخلاقي الناتج عن كل ما سبق يعيد المجتمع إلى حالة تحتاج إلى زمن طويل من الترميم مهما كان الجانب المنتصر في هذا الصراع، فالحياة الروحية تفقد أسباب ازدهارها، أي تفقد المشروع الذي يرسم المستقبل وقواه التي تطمح لتحقيقه.
والحقيقة أننا نعيش مرحلة موت المشروع، فلا عقلانية عصر النهضة وتنويره تبعث الأمل، والمشروع القومي التحديثي يترنح أمام ضربات الدولة القطرية المستبدة. وها هم البشر عاجزون عن صياغة المشروع البديل. ترى ما معنى الحياة بلا مشروع؟ وما معنى المشروع بلا حرية. إنّ ذلك لا يعني سوى أنّ الحياة غدت بلا أمل.
وهكذا تكتمل دائرة الاستبداد المسيطر ونتائجه المدمرة. غير أنّ الاستبداد كممارسة لا ينفصل عن إيديولوجيا تبرره فتنشأ إيديولوجيا الاستبداد كإيديولوجيا تسعى الدولة المستبدة إلى تعميمها عن طريق وسائل الاتصال المسيطرة عليها.
تنطوي إيديولوجيا الاستبداد على جملة من المفاهيم، جهاز مفاهيم تكوّن نظرة حول التاريخ والفرد والقيم بشكل خاص.
يتحول التاريخ في إيديولوجيا الاستبداد كألعوبة بيد المستبد الذي تصبغ عليه صفات ما فوق طبيعية، فهو صانع التاريخ بلا منازع، المتحكم بالمصير، المتفاني من أجل الوطن، والمثل الأعلى الذي تسمو إليه النفوس، البطل الذي لا يظهر إلا مرة وعبر مئات السنين.
تصنع إيديولوجيا الاستبداد من المستبد أسطورة تقف وحدها كعامل تفسير لجملة الأحداث التي تجري من وحيه. ولأنّ التاريخ لا يفهم أو يفسّر إلاّ بالاستناد إليه، فإن شروطه الموضوعية تزول من جهاز الفهم التاريخي ولا تظل سوى الإرادة الفردة التي تنظر إلى الناس بوصفهم رعية، يجب أن تخضع للترويض دائماً من أجل تأكيد الولاء للراعي.
وبما أنّ البطل حادث استثنائي في التاريخ، فإن التاريخ العام يزول لقاء التاريخ الخاص جداً. أي إنّ التاريخ الخاص لم يعد له أيّ علاقة بمجرى التاريخ العام.
يتحول مفهوم الخصوصية إلى المبرر الأوحد لسلوك المستبد أو السلطة المستبدة، فعبرها ينفى التشابه لقاء الفرادة. فما هو صالح للغير لم يعد صالحاً في حقل الخصوصية.
إذاً من مفهوم الأسطورة إلى مفهوم الرعية ومن مفهوم الرعية إلى مفهوم الولاء، ومن مفهوم الولاء إلى مفهوم الترويض، ومن مفهوم الترويض إلى مفهوم الخصوصية تكتمل العدة الإيديولوجية للاستبداد.
يجري تعميم هذه الإيديولوجيا عبر كل أشكال التعبير اللغوي والفني. فيخلق الشاعر والقاص والفنان والمؤرخ الذين يتحركون في حقل الإيديولوجية فقط. فتنشأ أول ما تنشأ لغة مقطوعة الجذور بالعالم. وتفقد البلاغة قيمتها الجمالية لتغدو السلاح الوحيد لتزييف الاستبداد ليس باستطاعته أن يتعامل مع عالم ما فوق عقلي.
إنّ فرض إيديولوجيا كهذه – سيقود ولا شك – إلى مصادرة أي محاولة تفكير عقلاني – تاريخي – منطقي للعالم. والنظر إلى هذا النمط من التفكير كعامل إفساد للوعي، لأنّ الوعي يجب أن يظلّ في نطاق أسطورة إيديولوجيا الاستبداد.
وهكذا يولد الاستبداد والعنف، المجتمع الراكد بالمعنى التاريخي للكلمة، لا سيما في شروط قادت مجتمعاتنا إلى نمط من الركود. ولما كان تجاوز الركود يحتاج إلى قوى اجتماعية طبيعية سياسية حية تنشأ في سيرورة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ السلطة المستبدة وهي تصادر هذا كله، تبقي المجتمع خارج السيرورة، وفي سبات طويل وهيهات للسبات الطويل أن ينتج استيقاظاً نشطاً.
أخيراً.. غالباً ما يطرح علينا سؤال صعب جداً ألا وهو: ما العمل إذن؟ ما الطريق إلى تجاوز هذه الورطة التاريخية؟
لا أخفيكم أنه ليس من مفكر قادر على تقديم وصفة جاهزة للبرء من المرض. إنما تفسير العالم هو المقدمة الأولى لتغييره، أي أنّ فهم ما يجري قمين بأن يجعل البشر يفكرون في إطار واقعهم عن سبل الخلاص.
منذ زمن مات المخلّص، وترك البشر أن يتحكموا بمصيرهم.