بعد قرائتي سعادة، وجدت أننا بحاجة باستمرار إلى أن نعيد النظر في قراءة تراثنا القديم والحديث.
فهذا الناظر الذي أُبعد من النور إلى الظلام، من واجبنا الآن أن نعيد النظر فيه وأن نقرأه قراءة جديدة في ضوء إمكاناتنا المتاحة لنا.
سأقرأ كتاب سعادة قراءة فيما يتفق مع رؤيتي ومنهجي وقراءتي الحداثية. سأتحدث فقط عن الظواهر الحداثية التي تطرح الآن على الساحة الفكرية والأدبية والنقدية، وكيف كان أنطون سعادة في هذا الكتاب رائداً وسبّاقاً.
الحداثة كما تعرفون مصطلح إشكالي وحيادي، تتعدّد فيه وجهات النظر ما بين زمانية ومكانية تاريخية وجغرافية… إلخ.
ولكن نستطيع أن نجد في هذه الحداثة قواسم مشتركة تجمع بين المتخالفات.
أول قاسم من قواسمها:
- أن الحداثة تعني التغيّر، تعني التحوّل، تعني التقدّم. تعني الانعطاف. ولا توجد حداثة من دون انعطاف، من دون تغيّر، من دون تحوّل، مهما فسّرناها.
- الأمر الثاني: أنّ الحداثة كلٌّ متكامل، لا يمكن أن نقرأ الحداثة في حيّز اجتماعي ونهملها في حيّز آخر.
ولا أتصور أن المجتمع يستطيع أن يكون حداثياً في الأدب أو في التكنولوجيا ومتخلفاً في الفكر والفلسفة والتصور.
صحيح أننا قد نقول أن الشعر العربي الحديث في صورته الراهنة هو حداثي في مجتمع متخلّف. لكن هل نستطيع أنّ نقول أن بعض الدول الخليجية حداثية لأنها حصلت على مدن ألكترونية أو صناعية، وهي ما تزال متخلّفة في كل شيء؟
أيضاً من الأمور الحداثية التي يشترك فيها جميع الحداثين أنّ الحداثة غايتها الإنسان.
الحداثة كنظرية لا قيمة لها، إذا لم تخدم أولاً وأخيراً هذا الإنسان، وإذا لم يكن الفرد / المجموع / الإنسان النوع هو غاية الحداثة فلا قيمة للحداثة ولا قيمة لأية نظرية أخرى لا تخدم هذا الإنسان.
أيضاً، أريد أن أقف عند نقطة قد نختلف فيها أو نتفق… هل الحداثة واحدة أم حداثات؟
أنا مع أولئك الذين يعتقدون بتعددية المجتمعات، وبذلك أورد بأن الحداثة حداثات حتى لا نربط مصيرنا ومجتمعنا بالتبعية الغربية. لا يمكن أن نقبل أن تكون الحداثة الغربية هي نقطة الانطلاق، وبالتالي المركزية الغربية هي نقطة الانطلاق. ومن هنا أؤمن بتعددية المجتمعات وأؤمن بتعددية طرائق الوصول إلى الظواهر المشتركة، إلى الحداثات وفق شروط كل مجتمع، وبذاته وزمانه ومكانه.
وإذا انتقلنا الآن بعد هذا الحديث عن الحداثة إلى كتاب أنطون سعادة، علينا أولاً أن نضع الكتاب في تاريخه حتى نعرف قيمته ومبلغ ما طرح فيه من رؤى حداثية.
صدر الكتاب كمقالات في أوائل الأربعينات، وهو من كتابات المرحلة الثالثة من فكر أنطون سعادة.
هذه المرحلة في الميدان النقدي والأدبي هي مرحلة إنعطاف وتحوّل من الرومانسية إلى المرحلة الواقعية على مستوى العالم العربي أو مستوى الوطن السوري هنا.
في الثلاثينات كانت اندفاعاتنا إلى الرومانسية بكل كآبتها وتشاؤمها، بكل عويلها وشحوبها. فجاء رد الفعل مع نهاية الرومانسية برفض هذا البكائيات والتعويل على الواقع.
لقد حاول الكتّاب جميعاً والنقّاد جميعاً في تلك الفترة أن يزيلوا الرومانسية سعياً إلى التمسك بواقعية مبينة واضحة في سورية في منتصف الثلاثينات، وهكذا تأسّس المجتمع اللبناني أو الشامي في تلك المرحلة.
إذاً، عندما وضع أنطون سعادة كتابه، كان يرى أمامه نصوصاً رومانسية ونقّاداً رومانسيين يشيدون بأحلام رومانسية، فأدان الجميع.
كيف أدان الجميع؟
كل ناقدٍ، كاتبٍ، باحثٍ لكي يتجاوز ما هو مطروح لا بد أن يقدم أمرين متصلين معاً:
- الأمر الأول هو الرؤيا.
- الأمر الثاني هو الطريقة.
من دون رؤيا لا يمكن أن يتجاوز الكاتب لا عصره ولا نفسه ولا أن يستشرف آفاق المستقبل.
وكذلك من دون منهجية أو طريقة لا نستطيع أن نقول أن هذا الكاتب / الناقد / الدارس متميّز.
فما هي الرؤى التي قدمها أنطون سعادة في كتابه؟
إن موضوع كتابه أو المحور الأساسي فيه هو موضوع التجديد. وهو موضوع الحداثة، ما دمنا قد ربطنا منذ البداية الحداثة كمصطلح بالتجديد. فالحداثة في الوقت الحاضر تتجاوز التجديد وأشياء كثيرة. في عصره كانت الحداثة تعني في أحد معانيها هذا التجديد، تجديد الأدب. ولكن كيف يمكن تجديد الأدب؟
لا نستطيع أن نجدد أيّ أدب في أيّ عصر إلاّ إذا نظرنا إليه من ثلاث زوايا:
- الزاوية الأولى: الزاوية التاريخية، أي أنّ توضع الظاهرة الأدبية ضمن سياق التاريخ، لا خارجه.
ومن هنا يبتدئ الخلاف الكبير بين الرؤية التقدمية والرؤية السالفة. تضع رؤى الرجعية أو السلفية طروحاتها فوق حركة التاريخ، فجاء سعادة ليطرح الظاهرة الأدبية ضمن حركة التاريخ لا خارجه.
- الزاوية الثانية: أنه طرح الظاهرة الأدبية والنقدية بشبكة علاقاتها الاجتماعية المؤسسة لها، الأمور السياسية والاقتصادية وشبكة العلاقات الاجتماعية على امتدادها وخاصة المعرفية.
- الزاوية الثالثة: وهو أنه ربط الظاهرة الأدبية بالقضية الفلسفية أي القضية المعرفية. وهذه القضية جوهرية ولم يتنبّه إليها الكثرة من الدارسين.
وأحكي لكم حكايتي مع هذه الزاوية: كان كل الذين يقتربون من دراسة الشعر حتى عهد قريب ومن دراسة الأدب يربطون التقنية بنظرية الشعر فقط.
وهذا ما فعلته أنا في أطروحتي لدرجة الماجستير “التطور الفني لشكل القصة القصيرة” ولكن بعد أن اطّلعت على سعادة في هذا الكتاب في مرحلة ما بين الماجستير والدكتوراه شدّني طرحه بربط النظرية الأدبية بالنظرية الفلسفية، أي المعرفية، فكانت أطروحتي لدرجة الدكتوراه عن تطور الصورة الفنية قائمة أساساً على ربط النظرية الشعرية بالنظرية الفلسفية أو المعرفية لكل عصر. وتعرفون أنّ لكل عصر نظرية خاصة في المعرفة. وتحقق الكثير مما حلمت به عندما فعلت ذلك. وكان أنطون سعادة في كتابه من جملة قراءاتي الكثيرة التي تأثرت بها وحوّلت منهجي في الدراسة.
هنا، يعترضني سؤال، هل كان سعادة مثالياً في هذا الطرح أم كان مادّياً؟
أنتم تعرفون أنّ هذه الإشكالية قائمة في الفكر الماركسي ليس عن أسبقية المادة للفكر بل عن ارتباط الفكر بحركة المادة. وكانت فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات هي الفترة الستالينية الطاغية في سيطرة البنية التحتية على البنية الفوقية، أو سيطرة المادة على الفكر. فجاء سعادة في هذا الكتاب ليطلعنا على شيء مختلف رجعت إليه الماركسية ذاتها في الخمسينات والستينات عندما قال: أنّ الفكر صدى لحركة الواقع لكنه يعود ليؤثر في حركة الواقع. من هنا ربط البنية التحتية بالبنية الفوقية وأعتقد أن سعادة كان واضحاً عندما قال: أنّ التفاعل قائم بين الفكر وبين حركة الواقع، وإلا ما جدوى الفكر إذا كنّا سننتظر حركة الواقع حتى تصحح لنا فكرنا؟!
لا بد أن يسير هذان الخطان معاً، الفكر يقود الواقع، والواقع يؤثر في تطور الفكر على حد سواء.
فإذا كانت عقابيل هذه الأمور / الرؤيا فيما يتعلق بالصيرورة؟ هو الزمان المستقبلي، لأنّ سعادة ينتقل في رؤيته في الزمان من المستقبل وليس من الماضي.
وهذا أيضاً موضوع طريف أحدّثكم عنه سريعاً وهو من جملة ما تأثّرت به بفكر سعادة، أنّ كل الدارسين يقدمون لنا زمناً يبدأ من الماضي، وجاء فكر سعادة فيما قرأته أنا يدلّني على الشق الآخر، بما أنه كان يتحدث عن التحوّل، فزمن الاستقبال هو زماننا الذي نطمح إليه، ومن هنا أقول أن الزمان يجب أن يبدأ من المستقبل ليرتد إلى الماضي.
هذا الموضوع عام في قراءة التراث، وهناك فرق جوهري بين القراءة التقليدية والقراءة الحداثية.
إنّ التقليديين يردّون الشاهد إلى الغائب والحداثيون يقرأون الماضي في دور الحاضر أي يشدون الماضي إلى الحاضر ويضعونه في قراءة معاصرة. في حين أنّ الآخرين يشدون الحاضر إلى الماضي وهم بذلك يثبتونه ويحجرونه تحجيراً كبيراً.
في دمجي هذه الأمور على اختلافها، رأيت أنّ سعادة يتحدث بصورة واضحة عن الأنا، النوع. لا يتحدث عن “أنا” الشخص ولا يتحدث عن الجماعة فقط. وإنما هذه هي المعادلة التي كانت حاصلة: / جمع الأنا لها / الفرد مع النحن فبرز لديه “الأنا النوع” وهو النوع الذي يستمر مع ولادة الإنسان ومع تغيّر الأجيال. الأنا الفرد، أنا أموت، لكن لا بد أن ينتقل عملي من جيل إلى جيل، ومن هنا تستمر الشعلة محملة على الأكف…
كانت نتيجة هذه الرؤى أنّ القضايا التي يجب أن يعبر عنها الأدب والفكر، قضايا الأدب الكبرى قضايا مصيرية: / الكون / الإنسان دون أن ندخل في التفاصيل الكثيرة.
وكان من نتيجة ذلك فيما يسمى من مصطلح في الوقت الحاضر (القضية المعرفية) فما دام قد ربط الأدب بالفكر، وربط الفكر بالنظرية الفلسفية. فأنتم تعرفون أنّ كل عصر له مفهوماته وله جهازه المعرفي وبالتالي لا بد أن تقوم قطيعة معرفية منهجية على الأقل بيننا وبين العهود السابقة.
حين نأتي إلى الطريقة، يلفت النظر في منهجية أنطون سعادة وهو أمر ثالث تأثرت به وبغيره في زمن الثانويات المتعارضة. لا يوجد شرق ولا يوجد غرب، لا يوجد جسد مادة ولا يوجد روح، وإنما طرح مصطلحاً جديداً استخدم بعد ذلك واستخدمته أنا كما استخدمه سواي هو “المدرحية” أي الجمع بين المادة وبين الروح شريطة أن نفسّر الروح تفسيراً أخلاقياً ومادياً وليس تفسيراً غيبياً.
وهذه القضية جوهرية فيما يتعلّق بالانعطافات الفلسفية. الفكر الثانوي هو فكر سجالي، فكر تعارضي. إمّا أنا أو الآخر. أما الفكر التداولي، الفكر التعددي، الفكر الذي يرفض الثانويات فهو فكر يحاور ذاته ويحاور الذات يقبل ذاته ويقبل الآخر.
أيضاً، فيما يتعلّق بالمنهج يمكن أن نتحدث عن قضية جوهرية هي المحلية والعالمية.
في ضوء المحلية والعالمية رفض سعادة كل الرفض اجترار التراث. وتقليد التراث وإعادة إنتاجه. ورفض التبعية إلى الفكر الغربي وإلى الأدب الغربي. وآمن بعبقرية المكان وأنّ الأديب الحق، هو من صاغ رؤيته للمستقبل إنطلاقاً من واقعه.
وأدان جميع الرومانسيين، لأنهم حين يتحدثون عن الصدق والعصر، يقصدون صدقاً غربياً وعصراً آخر هو العصر الغربي، ودعا إلى التمسك ببيئتنا وانطلاقتنا من هذه البيئة، من هذا المكان، من عبقرية المكان، حتى نكون نحن ولا نكون سوانا.
أيضاً من القضايا الحداثية التي طرحها ويتناولها النقد في الوقت الحضار كلية الصدور وكلية التلّقي.
إنّ الأدب لا ينبثق عن الشعور وحده وإنما ينبثق عن كلية النفس الإنسانية، عن الشعور وعن الفكر أي عن كلية الإنسان. وبالتالي فعلينا نحن كمتلقّين نقّاداً وغير نقّاد أن نتلقّاه بهذه الكلية. من هنا يقرأ الناس الحداثة قراءة متغيرة، بعضهم يقرأها تراثياً، بعضهم يقرأها حداثياً، بعضهم يقرأها بمعايير أكل الدهر عليها وشرب ونام. لا بد أن نقرأ الشعر وفق معايير خاصة به ويجب أن نطور هذه المعايير.
هذه لمحة، عبّرت عنها بقراءة بانورامية لفكر سعادة كما بدا في (الصراع الفكري في الأدب السوري)، عن كل القضايا الحداثية المطروحة في الوقت الحاضر.
———————————————————–
للإطلاع على الحلقة الأولى: sergil.net
الحلقة القادمة: القول الملتزم وإنشاء الحياة. الدكتور عصام نور الدين.