الشرع الأعلى

تأصيل الحداثة

قراءة استعاديّة في كتاب أنطون سعادة الصراع الفكري في الأدب السوري (5/4)

إنّ هذا الكتاب قد أغمط حقه وإن كان قد أسّس لاتجاه وأطلق تياراً قد ركن إلى جملة من المفاهيم. إنه يهدف لرسم مسار ويعترض على نمو غمرته الفوضى واكتنفت مضامينه البلبلة. ذلك لأنه قد وضع قواعد لانطلاق الأدب تماماً كما وضع صاحبه القواعد العامة لانطلاق الفكر. وهكذا استطاع تشكيل وثيقة نقدية بارزة وقدم مستنداً منهجياً للمحاكمة الأدبية في وقت مليء بالاستحقاقات.

“كل أدب لا يعرف الحياة لا يحيا” يقول سعادة: أنه الأساس في مذهبه الأدبي”.

ذلك لأن “حصول النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور كما قلت آنفاً. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدب والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجدّدا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة”.

الحياة والنظرة إلى الحياة مشفوعة بالكون والفن هي في جوهر العملية الأدبية وفي صلب تمظهراتها. لذلك فإن الضرورة تفترض تعيين المعنى العميق لهذه النظرة كما تفترض تعيين شكل الأداء إذ يطال الأمر مسألة الحداثة في علاقتها بالتاريخ.

الحياة بالنسبة لصاحب الصراع الفكري ليست في الانطلاق من حياة الفرد، بل هي حياة الأمة وطرائق عيش المجتمع الخاص بها، لذلك فإن دعوته للعودة إلى التاريخ الذي يسجّل مواهبها، روحها وتراثها إنما هي تعبير عن حركة الاتصال بين حقباتها من الأسطورة إلى منجزاتها.

 في أيلول من عام 1957 كان الشاعر أدونيس يقول ذلك: “ليس بين قصيدتي وقصيدة خليل حاوي أي التقاء. ذلك أنّ القصيدتين تنبعان من مصادر واحدة أطلقها في بلادنا عقائدياً أنطون سعادة. وحققها من ناحية استخدام الشعر شعراء في الغرب قبل خليل حاوي وقبلي: فليست مجهولة دعوة أنطون سعادة شعراء بلاده العودة إلى أساطيرها واستخدامها في كتابه “الصراع الفكري في الأدب السوري”.(1)

غير أن العودة إلى الأسطورة ليست بحد ذاتها أكثر من تفاصيل للحداثة التي تتم الدعوة إليها انطلاقاً من مقولة التجديد. يقول سعادة: بهذا الاتجاه الجديد يمكن أن يترافق الأدب والحياة. فيكون لنا أدب جديد لحياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه التي نجد فيها الفرد والمجتمع وعلاقاتهما ومثلهما العليا كما تراها النظرة الجديدة الأصلية إلى الحياة والكون والفن. إن الأدب الصحيح يجب أن يكون الواسطة المثلى لنقل الفكر والشعور الجديدين، الصادرين عن النظرة الجديدة، إلى إحساس المجموع وإدراكه إلى سمع العالم وبصره فيصير أدباً قومياً وعالمياً لأنه يرفع الأمّة إلى مستوى النظرة الجديدة ويضيء طريقها إليه. ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسيه أصلية في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم”.(2)

إنّ التجديد إذن يقوم على المعاصرة الدائمة بنتيجة ترافق حركة الأدب مع حركة الحياة. هذا التلازم بين الموضوعتين هو تعبير فذ عن الأصالة والحداثة يختصر قضية الصراع بين طرفي مقولتين اعتقد الكثيرون أنهما لا يلتقيان. كما يختصر المسافة أيضاً بين نوعين من الأدب واحد قومي وآخر عالمي. فيرتفع الأول إلى سوية، حين تكون تعبيراً عن شعور الإنسانية وفكرها، تختصر المسافة آنئذ بين العابر والثابت وبين المحدود واللامحدود. وهكذا يتعين المفهوم الجديد للحياة مفهوماً خاصاً بالأمّة وعاماً بالعالم في آن واحد.

أمّا ترافق مقولة الحياة بمقولتي الكون والفن باستمرار فمسألة تعود في فكر سعادة إلى مبدأ الشمولية الذي يعتمده في طروحاته العقائدية. فالاجتزاء في المعطى إنكار للكلية في الوجود. والوجود هو بحد ذاته اكتمال لا نقصان فيه. والأدب هو توق للإفصاح عن هذا الاكتمال والتعبير عنه بطريقة متوازية مع التطور في حركة التاريخ. لذلك فإن اللغة الدقيقة والأسلوب المتميز في أداء المعاني هما جزء لا يتجزّأ من حركة الإحاطة بمفاهيم الدعوة الأساسية.

ولأنّ الحياة هي حياة المجتمع التي يستمد منها الفرد شخصيته فإن وظيفة الفرد الأدبية هي التعبير عنها وفي الوقت ذاته المضي بها إلى المثل التي تتوخّاها الأمّة. ولما كانت هذه المثل دائمة الرقي والتطور فإنّ شكل التعبير عنها يجب ألا يتوقف عند حدّ لأن الحياة بحد ذاتها لا تتوقف عند حد. وهكذا يظهر المنطق الأساسي في التفسير منطقاً دائم التقدم معتمداً على أوليه لا تعتبر الحداثة حدثاً خارجياً بل مضموناً للحياة بذاتها والكون بذاته والفن بذاته أيضاً.

إنّ الكون عند سعادة هو موضوعة في الترقي الإنساني أكثر منه معطى جغرافي في الأرض أم حدثاً في اصطدام المجرّات. الكون هو الوجود للناس في اجتماعهم. لذلك فإنّ الأدب الأمثل هو الذي يصف صيرورتهم. لما كانت هذه الصيروة لا تنتهي فإنّ الأدب الخاص بها فكراً وشعوراً لا يقف عند حد. إنّ سمته الأساسية تتمثّل في تطوره الدائم وتجدّده الأزلي. وكما يطال الأمر الواقع أنه يطال في الوقت عينه الما وراء. إنه إذ يطال الواقع في واقعيته لا يهمل الما قبل والما بعد في الآن ذاته.

أما مسألة الفن المتلازمة باستمرار مع مسألتي الحياة والكون فهي توازي في فكر سعادة طريقة الظهور الإنساني. إنّ الفن بالنسبة إليه ليس ما يظهر منه في الشعر أم الرسم أم الموسيقى فحسب. إنه تمظهر النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة الجديدة لذلك فهو يقع في إطار المثل العليا للأمة. ولما كانت المثل بحد ذاتها نسبية فإنّ الفن بحد ذاته هو أيضاً نسبي لقوانين العصور في تطورها في التاريخ. من هنا يمكن أن يكون فن قديم كما يكون فن جديد ليظهر في السياق الفكري ذاته وسيلة مرتقية باستمرار للتعبير عن الحياة والكون.

من كل ذلك تتبين الحداثة في “الصراع الفكري في الأدب السوري” نتاجاً لاعتماد فلسفة جديدة تؤسس لحياة جديدة تستند إلى الأصول في التراث الروحي للأمة وتعتمد على مواهبها في القدرة على التطور والرقي. ويعبر عن ذلك كله في الكون وفي الوجود فن تترامى أصوله إلى التاريخ القديم ويتقدم باضطراد إلى أحدث التعبيرات عن المستجد في المعطيات.

غير أنه كتاب في النقد، يؤسس ويضيف. وفي الحالتين: التأسيس والإضافة يظهر الاهتمام باللغة كمنطلق وكهدف في الوقت عينه إن الدقة في التعبير هي محط الإبداع ومهبط التحليل الذي يعتمد بشكل أساسي على فلسفة جديدة تنبئ بأدب جديد، تحمله لغة جديدة “وأنّ أنطون سعادة صاحب كفاءة نقدية في مجال الأدب يبرزها كتابه الذي يشير إليه أدونيس – الصراع الفكري في الأدب السوري – وهي نتاج خبرة عميقة في الفنون والأدب والفلسفة والاجتماع والتاريخ واللغة من جهة ونتاج منهج فكري متراص لا يعجز عن الإدلاء بالحجّة الأقوى وهو في صدد تحليل أية ظاهرة وأية مسألة. وسعة اطّلاعه هذه تتبيّن بشكل جلي في تعاطيه مع مسائل أدبية محددة كبحثه مثلاً في التقليد والتجديد أو في دراسته دراسة نقدية لنتاج شاعر أو رسالة أديب”.(3)

إنّ اللغة تحمل المعاني من جهة وتنتج من جهة أخرى مهارات التحليل والإبداع. وحين تكون دقيقة في اللفظة وفي التركيب تصبح محملاً جديداً للفكر. ولما كان هذا الفكر متجدداً فإنها في حالة من التحدي الذي لا يتوقف عند حد من الحدود وصولاً إلى الإبداع اللغوي بحد ذاته. يرى أ.ج غريماس في كتابه “في المعنى” ما يلي: “منذ وقت، نسمع، في بعض الأوساط، كلاماً يتردّد حول نوع من الامبريالية الألسنية. ومع أن الألسنين ليسوا على علاقة بالأمر، تظهر الألسنية وكأنها أحياناً تهديد وتظهر كأنها وعد أحياناً: فبحسب المدارس والأشخاص المعنيين إما أنه يحصل تقدير عال للمقدرات المنهجية في هذا المجال أم يحصل سوء تقدير عال للمقدرات المنهجية في هذا المجال أم يحصل سوء تقدير لظاهرة عابرة”(4). في كلا الحالتين إنّ الخطاب اللغوي يحمل الدلائل. فلا تظهر المقدرة اللغوية الفعلية إلا في صياغتها لمقاصدها حتى تصبحان – اللغة ودلالتها – حالة واحدة إلى درجة لا تقوم فيها اللغة دون قصدها ولا يقوم القصد دون لغته، على هذا المستوى العميق من التواصل بين المعنى والإشارة إليه يمكن الكلام عن امبريالية متساوية في الإبداع. إنّ لغة سعادة هي بحد ذاتها تجديد وهي حداثة، لا تنوجد فقط في الأدب الذي يدعو إليه، بل في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع وفي قراءة التاريخ وفي إظهاره.

أما في الإجابات الأساسية حول المعارف الإنسانية وكيفية تمظهرها عند الأفراد، فإن النص النقدي يتكئ إلى المعطى العقائدي أكثر مما يلجأ إلى فواصل الجسد والفكر. والمعطى العقائدي هذا مستند إلى قواعد فقهية عند الإنسانية عامة. هذه القواعد تنتج، فيما تنتج عنه من تمثلات مترابطة مع أصوات ومعان تنتج المعرفة أو على الأقل الجزئية منها، في علاقة الأصوات  بالمعاني”(5). إنّ هذه الشبكة المتصلة من الأصوات إلى المعاني مترابطة عند سعادة في بنية عميقة تحدث وقعاً مستمراً يصل بثبات إلى الذاكرة ليصبح النص عنده أكثر من موضوعة معرفية، يصبح خطاباً متكاملاً يساهم في نقد الأدب ويعبّر في الوقت ذاته عن أدب جديد. إنّ النقد هنا هو فن من فنون الأدب. لذلك فإنه خارج إطار التقليد والكلاسيكية في موقع مغاير لما سبق من طرائق نقدية. وهو صاحب مطلب معرفي في الفن والأدب والشعر. وهذا المطلب يتأسس على الفلسفة التي هي في آن للغة والحياة.

إن النقد الحديث عند سعادة يتأسّس إذن على التاريخ وعلى الفلسفة باتجاه صناعة تاريخ جديد وفلسفة جديدة: “مما سبق إيراده يتبين بوضوح مطلب سعادة بإرساء النقد على أسس تاريخية وفلسفية تكون ضمانة ضد الاستبداد بالرأي الفردي الذي لا قاعدة موضوعية له وضمانة للحقائق المقررة بالتالي”(6). إنّ هذه الأسس إذ تصون الأصالة باعتمادها على التاريخ تترك الباب مفتوحاً أمام إنتاج فلسفة جديدة للحياة والكون والفن. ذلك لأنّ المطلب الأساسي للوجود هو هذه الحياة الجديدة التي يعبّر الفن عنها ويصوغها باضطراد صياغات حديثة مرتبطة بالعصر وحاجاته ومقاصده. حتى الأساطير القديمة التي تتم الدعوة لاعتمادها في الأدب والشعر لا بد وأنها بحسب منطق الصراع الفكري من ارتداء حلّة جديدة متوافقة مع رؤية من العصر للعصور الخوالي. ذلك لأن “الأسطورة – كما يقول رولاند بارت هي لغة”(7). ويضيف: “بعد الكشف داخل عدد من الحوادث الراهنة حاولت أن أحدّد بشكل منهجي الأسطورة المعاصرة”(8). إنّ هذا الكلام يزيل الالتباس حول مسألة الأسطورة. فهي ليست عودة للتاريخ أم لحدث منه بقدر ما هي قراءة له بشكل حديث أم نظرة فلسفية معاصرة لنظرة فلسفية قديمة. إنّ دعوة سعادة للعودة إلى الأساطير بقدر ما هي استنباط لروح الأمة إنها إطلاق لهذه الروح باتجاه مستقبل الأمّة ومآلها. لذلك فإنّ النقد عند هذا المستوى إنما يدخل في عالم جديد في إطار مقولتي التراث والحداثة والمسألتان جزء من الثقافة التي ليست اتباعاً بل موقف ناجم عن استقلال الرأي تجاه المعطيات.

في كل ذلك ترسو القاعدة على مفهوم التطور في التاريخ والصيرورة في الفلسفة.

فالقديم يعادل التوقف والجديد يوازي الحركة. ولما كان النهج بالأساس يقوم على مبدأ التطور والحركة فإنه يمكن الاستنتاج بأن الأدب الذي يدعو إليه سعادة كما النقد هو أدب جديد ونقد جديد.

إنّ الصراع الفكري في الأدب السوري هو كتاب يؤصّل الحداثة بربطها بقوانين الحياة بما هي استمرار. إنه كتاب الحداثة بما هي تجديد مستمر للحياة. ولأنّ “اللغة معطاة في الوقت ذاته مع المجتمع فإن كلاً من المفهومين: اللغة والمجتمع يفترضان الواحد الآخر. لذلك فإنه لا بد من دراستهما الواحد مع الآخر واكتشافهما معاً لأنهما قد ولدا معاً”(9). إنّ كلام بنفنيست هذا يأتي داخل النسق الذي عمل ضمنه سعادة. فلإن اللغات تماماً كما المجتمعات تحيا وتموت فإن قانون السياق هذا هو ذاته قانون الحياة تبقى إذا تقدمت وتموت إن توقفت.

داخل هذه الجدلية يتم النظر الأدبي إلى العلاقة الوثيقة بين أطراف الوقت فيحصل التأسيس على التراث المتواجد داخل اللغة ويحصل التحديث بواسطة هذه اللغة انطلاقاً من النظرة الفلسفية الجديدة. وهذه النظرة ليست أحادية البعد. إنها تمسك بعلاقات الخاص بالعام، بما هو ذاتي متّصل بالمجتمع وبما هو عام متّصل بالإنساني. فينتج عن كل ذلك تخط دائم إلى اتجاهات يفترضها التأويل الأدبي. “إنّ فن التأويل لا يظهر بوضوح إلا في أعمال عميقة المعاني”. بحسب ما يرى فريدريك شليفل عن كتاب تودورون “الرمزية والتفسير”(10). على هذا المستوى يتم الخلق ويحصل الإبداع. فيرتفع النص العادي إلى النص اللا اعتيادي بواسطة الانتقال من المعنى المباشر إلى المعنى اللا مباشر في صيغ غير الصيغ المتداولة وفي نظرة متآلفة مع رؤى جديدة ومع أشكال للحياة جديدة.

صحيح أنّ مجمل السياق هذا إنما هو سياق عقائدي. غير أنه بشكل قاطع غير دوغمائي. بل على العكس من ذلك إنه إطلاق فكري لحركة الحداثة بمفهومها الذي لا يتوقف التجديد فيه عند حدود. ذلك لأنّ التأصيل بحد ذاته هو محمل للحداثة والحداثة مكان لا حدود له في الوقت.

——————————————————-

مراجع وإشارات:

  1. مقالات في المنهج للدكتور مروان فارس عن مجلة لأدونيس – أيلول 1957.
  2. الصراع الفكري في الأدب السوري – أنطون سعادة – منشورات عمدة الثقافة – بيروت.
  3. مقالات في المنهج: الدكتور مروان فارس – بيروت – منشورات مجلة فكر 1980، ص 141.
  4. J. Greimas: Du sens. Ed. du seuil-Paris 1970-4-4
  5. No am Chomoky – Regles et Representations – Flammarion – Paris 1980.
  6. مقالات في المنهج: الدكتور مروان فارس – منشورات مجلة فكر بيروت 1980.

7-8 Roland Borthes: Mythologies – Edittions du Seuil – Paris 1970.

9- Benveniste: Probleme de linguistique generale 2- gallimard – Paris – 1974.

10- Tzetan Todorov: Symolisme et Interpretation – Editions du seuil – Paris 1978.

——————————————————————

الحلقة القادمة: راهنية سعادة الدائمة. محمد جمال باروت.

للاطلاع على الحلقة الأولى: sergil.net

للاطلاع على الحلقة الثانيّة: sergil.net

للاطلاع على الحلقة الثالثة: sergil.net

د. مروان فارس

دكتوراه في علم الألسنية، محاضر في الجامعات اللبنانية، له مؤلفات متعددة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق