بداية، عند الحديث عن مشوار سعادة الحضاري لا بدَّ من التأكيد أن عظيماً كأنطون سعادة من الصعب جداً أن يُختصر ببضع كلمات. فهو إلى جانب عبقريته الذاتية، هو قيمة وعنوان: مالك ومدرك لظاهرات العصر وعالم متعمق في كيفية نشوء الأمم. فاهم للماركسية والرأسمالية ومستوعب للفلسفتين التقليديتين المادية والمثالية ومتجاوز لهما.
قدم ديمقراطيته التعبيرية ” الفكر الجديد “ وفلسفته المدرحية جامعاً للمذاهب الإنسانية المتنافرة وراسماً طريق خلاص للإنسانية. وهو إلى جانب ذلك زعيم وقائد ومفكر وفيلسوف ومؤسس لحزب غير عادي وباعث نهضة قومية اجتماعية تحررية.
فأنطون سعادة هو من المفكرين الاجتماعيين الأكثر تأكيداً على المنهجية الإنشائية النهضوية. فنظرته العامة للحياة والكون والفن ومشروعه النهضوي متميزان بمنهجية قومية نهضوية تجديدية. غرضه وغايته خلق الوعي القومي وبعث نهضة الأمة السورية وصناعة مستقبلها وخلق المجتمع السوري الجديد.
جاء أنطون سعادة ليجد نفسه أمام مجتمع مريض ممزق يضج بمفاسد الرجعة والكثير من التحديات إلى جانب هيمنة استعمارية تامة وغزو وحصار مفروضين على مجتمعه، وعديد من المخططات والمشاريع المرسومة والمعدة لطمس هويتنا الحضارية واستلابها وإلغائها ومحاولات مستمرة تمارس وتنفذ لاقتلاعنا من الجذور.
آلمه ما تعانيه أمته من ويلات وآلمته معركة الإلغاء هذه، وزاد في ألمه ما رآه من انحدار وعجز واستكانة في مجتمعه وغياب لمفاهيم الوطنية والقومية ومشاعر الأمل والطموح والفقدان التام لأي نزوع أو مبادرة أو محاولة للتغيير والتقدم. ولسوء وقسوة ما رآه وما عاناه انتفض صارخا ” ما الذي جلب على شعبي هذا الويل “؟ مؤكدا أن لا مجال للسكوت والاستكانة بعد الآن ولا بد من مباشرة العمل لتغيير هذا الوقع المر.
وقف بإصرار أمام هذه الويلات والتحديات مناهضا ومتنكباً بعث نهضة أمته السورية مصراً على إخراجها من ويلاتها وتحرير قواها من معطلات نموها، مقرراً خوض معركة الخلاص وقيادة النضال والمضي بها إلى أقصى أبعادها، جاعلاً أولى أولوياته ” توليد نهضة الأمة السورية وشق طريق الحياة لها ووضع القواعد الاجتماعية والاقتصادية لإيجاد حياة أفضل للمجتمع السوري ” منطلقا من مبدئين أساسيين قاعدة وأساساً لمشروعه النهضوي الارتقائي:
1 – الوعي العميق والإدراك التام للشخصية القومية واكتشافها وإظهارها كحقيقة موضوعية كلية تامة ” هوية حقيقية “, إيماناً منه أن لا نهوض قومي بدون هوية حقيقية وأن السبيل الوحيد والأكيد لقيام النهضة وانتصارها وتحقيق رسالتها وتطلعاتها النهضوية هو الوعي العميق والمعرفة التامة والإدراك الكامل لهذه الهوية.
من أهم المسلمات لدى أنطون سعادة أن تغير الأمم ونهوضها وانتقالها من حال إلى حال كان دائماً وما يزال نتاج فعل وفاعلية الهويات القومية الحقيقية الواضحة المتميزة بنظرتها للحياة والغنية بعقائدها الفكرية والروحية والمناقبية. وعلى هذا فهو يؤكد أن ” لا إنقاذ للأمة السورية من أخطارها بغير حركة قومية كلية ومبادئ اجتماعية تؤسس لحياة جديدة وتطلق قوى الأمة في تيار عظيم نحو مصير مجيد “. وبالتالي فهو يرى أن لا نهضة حقيقية بدون هوية حقيقة. وحقيقية أية هوية في تنكبها لرسالتها الحضارية وقيامها بدورها المناط بها والانخراط الفعلي في عمل نهضوي حقيقي يرتقي بالأمة ويسمو بها. ذلك لأن الأمة لديه هي قيمة القيم ومصلحة انتصارها هي أول أهدافه. فأي جهد أو فعل لا توجهه مصالح الأمة الحياتية في النهوض والارتقاء لا معنى ولا قيمة له.
2– المبدأ القومي الذي يعتبره القاعدة المتينة والأكيدة لكل عمل نهضوي, فبدون تأسيس فكرة الأمة وتعيينها وتحديدها تحديداً دقيقاٍ وإظهارها ” كهوية حقيقية واضحة ومدركة جيداً” لا نهوض ولا تقدم.
من هنا كان أول شرط من شروط انطلاقته النهضوية: تجذير الوعي القومي والكشف عن حقيقة الأمة السورية ” وعي الهوية “وعياٍ تاماٍ وإظهارها كحقيقة كلية موضوعية “ ذات تامة ” لها تاريخها ورسالتها وصيرورتها الخاصة وخصائصها المميزة عن غيرها من الأمم.
قناعة منه أنه عند اكتمال الوعي والمعرفة التامة للهوية تندفع هذه الهوية لتباشر القيام بدورها المناط بها وتأدية رسالتها التاريخية ملتزمة بنتائج الوعي والمعرفة. ويتجلى هذا الالتزام في ” توليد نهضة الأمة السورية وشق طريق الحياة لها ووضع القواعد الاجتماعية والاقتصادية لإيجاد حياة أفضل للمجتمع السوري “.
إن تعيين سعادة لأمته السورية ” هويتنا القومية ” تعييناً دقيقاً مضبوطاً بالمعرفة ووسائلها وبالعلوم المتقدمة وإظهارها كحقيقة كلية موضوعية وإجابته على سؤاله التاريخي ” من نحن “؟ هو بداية أعماله النهضوية وحجر الأساس الأولى في بنائه القومي.
ومن نواميس الحياة التي يدركها سعادة جيداً أن النهضات العظيمة هي نتاج عقائد عظيمة. لذا بوعي وبقصدية تامة وضع عقيدته القومية الاجتماعية بشقيها (الأساسي والاصلاحي) لتكون القاعدة والأساس الصلب لعمارته النهضوية واستجابة حقيقية لحاجات المجتمع السوري وتطلعاته.
وعلى هذا أنشأ الحزب السوري القوي الاجتماعي تجسيداً حقيقياٍ للعقيدة القومية الاجتماعية ” فكراً ونظاماً وقيماً “ وحماية للنهضة وقيادتها إلى النصر والترقي. بحيث تمثل المبادئ الأساسية ” وجود الأمة “ الواقعي الموضوعي الفاعل، وتمثل المبادئ الإصلاحية الالتزام التام في ” التعبير عن فاعلية الذات وإنجازاتها النهضوية “.
وهنا لا بدَّ من التنويه أنَّ سعادة في تأسيسه للحزب السوري القومي الاجتماعي إنما انطلق من كونه باعث نهضة قومية اجتماعية قبل أن يكون مؤسساً لحزب سياسي. فهو لم يقصد على الاطلاق تأسيس حزب سياسي عادي، بل أسس حزباً غير عادي وأراده نهضة أخلاق ومناقب وجعله حركة قومية تجديدية مصارعة تقوم على أسس عقائدية وفلسفية جديدة وعميقة.
وعلى هذا يؤكد سعادة أن لا نهوض لأمتنا السورية ولا خروج لها من ويلاتها ولا كسب للصراع الدائر بين الحياة الجديدة والحياة الجامدة إلّا بالفهم العميق للعقيدة القومية الاجتماعية واتخاذها البوصلة الهادية والمرشدة، وترجمة تعاليمها ومبادئها ترجمة أمينة إلى مناهج عملية تحكم أعمالنا وكل جهودنا.
فنهضوية الحركة القومية الاجتماعية لا تكمن فقط في وعي الهوية وكشفها وإظهار شخصية الأمة السورية وإيقاظ الوجدان القومي وتشكيلها نظاماً فكرياً على أسس علمية واقعية، بل أيضاً في التزامها بنتائج الوعي والمعرفة وانخراطها كفاعلية نهضوية ” كفكرة وحركة تتناولان حياة الأمة بأسرها وأساسها وفي جميع وجوهها وجميع قضايا المجتمع القومي (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الأخرى) “.
إن من يقرأ سعادة قراءة صحيحة يجد أن هم البعث والارتقاء القوميين الساكنين فكره وعقله دفعا به لرسم مشروعه النهضوي التغييري بكل دقة ووضوح وتحديده:
في تجذير الوعي القومي و ” توليد نهضة الأمة السورية وشق طريق الحياة لها ووضع القواعد الاجتماعية والاقتصادية لإيجاد حياة أفضل للمجتمع السوري “.
وبتدقيق بسيط نرى أن مشروع سعادة النهضوي يقوم على أساسين واضحين متميزين:
الأول: يتميز بغنى معرفي: يتجلى في اكتشافه للهوية القومية ووعيها ومعرفتها معرفة دقيقة تامة، ونقلها من وجود بالقوة سكوني إلى وجود فعلي فاعل وإظهارها كحقيقة كلية موضوعية تامة فاعلة ” وهذا يتمثل بالمبادئ الأساسية “.
الثاني: يتميز بغنى أخلاقي نهضوي يتجلى ” بعد اكتمال وعي الذات ” بالتزام الهوية التام بنتائج الوعي والمعرفة ومباشرة تحقيق رسالتها والقيام بدورها النهضوي التاريخي المناط بها: خلقاً وترقية للمجتمع السوري الجديد، وبعثاً لنهضة الأمة السورية وإعادة الحيوية والقوة لها. ” وهذا يتمثل بالمبادئ الإصلاحية “.
باختصار لقد تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932 / / في مرحلة تاريخية صعبة ومعقدة ارتبطت بكم هائل من التحديات:
- تفسخ روحي داخلي وتضعضع قومي وعجز واستكانة وغياب للمفاهيم الوطنية والقومية.
- تفشي مفاسد الرجعة وانتشارها في كامل البلاد.
- هيمنة استعمارية تامة وغزو وحصار على مقدرات أمتنا ومحاولات طمس هويتنا.
في هذا الواقع المريض المعقد المليء بالمفاسد والتحديات كان ظهور تعاليم النهضة القومية الاجتماعية، فشكل هذا الظهور حادثاً خطيراً جداٍ. فالحزب ” بعقيدته ونظامه وفلسفته وغايته ومنهجه الحاسم غير المهادن ” شكل مشروعاً مناقضاً لمصالح العديد من الجهات، إذ لأول مرة في تاريخ الأمة السورية ” تظهر قضية الفكر الفلسفي وتوضع أمام العقل السوري قضايا الحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضيا الحياة العملية “:
- فهو الحزب الوحيد الذي قال بالحقيقة السورية ودعا إلى التحرر من الإرادات الأجنبية والوقوف ضد المطامع الاستعمارية.
- وهو أول من وعى واستوعب جيداٍ البعد القومي للمسألة الفلسطينية واستشرف خطر وخطورة الحركة الصهيونية والخطر التركي على أمتنا.
- وهو الوحيد الذي أكد أن السبيل الوحيد للتعامل مع الصهيونية اعتماد مبدأ القوة ” الكفاح المسلح “ جاعلاً من نفسه الخطة النظامية المناقضة لمواجهة وسحق تلك الدولة المصطنعة.
- وهو الوحيد الذي خاطب العالم بلغة قومية واضحة وطالب بضرورة احترام سيادة الأمة السورية.
- وهو الوحيد الذي أعلى الصوت في زمن السكوت في وجه القوى الاستعمارية المهيمنة قائلا ” ليس لجمعية الأمم المتحدة أن تفرض على الأمة السورية مقررات تنزع سيادة الأمة السورية عن وطنها في أرضها “ فهذه الجمعية ” لا تملك حق تقرير مصير الأمة السورية ولا تقرير جزئها الجنوبي فلسطين”.
- وهو الوحيد الذي قام على قواعد فكرية وفلسفية عميقة تتناول المسائل الأساسية الكبرى في حياة الأمة السورية.
- وهو الوحيد الذي أعلن للعالم الأساس المادي – الروحي للحياة الإنسانية. فبفلسفته المدرحية ورؤيتها الواقعية لحقيقة الحياة، أخرج البشرية من أزمتها التي تعتبر فيها العالم عبارة عن حرب مهلكة بين القوة المادية والقوة الروحية.
- وهو الوحيد الذي قال: ” إن المبادئ للشعوب وليست الشعوب للمبادئ “.
- وهو الوحيد الذي قال: ” لا قيمة للفكر في ذاته فقيمته في توظيفاته الحياتية وفي خدمته وترقيته للمجتمع“.
- وهو الوحيد الذي قال: ” أن النهوض القومي غير ممكن بدون تأسيس فكرة الأمة وتجذير العقلية الأخلاقية الجديدة “.
- وهو الوحيد الذي قدم فهما وقراءة متميزة جديدة للدين ونبه من خطر وخطورة العصبية الدينية وتشويهها للعصبية القومية ووقوفها عقبة أمام الاستقلال.
قرأ الأعداء هذا الحزب وفهموه جيداً ورأوا فيه قوة جديدة نامية فاعلة وخطراً كبيراً على مصالحهم. ورأوا أن حزباً كهذا يجب ألا يبقى ومن الضروري إزالته من الوجود. لذا كان القرار بالقضاء عليه وعلى مؤسسه، فرسموا السيناريوهات ووزعوا الأدوار وباشروا بالتنفيذ.
هكذا فُرضت المعركة على الحزب وفُرض على سعادة خوض حرب طويلة صعبة ضد هذا التنوع العديد من الأعداء.
وقف سعادة بكل الجدية والمسؤولية أمام هذه التحديات وأمام واقع أمته الصعب وواقع حزبه المؤلم فرأى أنه التزاماً بموجبات عقيدته وكونه قائداً وصاحب رسالة نهضوية قرر بكل الكبر دخول هذه الحرب والمضي بها إلى أقصى أبعادها ممتطياً دمه مجذراً أرقى ملاحم البطولة ومحققاً بوقفة العز أهم موجبات كبر وعظمة عقيدته.
أراد استشهاداً طوعياً بطمأنينة قصوى فكانت وقفة العز ابتكاراً رائعاً للموت وحدثاً قيادياً فريداً والتزاماً لابدَّ منه استكمالاً لموجبات القضية وتأكيداً لمصداقيتها.
دخلها كبيراً عظيماً كبر وعظمة القضية التي أوجدها وغادرها كبيراً عظيماً بحجم كبر وعظمة موجباتها. مضيفاً إلى تاريخ أمته وتاريخ نهضته أرقى المعاني الامتيازية. محققاً في درسه الأخير الأبلغ مبدأين أساسيين هامين:
- تجذير ” التكامل الصميمي بين الفكر والممارسة “.
- تثبيت وترسيخ المبدأ الأخلاقي الأرقى، أن عظمة الانسان وكبره إنما هي في استشهاده من أجل فكره وعقيدته.
وهكذا كان أنطون سعادة عظيماً كبيراً في حضوره وعظيماً كبيراً في غيابه.