ميلاده عندي يوم استشهاده… يوم فُرض علينا نحن الذين في خندق غير خندقه، ولو أنّ مصلحة الأمة جمعتنا في اللحظات التي تسمو بها حتى مستوى تاريخ الأمة… من تلك اللحظات، يوم أرادوا أن يعصبوا عينيه فحاول ألاّ يفعلوا قائلاً لهم: “أريد أن أرى”.
أعرف أنّه كان يريد موته… لا الموت الذي رسمه الفنانون: هيكل عظمي ومنجل وأظافر مخيفة… شي آخر… ربما كان زرافة من رمال الوطن تحمل الراحلين إلى أرض مُثلهم عند خفق القلب أو تفجّر الدماغ الذي ما أعطى كل أفكاره ولا حانت إفاقته من غياب التأمل… عندما يقبل إنسان المخ على نهايته يصبح بعضاً من الأبد العظيم وتغزل في عينيه رؤيا الأبد الخالد ويتجلّى عليه الله فيمنحه نور التجلي.
لم يمكّنوه من رؤية موته… أمّا أنا فرأيته في سهومي الحزين المتوتر، وقذفت ألف لعنة لأنّ الساعة لم تكن ساعة بكاء… كانت ساعة تجديف… كانت أدهى ما فيها أنها من مرحلة حشرجة. هي ليست حشرجة يقظة… إنّها انهيار الكرامة.
قبل أيام من اغتياله، دعى حسني الزعيم وجوه القطر السوري ومن لقبوا بالزعماء فجاؤوه خفافاً وثقالاً وقد منّوا النفس – كما تعوّدوا لدى كل محتلّ أو مغتصب – أن يُستقبلوا بالإجلال والإكرام وأن يستغلّوا الظروف الجديدة، حسب تاريخهم الغريب عن تاريخ الأمة…
كان موعدهم في الساعة التاسعة، في القصر الجمهوري. لم يتأخروا أبداً. طالب الرضى لا يتأخر… استقبلهم ضابط وأخذ ينظم القادمين في صف متراصف نصف دائرة يتفرج فيها كل منهم على الآخرين، وأبقاهم ينتظرون وقوفاً تحت شمس أيار حتى الساعة الحادية عشرة، جاء بعدها من دعاهم للدخول…
كان حسني الزعيم واقفاً وراء مكتبه وسوطه بيده. لم يطلب إليهم الجلوس وأهانهم بما يستوي مع مقاماتهم الرفيعة وبعد أن انتهى قال لهم: يا الله اخرجوا…
تلك الصورة أرادت ألاّ تذكرها الأدبيات عن تلك الفترة ونسيتها الصحافة… ظلت تحفر في ذاكرتي حتى الساعة، وأظن أنّ نسيانها عسير. كان النفاق السياسي يقود البلاد… منذ متى؟… وحتّى متى؟… وإلى أين؟
لقد لعب النفاق دائماً بمصائر الشعوب عبر التاريخ، وقصة الثورات واستيلاؤه عليها منذ أن يجف الدم ويهدأ العنف، ليست بخافية على من يقرأ التاريخ. وفي مرحلة الانهيار تمتد جذوره عميقاً في الشعوب حتى ليغدو، هو سيّد الأخلاق.
بعد أيام ولا أقول شهوراً، لأنّ حكم حسني الزعيم لم يدم سوى أربعة شهور ونصف، دخل السجن رتل فهللنا… قلنا دقّت قبضات الأحرار أبواب المزّة. ولم يطل بها الأمر ولا بها الانتظار… وإذا القبضات أيد ناعمة رخصة ما خلقت لما نحن فيه من أمل ثوري ورغبات وطنية كبرى…
عند لفح أوّل هبّات ريح السجن سقط اعتبار الساقطين أصلاً، وتنازلت الأيدي الرقيقة عن كبريائها وكل القيم التي نادت بها، توقّع الطاعة وتجأر الحنجرة بالاستغفار وخضوع ذليل كافر بالكرامة…
كان حكم حسني الزعيم أربعة شهور ونصف… ليست مدة طويلة، لكنها كشفت أدعياء الصلابة والمقاومة والكبر الثوري والقومي… كانت فضيحة الانتهازيين أيّا كان اتجاههم.
كانت الأمّة بحاجة لدرس وما يلقيه أو ينقذها غير شجاعة على قدر تلك الإهانة، لعلّ يعود إليها الأمل بالتضحيات والإيمان بأن الفداء وحده هو السبيل الذي يجب أن يعبّده المؤمنون بها… السبيل الذي كل سبيل سواه جفاء.
لقد فرض سعادة احترامه أولاً علينا نحن الذين لسنا من شيعته، وبات كعين التاريخ اليقظى نشهدها – شئنا أم أبينا – على ما نفعل، كأنه وجداننا الذي يحاسبنا على ما قدمّنا أو أخّرنا… نرى دمه يسيل – كما سال أوّل مرة كلما ألمّت بنا وعثاء ضعف أم شطط عن الهمة.
أنت لا تستطيع، عندما تنهد إلى النضال، إلاّ وأن يخضع منطقك إلى المقارنات ثم الانتقاء… انتقاء النموذج الإنساني.
كنت أقرأ الجريدة التي نشرت تفصيل الملحمة… نسيت اسمها، أمّا المحرر فقد أغفل اسمه…
لا أدري أيّ تشبث بها ألمّ بي… كتشبث العشّاق، حتى لقد أحطت بكل حرف واستقصيت كل كلمة… كانت درساً نادراً… قصصت الخبر ورميت بقية الجريدة… ظلّ عندي أعود إليه بين الفترة والفترة… بقي بين مخبئاتي الثمينة حتى هدم الطيران الإسرائيلي بيتي في بيروت وذهب كل ما فيه… لكم أحسّ بفراق حقيقي عندما أذكرها.
أراد أن يموت واقفاً… القانون عندنا أن يركع المعدومون (حتى ولو كانوا شهداء)… قال، لن أخالف قانون بلادي (سقراط وكأس السمّ)… لأنه يمكن أن يموت الراكعون (خضوعاً للقانون) فالرأس يرتفع في مثل هذه الحالة من حالات الركوع أيضاً…
قالوا نعصب عينيك…
قال: أريد أن أرى… وأضاف: بعض الرمال تؤذي ركبتي.. طلب أن تُقصى من تحتها… أراد النهاية في طمأنينة قصوى.
لم يفهموا ما قال. ومن أين للقتلة أن يدركوا معنى الرؤيا…؟ رؤيا الذهاب الأخير في أناقة المقبل على المدى الذي لا مدى له سوى الأزل.
قالوا له أيضاً قبل ذلك:.. ماذا تريد؟…
فنجان قهوة وسيكارة… لا شيء.
ربما نقله ريح الدخان إلى الأرض التي ترحب بالقادمين وهم يردّون للأمة اعتبارها.. حيث يتجمع الشيء فيغدو قضية.
—————————————————-
إضاءة: كتب الدكتور سامي الجندي هذا النَص دون أن يُطلب منه… فبعد أن كتب مقالته عن الأمينة الأولى / جولييت المير سعادة، بعدها بأيام قليلة أعطاني هذا النصّ وهو يقول بأنّه (مؤجّل) من زمنٍ طويل… حيث كان يجب أن يكتبه، ربما صيف العام 1949، لكنه لم يفعل حينها … وإذ به الآن يقوم بذلك.
النصّ مميز واستثنائي، من شخص مختلف، ينظر إلى سعادة كمنقذٍ لشرف الأمّة. يعيد سامي الجندي رواية إذلال الطبقة السياسيّة من قبل حسني الزعيم، كما يعيد التلميح إلى ضعف ميشيل عفلق في السجن، وكتابته رسالة الاسترحام.
تم نشر هذه المقالة في جريدة البناء – صباح الخير – العدد 639 – تاريخ 8 تموز 1988.
ن. سلّوم