-1-
في 5 حزيران من العام 1947، وفي خطاب ألقاه وزير الخارجيّة الأميركي، آنذاك، جورج مارشال في جامعة هارفارد، اقترح خطة الإنعاش الاقتصادي لأوروبا، أو خطة إعادة إعمار أوروبا، التي يشار إليها في الأدبيات السياسيّة بـ “خطة مارشال”.
الخلفيّة الاستراتيجيّة التي استندت الخطة إليها، تتمثّل بالوقوف بوجه الاتحاد السوفيتي المنتصر والذي تخفق راياته الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة من جهة أولى، والعمل على إحكام ربط البنيّة الانتاجيّة الرأسماليّة الأوروبيّة وتشبيكها بالبنيّة الانتاجيّة الأميركيّة من جهة مقابلة. وعلى ذلك لم تذهب المليارات التي خصصها مجلس الكونغرس لأوروبا لإعادة الحجارة المدمّرة إلى مكانها، بل لإعادة توضيعها وفق النسق الذي يجعلها جزءً عضويّاً من المنظومة الرأسماليّة الأورو – أميركيّة التي ولدت للتو والتي سيوكل لحلف (الناتو) لاحقاً مسؤوليّة حراستها، ومعنى (العضويّة) هنا يحيل إلى النظام السياسي عموماً والمضمون الثقافي لآلياته بما يؤدي إلى الاطمئنان إلى هويته ومرجعياتها. ولذلك ستندرج في موازنة “خطة مارشال” نفقات لصالح وكالة المخابرات المركزيّة وعملياتها التي تخدم هذه الخطة والتي تمثلت حينها بدعم النقابات والإعلام وتمويل بعض النشاطات التي تقوم بها اتحادات وجمعيات طلابيّة جامعيّة إلى جانب صنّاع الرأي من المثقفين والفنانين والكتّاب.
المثال التاريخي الذي استلهم مارشال منه خطته، لم يكن سوى “عصر إعادة الإعمار الأميركي 1865 – 1877)، الذي جاء بعد نهاية الحرب الأهليّة الأميركيّة. ذلك العصر صنعته النخبة الصناعيّة الشماليّة التي قررت (تغيير الجنوب الأميركي) ومعه أميركا كلها اقتصادياً واجتماعيّاً وثقافيّاً. في ذلك العصر تم دفن الكونفدراليّة، بعناوين نهاية الرق وفرض قوانين حرية سوق العمل الخاص وإنشاء شبكة مؤسسات تعليميّة ودينيّة حامية للثقافة الجديدة.
-2-
لم تُدمّر غزّة من قبل الجيش الإسرائيلي وبدعم وإسناد أميركي أوروبي، إلاّ لترتفع راية إعادة الإعمار فوق ركامها، تلك الراية التي أصبحت المشهد الدائم لليوم التالي من تلك الحروب (الغامضة! – الشديدة الوضوح) التي جرت وتجري باشتراك أطراف محليّة وإقليميّة ودوليّة (العراق – الشام “الجمهوريّة العربيّة السّوريّة” – ليبيا…) كأمثلة حديثة عن تلك الحروب ويومها التالي الشديد التعقيد!
في أواخر تشرين ثاني 2023، أي بعد أقل من شهرين على بداية الحرب الاسرائيليّة على غزّة، عرضت وكالة رويتر صوراً جويّة لها قبل بداية الحرب وبعدها. وصفت الوكالة غزّة في تلك اللحظة بأنها “مثل سطح القمر”. ركام تام وبيئة غير قابلة للحياة. في مطلع أيار 2024، أي مع انقضاء سبعة أشهر على الحرب، عادت الأمم المتحدة لتصف غزّة بأنها “مثل سطح القمر”، وذلك في تقرير يحذّر من أنَّ إعادة إعمار ما تهدّم ربما سيحتاج إلى أكثر من 80 عاماً.
عبارة “مثل سطح القمر” تغني بوضوحها عن سرد ما قام به الجيش الإسرائيلي في غزّة، حيث يمكن الاكتفاء أيضاّ بتعبير (قتل عناصر الحياة) تماماً. كان التقرير الأممي الصادر في 5 آذار قد أشار بوضوح إلى حجم الدمار الهائل حيث قدّر حينها الحطام بـ (37) مليون طن! فيما اعتبر المسؤول الأممي بالاكريشنان راجاجوبال أنه ” عندما يفقد الناس منازلهم، فإنهم يفقدون أكثر من مجرد الهياكل الماديّة: فالمنزل أكثر من مجرد عقار. إنه أيضاً مستودع للذكريات والآمال والتطلعات”.
بلى، المنزل، والحي، والمدينة، تحمل في ذاتها تلك الخصائص التي تحيلها إلى مضمون ومعنى الهوية، التي تنطوي على تاريخ والمفتوحة نحو مستقبل. دونها يقع الإنسان في نقطة (اللا تعيين)، أي في الفراغ.
الصور التي عرضتها وكالة رويتر، وأظهرت طبيعة الحياة وصخبها ومعالم المكان وشخصيته قبل التدمير، ستتحول إلى ذكرى مع الصور التي التقطتها بعد التدمير وشبّهت فيها غزّة بسطح القمر، وفي الواقع تقول تلك الصور، إنَّ هذا المكان أصبح فراغاً خاوياً، فرفعت رمزياً راية: إعادة الإعمار، التي تتوسّل الأرقام للتخويف من المستقبل ودبّ الرعب في النفوس.
الرعب والخوف واللايقين…. فقط مجرد أن تقول للناس المحشورين في زاوية القطاع الآن: عودوا إلى هذا الفراغ، إلى تضاريس الخراب والركام، ستحتاج مدينتكم إلى قرن كامل كي تعود إلى الحياة!
-3-
منذ بداية الحرب الإسرائيلية في 8 تشرين أول 2023 على غزّة، بدا اليوم التالي للحرب من صناعة أميركيّة. لا يمكن أن يكون اليوم التالي فلسطينيّاً حتى ولو لم يتم القضاء على حماس عسكريّاً، كما لن يكون ذلك اليوم إسرائيليّاً (نقيّاً)، حتى لو تم القضاء على حماس عسكريّاً. في كل الحالات اليوم التالي للحرب في غزّة سيكون أميركيّاً. واشنطن ساعدت نتنياهو وتركته يقوم بـ (العمليّة القذرة) ولا تزال تساعده حتى تلك اللحظة التي تقرر فيها أن البيئة الصالحة لإعلان اليوم التالي أصبحت جاهزة. الزيارات المكوكيّة التي قام بها ولا يزال وزير الخارجيّة الأميركي بلينكن إلى العواصم الاقليميّة إلى غيره من المبعوثين والسفراء، والتصريحات التي تصدر عن البيت الأبيض يوميّاً، والمشاريع المتتالية التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف الحرب. كل ذلك وغيره لم يكن سوى عمليات إنتاج البيئة الصالحة لاستقبال برنامج اليوم التالي الأميركي. القرار رقم 2735 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في العاشر من حزيران 2024، والذي هو مشروع الرئيس الأميركي الأخير، يأتي في الإطار نفسه لجهة إنتاج البيئة القادرة على جعل اليوم التالي الأميركي ممكناً. وزير الخارجيّة الروسيّة سيرجي لافروف وصف القرار بأنه كمن “يبيع السمك في الماء” لجهة الغموض المتعمّد فيه ما يجعله مسوّقاً للأوهام، والواقع انَّ المراحل التي يتدرج عبرها القرار توصل في النهاية إلى (إعادة الإعمار) التي هي تماماً اليوم التالي الأميركي.
غزّة ومصيرها، بالمنظور الأميركي، ليست “قضية مستقلة” مفردة يتم ترتيب مستقبلها بعوامل خاصة بها وحسب، عوامل ترتبط بتاريخها وشعبها وما يتعرّض له الآن من عملية تم الاجماع على وصفها بـ (الإبادة الجماعيّة) التي نفذّها ولا يزال الجيش الإسرائيلي. غزّة هي قطعة في (البازل) الاستراتيجي الأميركي الذي يغلّف الكرة الأرضيّة.
لا ولن تتعامل الولايات المتحدة مع ما يجري في غزّة إلاَّ من ضمن تضمينها مع مختلف المفردات الاستراتيجيّة التي تشكّل العناوين التالية بعضاً منها:
المواجهة العسكريّة مع روسيا التي يمكن أن تصل إلى حدود السلاح النووي والتي في حال توسعها سيكون الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أحد جبهاتها الحاسمة – المواجهة الاقتصاديّة المعقّدة مع الصين التي تطوراتها وفصولها تعطي نقاطاً إضافيّة للصين يوماً بعد يوم (وفق تصوّر أولي غزّة الجديدة قد تكون مِنصّة مثاليّة لمختلف الخطوط البريّة التي تبدأ من الهند شرقاً وتمر بدول الخليج وتنتهي ببوابة غزّة البحريّة) – المواجهة الباردة / الساخنة مع إيران، حيث سيشهد اليوم التالي في غزّة بداية انحسار “البعد الفلسطيني” في السياسة الإيرانيّة ما يعني نظريّاً تراجع إيران نحو حدودها الجغرافيّة شرقاً وتأثير هذا التراجع خصوصاً على بغداد ودمشق، على التوازي مع محاولات عزل حزب الله في لبنان مع “انتهاء دوره الفلسطيني” مع لحظة بداية “إعادة الإعمار” لإنشاء غزّة الجديدة! (إسرائيل تقترب من إعلان حرب واسعة ضد حزب الله وواشنطن تفضّل أن تكون هذه الحرب بعد بداية اليوم التالي في غزّة، أي بعد نهاية الحقبة العسكريّة الفلسطينيّة) – العالم العربي ومستقبله في ضوء الاندماج الوظيفي التام لدول الخليج في النظام الأورو أميركي وابتعادها اقتصاديّاً وماليّاً وثقافيّاً عن الدول الأخرى في الهلال الخصيب وشمال إفريقيا… والعنوان الأساس لليوم التالي الأميركي يبقى متمثلاً بالتصوّر الأخير لمستقبل إسرائيل ووظيفتها، مستقبل وجودها وطبيعته، وجاهزيتها للانضواء في منظومة إقليمية تؤمّن لها عوامل الاسترخاء وتبعدها عن حافة التوتر التي هي فيها الآن.
اليوم التالي الأميركي يقول: غزّة التي كانت: عمرانيّاً وسكانيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً… انتهت. غزّة أخرى بملامح أخرى سيتم إنتاجها (إعادة إعمارها) بعد الخلاص من هذه الملايين من أطنان ركام غزّة القديمة (التي تم قتلها).
-4-
لا تهجير قسري للسكان من غزّة.
الأميركيون والأوروبيون والدول العربيّة العاملة في فلك واشنطن… كلّهم يرددون هذه اللازمة التي وردت لاحقاً في المشروع الأميركي الذي صدر كقرار عن مجلس الأمن.
الخبراء الأمميون يصدرون التقارير المرعبة عن الحال في غزّة، تقارير تحوي معلومات وأرقام صادمة ومرعبة، تُكرر على مدار الساعة:
دمارٌ لم يسبق له مثيل، حتى في الحرب العالميّة الثانيّة!
80% من الأبنيّة السكنيّة تم تدميرها.
لا يوجد: خدمات، وظائف، مدارس، جامعات، مستشفيات، بيوت ثقافة، معامل… كلّها سويت بالأرض!
أغلب سكان غزّة مسجونون في رفح ومحيطها!
40 ألف ضحيّة، شهيد.
100 ألف ضحيّة، جريح ومصاب.
7500 مفقود؟
40 مليون طن من الركام!
قرن كامل لإعادة الإعمار مع 50 مليار دولار للبداية!
ويكررون: لا تهجير قسري للسكان!
بلى، لا تهجير قسري، ولكن، تفضل أيّها الغزّاوي، وتعايش مع هذه الصور المرعبّة، وأقم مع هذا الركام!
لا أحد يدعوك كي تهاجر، أبداً!!
لكن إنْ وجدتَ الحياة على (سطح القمر) مستحيلة فها هو الرصيف البحري الأميركي سيساعدك في الخروج إلى الأمكنة التي أعدّت من أجلك مع أبناء جلدتك.
-5-
جورج مارشال، خدم في الجيش الأميركي قرابة نصف قرن، وتدرّج من عسكري إلى ضابط إلى رئيس أركان إلى وزير دفاع. استند إلى هذا الإرث العسكري عندما اقترح خطته لأوروبا، رغم تعيينه وزيراً للخارجيّة. قال عنه ونستون تشرشل بإعجاب إنّه “مهندس النصر” على النازيّة، وبالطبع وبسبب ذلك مُنح جائزة نوبل للسلام عام 1953… نعم جائزة نوبل للسلام!!
مع بداية اليوم التالي والشروع بخطة (إعادة الإعمار) يخلع المحاربون الذين كانوا يدمّرون المدن بمن فيها… يخلعون زيهم العسكري ويرتدون ثياب العمل، ومن ثم يتحولون إلى حمائم سلام!!
مَن مِنَ القادة الإسرائيليين الذين شاركوا في إبادة غزّة سيكون في ستوكهولم ذات يوم لاستلام جائزة نوبل للسلام؟ ليضيف اسمه إلى من سبقوه: مناحيم بيغن 1978، الذي افتتح عهد المجازر الكبرى بمجزرة دير ياسين 1948، وشيمون بيريز 1994 الذي أثبت أحقيته بالجائزة بارتكابه مجزرة قانا 1996!
-6-
منذ إقرار الكونغرس الأميركي (خطة مارشال) في العام 1948، بدأ اليوم التالي أميركيّاً في أوروبا الخارجة من الحرب. واشنطن منذ ذلك الحين (أمّمت) أوروبا استراتيجيّاً.
هل ستطوي فلسطين صفحة صاخبة من صراعها حول وجودها، مع دخول غزّة في اليوم التالي الأميركي، وتخضع لقوانين (التأميم) الاستراتيجي؟ لتدخل في حقبة جديدة ومختلفة بآلياتها ووسائلها، من هذا الصراع الذي يبدو مفتوحاً ودون نهاية…!!
-7-
مَن معه (الأوكسجين) الكافي والخاص جداً، سيتمكن من البقاء سعيداً على (سطح القمر).
____________________________
اقرأ لـ نزار سلّوم في الموضوع نفسه:
اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!
اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة
اللوح الثاني: اكتشافُ إسرائيل؟
الطوفان / الحريق: الصدمة بصراحة: فرصةٌ للانتصار أو كارثة تاريخيّة؟
قراءة استثنائية للسياسة الميكيافلية التي ينتهجها الغرب و”…إسرائيله” في الحرب المفتوحة على عالَم اليوم التالي، المثقل بغنائم التقتيل والتدمير، وإذا كانت تلك الحرب بنموذجها الغزاوي في دائرة الضوء حالياً فإنها بعراءٍ فاضح شريعةُ الغاب المرشحة لتصبح نماذجَ لجميع الدول والكيانات، بل للأفراد الذي
تقودهم لاءات الرفض إلى المقصلة الحتمية . فالقوة وحدها هي القول الفصل، والباقي تفاصيل.