عنوان هذه الورقة(*) يشي بمضمونها. ومضمونها لا يخرج عن طوق اتفاق الطائف وما نشأ عنه، مروراً بالحدث الذي جمع فريق 8 آذار، ومن ثم 14 آذار، والفرز السياسي الذي نشأ عنهما، ومن طمح في الدخول إلى هذا أو ذاك، ومن بقي مستقلاً لضعف فيه لا لتعفّف منه؛ وباتفاق بالدوحة، وصولاً إلى تفاهم مار مخايل وما تمخّض عنه من اصطفافات سياسية وطائفية وضع اللبنانيين على طرفي نقيض كما 8 و14 آذار بعد اغتيال الحريري.
-1-
ما حصل ويحصل، وما سيحصل لا يخرج عن الطوق الذي وجد لبنان نفسه فيه، منذ إعلانه كبيراً من قرن مضى، وقد ورثه منذ منتصف القرن التاسع عشر، إثر نظام الملل والنحل العثماني الذي نظر إلى المذاهب الدينية المغايرة لسنّة الخلافة على أنها أقليات على صعيدَي المذاهب والاتنيات، وتدار من قبل رؤسائها الدينيين والقبليين في علاقتهم مع مركز الخلافة، الباب العالي أو السلطان العثماني مباشرة.
بقي لبنان على هذا المنوال بعد رحيل السلطنة، ومجيء الانتداب بعد سايكس بيكو، وما تلاها. ورسا على نظام ثابت، وتوجُّه واضح من قبل دولة صارمة في علمانّيتها، نظرت إلى لبنان الجديد باعتباره مجموعة من الطوائف والمقاطعات المتفاوتة في أولوياتها، وفي قربها من المركز. يقودها سياسيون ومقاطعجيون نقلوا وسائل عملهم من نظام اقتصادي اجتماعي يقوم على الملكية والتجارة وتوارث السلطة، إلى زعماء على طوائفهم يمثلونها في سياسة الحكم الجديدة التي تقوم على مجلس تشريعي يجمع نواب “الأمة” الممثلين للشعب اللبناني، ليس باعتباره شعباً مختصراً للقيمة الليبرالية، بل باعتباره مندغماً بطوائفه، بحيث لا وجود نظرياً، ولا عملياً، للفرد إلا باعتباره عضواً في طائفة، لا في مجتمع أو في دولة. ما يعني، بما لا يقبل الجدل، أنّ لا حق له في وجوده السياسي، والقانوني، والوظيفي، إلا باعتباره ابن طائفته لا ابن وطنه، ما عدا دفع الضرائب والرسوم، والعيش وحيداً خارج هذه الأطر الراسمة لوجوده وعيشه وتعامله مع الآخرين، من الأقرب إليه داخل طوقه المرسوم، مروراً إلى الأبعد، ومن ثم المتماثل معه أهلياً، إن كان على صعيد القرابة أو الطائفة أو الدين. فيتربّى داخل هذا الطوق مقابل أطواق متقابلة تعيش الحالة نفسها من التربية الأهلية التي ترى نفسها في حالة من العزلة عن المختلِف بالمنطق نفسه، وبالشعور المتماثل بنيوياً، والناظر بالحذر والتردّد، والخوف، إلى جميع الجهات المقابلة، باعتبارها جهات خصمة؛ رِبحُ هذه الجهات، وهي الطوائف المتموضعة في المواقع المتقابلة، يتأتّى من خسارة طائفته، وربحُها هي، يتأتّى من خسارة الجهات كلها، على قدر وزن كلٍّ منها في الاعتبارات الطائفية السياسية المشكِّلة للنظام الاجتماعي – السياسي في لبنان.
-2-
ليس من غرائب القول، التأكيد على أن المأزق السياسي – الاجتماعي في لبنان متأتٍّ من فترات مضت تبدأ من تاريخ لبنان ما قبل الاستقلال. وقد لعب الفرنسيون دورهم في رسم سياسة لبنان بإدارة الأغلبية المسيحية الوازنة، حتى بعد ضمّ الملحقات إليه من عكار وطرابلس والضنية والبقاع. وقد أعطت الدور الرئيسي في الحكم إلى الموارنة من المسيحيين، وإن استلم رئاسة الجمهورية أحد الأرثوذكسيين، وهَمَّ شيخٌ معمم سنّي طرابلسي في الوصول إليها، لولا تدخّلِ الفرنسيين، ومنعِ الانتخاب، وتعليق الدستور.
عمل الميثاق الوطني على تحديد الأولويات، بتقسيم المناصب العليا الثلاثة على الطوائف “السيادية” الوازنة الثلاث، وعلى تقاسم الحصص والوظائف على قدر تناسبها مع الطوائف التي اعتبُرت رسمية بعرف الدولة، والمتزايدة حسب نشاط المنتمين إلى تلك التي لم تحظَ بنعمة الانتماء.. لتنتمي، حتى وصل عددها إلى ثماني عشرة طائفة.
من نافل القول التأكيد على أن الطوائف متغيّرة في وجودها السياسي، صعوداً وهبوطاً للتغيّر في وجودها العددي، وللتغير في نفوذها على أي وجه كان، وبدعم أي جهة كانت، من الداخل أو الخارج. ولأن هذا التغير حاصل، لا بدّ؛ فإنه سينعكس على توازنات لعبة السلطة في لبنان، بما أنها لعبة سياسية قائمة على الائتلاف والتوافق بين الطوائف ذات الوزن. هذا التغير ضرب لبنان في استقراره، وفي كيفية ممارسة السلطة فيه، من ثلاثينيات القرن الماضي إلى خمسينياته وسبعينياته، ولا يزال على وتيرته المتصاعدة بعد دخوله في الألفية الثالثة، وصولاً إلى اليوم، نتيجة المنازعات الخارجية، المنعكسة على نظرات شزرة داخلية تتحول بين الحين والآخر إلى تحديات ومناكفات شعبوية سافرة، تصل إلى الطبقات العليا في المواقع المتقابلة، ولا يفصلها عن التدافع بالأيدي وإبراز السلاح، إلا شَعرات قليلة. وما نعيشه ونعانيه، يشي بوصول لبنان إلى مرحلة خطيرة من حياته، تهدّد وجوده بالذات، بعد أن وصل إلى حافة الانهيار الكامل، بانهيار وضعه الاقتصادي، ووصول العجز عن إنجاز أيّ أمر من أمور الناس الحياتية، إلى أعلى درجة يمكن أن يصل إليها. ولم يتبقَّ للبنانيين إلا أن يناضلوا من أجل الاستمرار في العيش.
هذا كلّه نعيشه، وليس بحاجة إلى برهان. وإذا كنا بحاجة ماسّة إلى وجود دولة في لبنان مع بدايات التسعينيات من القرن الماضي، مهما كان شكلها ومضمونها، فإننا بحاجة ماسّة اليوم، إلى بقاء لبنان في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، واستمرارِه في الوجود، مهما كان شكله ومضمونه.
هذه الحالة ليست وليدة اليوم، ولا وليدة عشرٍ أو عشرين من السنين، إنها مرافقة لوجود لبنان منذ ما قبل القرن العشرين، وهي تتواتر صعوداً، وتتزايد توتّراً مع كل مفصل سياسي أو تغيّر ديموغرافي، أو تأثير ضغوطات خارجية، إلى أن وصلت إلى مرحلة من الحلقات المأزومة المتّصلة، بحيث صار من الأوقات المستقرة مجرّدَ فترات استراحة، أو محطات هدنة، يعود الوضع، من بعد كلٍّ منها، إلى التفجّر من جديد؛ سياسياً، بتعطيل مؤسسات الحكم؛ وطائفياً، بالشحن النفسي وإذكاء نار الحقد والكراهية؛ وإعلامياً، بجعل منصات الإعلام المقروء والمسموع والمرئي مراكز للهجوم، والهجوم المضاد، مع مفردات قاموس للقذف والشتيمة لم نعهدها في أشد الفترات سواداً في تاريخ لبنان؛ وحتى عسكرياً، بالتهديد والوعيد والصياح المسلّح من الساحات المخصوصة. وما يلجم الفلتان هو، فقط، الخوف من وصول الأمور إلى الحد الذي لا يمكن إيقافه، فيوجِد الهدنةَ أو الاستراحةَ للتوافق، على ما يرضي الأطراف المتخاصمة والمتصارعة، ولو إلى حين. ولا يهمّ، من بعد، معرفة مصدر التوافق، إن كان داخلياً أو من الخارج.
-3-
لم يخرج لبنان عن هذه المنهجية السياسية الطائفية على مدى القرن المنصرم، وإن اختلفت الوجوه والأعتاب. والناظر بعين الموضوعية إلى كل ما مرّ به لبنان، طيلة هذه الفترة، يرى بما لا يقبل الشك، أن الأدوات المستعملة لحل الأزمات السياسية المتعاقبة على لبنان، أثبتت فشلها. وصار من المؤكد وجوب التفتيش عن أدوات مغايرة لحل المعضلات المزمنة التي تسبّبَ بها النظام الطائفي في لبنان، وما زال يسبب. لا أقول هنا، فقط، تغييرَ نهج أهل الحكم في ممارسة النظام الطائفي في لبنان. ذلك أن هذا النظام هو المنتج بذاته لأزمة الوجود اللبناني. هو المنتج للتوتير الطائفي والتعصّب والحذر من الآخر المختلف، على أي وجه كان هذا الاختلاف. النظام الطائفي هو المنتج لأهل الحكم بكل مواصفاتهم، وهؤلاء هم حرّاس النظام الذي أنتجهم، والمدافعون عنه باللحم الحي، إذا اقتضى الأمر. والنظام الطائفي هو الذي أفسح في المجال لإنتاج الفساد في كل أشكاله، وهو الحامي للفاسدين طالما يحمي فسادهم بحكم القانون، ويتيح توزيع الحصص والمغانم على أهل الحكم باعتبارهم ممثلي طوائفهم. فتلتقي، عندئذ، المصالح المتعارضة للحماية المتبادَلة، ويتداولون السلطة في الطريقة نفسها التي يتداولون الفساد.
لم تأتِ المؤتمرات والاتفاقات بين الأطراف المتصارعة في لبنان إلا من أجل تصحيح الاعوجاج في المسيرة السياسية اللبنانية، منذ الميثاق الوطني في 1939 إلى اللا غالب ولا مغلوب في 1958، مروراً بوثيقة الوفاق الوطني أو ما عُرف باتفاق الطائف عام 1989، الذي “لم يظهر منه حتى الآن، ولا مما أتى بعده، ما يمكن أن يخفّف من حدة التوجه الطائفي، بل نَجزم أن العكس هو الصحيح”[1]. وما أتى بعده، بدءاً بظهور فريقَي 8 و14 آذار في العام 2005، على أثر اغتيال الحريري، وورقة تفاهم مار مخايل[2] في العام 2006، اللذين قسّما اللبنانيين سياسياً، وصولاً إلى اتفاق الدوحة[3] في العام 2008 الذي أرسى نوعاً من الهدنة السياسية بين الأطراف المتصارعة؛ ما أتى أقول: لم يستطع إخراج لبنان عن خطه المرسوم طائفياً. ذلك أن التقسيمين جاءا خارج القيد الطائفي داخل كل فريق. ولكنهما أجّجا مشاعر البغض والكراهية بين مذهبي الدين الواحد في الإسلام، وبين أهل المذهب الواحد في المسيحية. وجميع هؤلاء غارقون في المذهبية حتى الآذان.
بقي في كل الأحوال، الوجه السياسي للصراع أضعف بما لا يقاس من الوجه الطائفي. وأخذ التوجّه السياسي نسغه الحار من الانتماء الطائفي والديني. ودخلت على خط الصراع تنظيمات متطرفة ساهمت بالالتفات إلى الداخل الطائفي لفئات كثيرة من الناس، اعتبروا أنفسهم خارج الطوق الطائفي، فردّهم التعصّب والقتل المباح والتشريد إلى داخل الطوق بلهفة. ودبّ الرعب في قلوب الكثيرين منهم بعد ما شاهدوا بأم العين مدى فظاعة ما ارتكب من جرائم، ومن كل الأطراف المتصارعة، إلا هؤلاء العزّل الذين دفعوا الأثمان الباهظة في أرواحهم وممتلكاتهم وأمكنة وجودهم. وبدأ الناس يفكرون، على اختلاف توجهاتهم، في كيفية الخروج من هذا المخنق الذي يهدد حياتهم، ولا يهم، من بعد، شكل الخروج ولا نوعيته. ودفع الكثيرون، في هروبهم، حياتَهم ثمناً له، اصطياداً في البر، أو غرقاً في البحر. وأطل شبح الأكثرية والأقلية برأسه من جديد، وبدأ نهج التصنيف في وضع هذه الفئة في هذه الخانة أو تلك، بالاعتماد على المذهب أو الطائفة أو الاتنية أو المنطقة.
-4-
في ظل هذه الأحداث التي طبعت المئة المنصرمة من السنين، هل يمكننا الكلام على عقد وطني جديد؟؟
وهل يمكن لهذا العقد أن يختلف عن جملة العقود التي انعقدت سابقاً، ومورست عملياً على الأرض؟ وإذا حصل وظهر هذا العقد، فعلى أي وجه يمكن أن يكون؟؟ وهل يمكن لأي عقد أن يتم بمعزل عن الوساطات والتأثيرات الخارجية؟ وهل يمكن للتأثيرات الخارجية أن تخدم غير الذين يدورون في فلكها، وغير الذين يستمدون منها نسغ وجودهم، ويتغذون منها بحصيلة مكرُماتها؟؟ وهل يمكن للعقد الجديد أن يزيل هذا الانفصام في الوجود اللبناني بين شرق وغرب، أو بين ممانعة، وركوب موجة العولمة بقيادة أميركا ومهادنة الكيان الإسرائيلي والصلح معه؟؟
هذه أسئلة مركزية لا بد من الإجابة عنها في حال التفتيش عن عقد اجتماعي جديد يعيد اللبنانيين شعباً ودولة إلى ساحة الوطن، وإلى العمل من أجل لبنان جديد، مختلف عما سبق من أوجهٍ للبنان. لبنان حديث منزوع الطائفية، مبعِد للطائفيين، إن كانوا رجال دين أو سياسيين. ومن أجل الوصول إلى ذلك، لا يمكن الانطلاق مما نحن عليه اليوم. ما نحن عليه اليوم لا يوصل إلى لبنان حديث. لبنان اليوم أسير النظام الطائفي والنزاعات الطائفية. لبنان اليوم سجين الغرف المظلمة في كهوف الطوائف، وبحراسة أهل الحكم أنفسهم، وبإشراف زعماء الطوائف وحارسي طهارة وجودها.
إذن، ما العمل؟؟ هل الثورة تغيّر ما عليه لبنان اليوم؟؟ لقد ثبت أن النظام اللبناني أقوى من أي ثورة عليه. ليس هذا فحسب، بل أيضاً، رجال السياسة عندنا وزعماء الطوائف أقوى من أي ثورة يمكن أن تحصل في لبنان.. وبرغم ما قدمته الثورة من إمكانية التغيير في النهج اليومي للممارسة العملية، فإنها أنهت حكومة بزخمها، ومن ثم رحلت بتكليف رئيس الحكومة نفسه بإعادة التشكيل.
-5-
الأمل وحده يمكن أن تحييه المؤسسات المدنية في المجتمع من نقابات وتنظيمات وأحزاب لا طائفية وغير مرتهنة، من خلال صوغ قانون انتخابات جديد، يخفّف قدر الإمكان، وعلى مراحل، من تأثير الطائفية وسطوتها في الحكم، باعتماد نظام انتخابي جديد ينفّذ على مرحلتين؛ الأولى على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة يُنتخب فيها 10% من النواب خارج القيد الطائفي، وفي المرحلة الثانية يحصل الانتخاب على أساس القضاء باعتماد النسبية، يسقط منها النواب الذين فازوا في المرحلة الأولى، حسب انتمائهم الطائفي. وبعد أربع سنوات يرتفع العدد خارج القيد الطائفي إلى 20%.. وبعد 15 أو 20 سنة يتحصّل لدينا 50 % من النواب على الأقل خارج القيد الطائفي.
إن هؤلاء اللاطائفيين سيكونون متحررين من طوائفهم، لا فضل لها في فوزهم، ولا هُم لديهم الهَم لإرضاء زعماء طوائفهم، ولا العمل على الأساس الطائفي، لربح المزيد من الزبائن. موقعهم هذا يتيح لهم التعاون باعتبارهم لا طائفيين. وعملهم محكوم بتوجههم اللاطائفي. وعددهم يشكل ضغطاً على الباقين من النواب. وقوّتهم تجذب من هو قريب من تفكيرهم لينضمّ إليهم.
هكذا، يوضع لبنان على سكّة التحديث، ويصير من الممكن الكلام على تغيير تشريعي يطول النظام الاجتماعي – السياسي اللبناني، وبالتالي يمكن أن يتخلص من نظامه الطائفي، ليصل إلى نظام أقرب ما يكون من النظام الديمقراطي، مع حفظ حقوق الطوائف وصيانتها، بإبعادها عن الجو السياسي كطوائف سياسية، لتعود إلى ممارسة دورها في التربية والرعاية وتدعيم أسس الأسرة والارتقاء بالأخلاق إلى مستوياتها التي يدعو إليها الدين.
-6-
خارج هذا التوجّه لا إمكانية للانتقال من النظام الطائفي إلى النظام الديمقراطي الحديث. وهو التوجه الذي يقضي بفصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الإدارة، والعمل على التخفيف من تأثير رجال الدين في التوجه السياسي للبلد تدريجياً، وصولاً إلى إلغائه نهائياً، والإبقاء على ممارسة حقهم في السياسة باعتبارهم مواطنين، كما غيرهم من المواطنين.
أما في حال الإبقاء على ما نحن عليه، في أي مشروع عقد وطني جديد، من خلال إعادة التموضع، وتعديل الحصص والمكاسب بين أهل السلطة السياسية المحميّة من زعماء الطوائف، فسنبقى على ما نحن عليه، مع زيادة في التوتير والتأزيم، عند أول محطة سياسية داخلية أو خارجية، فنعود إلى الشرب من الوعاء نفسه، إلى أن نصل إلى الارتواء حتى ثمالة حياتنا، وحياة لبنان.
ومن أجل أن نرتاح من مصائب نظامنا السياسي وأفخاخه المتناثرة على مساحة الوطن، ومن أجل نجاة أبنائنا وأحفادنا منه ومن مصائبه، لانسداد آفاق الفرج والانفتاح، لا يتبقّى لدينا، إلا أن يعيش كلٌّ منا في قوقعته الطائفية. فيكون لكل طائفة منطقتُها، وليحلّ نظام فيدرالية الطوائف بدل النظام الطائفي، وليتزعّم السياسيون ورجال الدين مناطقهم ذات اللون الواحد أو الغالب، وليعش الباقون بعهدة هؤلاء، كأهل ذمّة. فتتوزع الذمّية هنا على مختلف الطوائف، من حيث هي أقليّة في عهدة الأكثرية. ربما في هذه الطريقة، يتعرّف الرعايا على حقيقة زعمائهم، وعلى حقيقة أصحاب السيادة والفضيلة والغبطة، إذ ربما تأتي الثورات من الداخل كنتيجة للمعاناة أو التسلط، أو بسبب اكتشاف أنفسهم كوقود لتغذية العصبية في المواقع المتقابلة.
-7-
أما من لا يأتمر بأمر زعمائه، أو من ليس له منطقة يلجأ إليها هرباً من طغيان السلطة الطائفية عليه، فالويل له، ولأفكاره وأحلامه التي تربّى عليها، خلال عمره المديد. وما عليه إلا أن يقول عندئذ، لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ومن آمن بي وإن مات فسيحيا.
———————————————————–
(*) يشكّل هذا النصّ، بالأصل، مساهمة الكاتب في ورشة تفكير ونقاش نظّمها مركز تموز للدراسات، تحت عنوان: عقدٌ وطني جديد؟ وذلك في فندق فيكتوري أوتيل – جبيل، بتاريخ 20 – 21 أيلول 2020.
[1] . أنظر في هذا الخصوص نص المحاضرة التي ألقاها الكاتب في نادي متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت، بدعوة من مؤسسة سعادة للثقافة في 12 آذار 2009، بعنوان: معوّقات نشوء الدولة الحديثة في لبنان. وللتفصيل حول ما نُفّذ من اتفاق الطائف، وما بقي سجين الأدراج، بما يقوّي من أسس النظام الطائفي، وخصوصاً تخصيص المناصب الكبرى الثلاثة لطوائفها بعد أن كانت عرفاً:
- عاطف عطيّه، الدولة المؤجلة، مكتبة بيسان ودار أمواج، 2000، بيروت، فصل الطائف بين التصحيح والتصفيح، ص ص155-164.
2 . حول تفاهم ورقة مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر، أنظر:
- com
3 . حول اتفاق الدوحة وبنوده والآراء فيه، وما قيل عنه، وكيفية خروج لبنان من مخنق انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، أنظر:
- مازن يوسف صبّاغ، اتفاق الدوحة، الحوار الوطني اللبناني، قطر 16-21 أيار 2008، مختارات، 2009، 282 ص.