العالم الآن

الطوفان / الحريق: الصدمة

بصراحة: فرصةٌ للانتصار أو كارثة تاريخيّة؟

” بصراحة، هو العنوان الدائم الذي كتب تحته وساجل محمد حسنين هيكل مئات المقالات، أستعيره هنا في هذا المقال، ليس لأني سأكتب بصراحة كما لو أنّي لم أفعل سابقاً، بل لأنَّ الكتابة في خضم مشاعر متصاعدة ومتأججة وصادرة من نفوس تشتهي الانتصار وتتشوّق للشعور بالعزّ وتلتهب مع عودة الأحلام الكبرى التي نشأت معها… لأنَّ الكتابة في هذا المناخ إن لم تكن تطريزاً محسوباً بالقطبة، ستؤدي إلى جروح إضافيّة وخدوش لنفوس توفّرت لها لحظة خاصّة كي تستسقي من أحلامها وشوقها إلى رؤية ما تتمنى أن تراه، وما ظنت أنه قضى ومن المحال أن يقوم من بين الأموات.

بصراحة، آن أوان الكتابة، بل التطريز ما أمكن احتراماً للدماء والتي بسببها يجب أن تكون الكتابة كشفاً للمعنى وإن قسا لا حجباً له طلباً لطمأنينة إيمانيّة نخاف عليها أكثر من خوفنا على الحقيقة!”  

-1-

الطوفان مع سفينة إنقاذ يقودها ربّان صالح يؤدي حتماً إلى إغراق عالم قديم فاسد ظالم ومُظلم وولادة خليقة صالحة وعالم جديد.

الطوفان دون سفينة إنقاذ، انفجارٌ عام سننتظر إلى أن ينحسر لنرى من تمكّن من الإفلات من أعاصيره، هو عمل مفاجئ حتماً تنتهي السيطرة المسبقة عليه مع وقوعه ثم يرتهن للارتجال الذي يمسي مناخه العام.

-2-

أدّت عملية السابع من تشرين أول 2023، إلى إحداث صدمة عنيفة خلخلت واقع المشروع الإسرائيلي ومرجعياته الفكريّة – السياسيّة المؤسسة مع انطلاق الحركة الصهيونيّة في نهاية القرن التاسع عشر والمتدرجة خلفاً نحو الكتاب الديني – التوراة. وإذا كانت الصدمة تستهدف تلقائياً تهشيم جسم صلب، فإن هذا الجسم بدا في ذلك اليوم (الوجود اليهودي) نفسه وليس إسرائيل كدولة. بهذا المعنى لا تُقاس نتائج الصدمة بما كسبته حركة المقاومة الاسلاميّة (حماس) ومن معها بالمعنى الميداني، وهو كسب كبير وغير تقليدي في الحالات كلّها، بل تُقاس في رؤية الصورة المُهشَّمة لمشروع يبني نفسه من أكثر من قرن على فكرة القوة الخالصة المطلقة غير الخاضعة للشرط التاريخي وحالاته قوةً وضعفاً. أي القوة التي تزداد قوة دون أن يصيبها أي تلف أو اهتلاك أو تراجع في جاهزيتها!

بهذا المعنى، يمكن رؤية المركز الذي توجهت إليه قبضة الصدمة وطاله التهشيم متمثّلاً في ذلك النكوص الواضح لـ (الوجود اليهودي) من إطار الدولة ممثلة بإسرائيل، إلى إطار (المسألة) … المسألة التي تبحث عن حل مصيري؟، كما كانت عليه في القرن التاسع عشر خصوصاً. أي عادت إسرائيل كدولة لتكون مشروعاً من مشاريع متعددة للوجود اليهودي بدل أن تكون خياراً وحيداً وحصريّاً مكرسّاً للتعبير عن هذا الوجود. يمكن ملاحظة كيف أنَّ الجنسيّة الثانية التي يحوز عليها أغلب اليهود – المستوطنون الجدد خصوصاً – بدت كخيار بديل فتأكدت وظيفتها مع الارتجاج الذي سببته الصدمة بكونها احتياطاً وجوديّاً جاهزاً للتفعيل بدلاً من وجودٍ معرّض للاهتزاز الشديد.

في هذا النكوص من الدولة نحو المسألة، عاد السؤال الصعب ليواجه (الوجود اليهودي)، سؤال المصير. وفي هذا تماماً تبدو خسارة المشروع الإسرائيلي باهظة واستثنائيّة.

-3-

ليس مهمّاً، إن كان بنيامين نتنياهو، يقول قناعاته أو أنه يكذب، عندما خاطب الرئيس الأميركي جو بايدن هاتفيّاً (تم عرض المكالمة تلفزيونيّاً وعلى نحوٍ استعراضي) معتبراً أنَّ ما يجري لا مثيل له منذ الهولوكوست؟

دون أدنى شكّ، الوظيفة الرئيسة لاستحضار الهولوكوست تبدو في استجرار التعاطف والشفقة على ضحية كانت في يوم ما تتفحّم في أفران الغاز النازيّة – الألمانيّة، وها هي تتعرّض اليوم لهجوم من شأنه إذا ما قدر له الاستمرار والنجاح أن ينصب للضحية نفسها محرقة جديدة!

على أنَّ هذا الاستحضار لا يمكنه أن يقوم بهذه الوظيفة بمثل هذه الفجاجة وبغياب الوقائع المتشابهة، دون مغامرة ستعمّق ذلك الارتياب بنكوص الوجود اليهودي من الدولة خلفاً نحو المسألة. ولتأسيس رد فعل قادر على كبح هذا الارتياب لجأت إسرائيل إلى (أيلولة العملية – من 11 أيلول)، لتعتبر عملية السابع من تشرين بمثابة 11 أيلول الاسرائيليّة.

شكّل استحضار الهولوكوست و11 أيلول المنصّة التي تم منها تقديم ردّ الفعل الإسرائيلي القادم والتعريف بطبيعته، ومن هذا المستوى ستتقدم أوروبا الغربية مع أميركا الشماليّة لمقاربة الحدث وفق إيقاع موحّد سياسيّاً وإعلاميّاً يتسم بالصرامة والانضباط التام (المناخ السياسي والإعلامي السائد الآن في دول الغرب تجاه الحرب التي تقوم بها إسرائيل ضد قطاع غزة غير مسبوق بتبنيه لما تقوم به إسرائيل تلقائياً حتى ولو كان تدميراً لمشفى وقتل أكثر من 500 ممن التجأوا إليه، مع قمع كل صوت مخالف، ورغم الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها العديد من المدن إلاَّ أنَّ السلطات تحاول منع شعارات معينة ومنع رفع العلم الفلسطيني … الأحزاب السياسيّة الحاكمة والمعارضة تفصل الأعضاء الذين يخالفون هذه التعليمات … الشركات تبطل عقد أي موظف يجاهر بالاعتراض على هذه السياسات… وتتتابع الإجراءات على مدار الساعة). يستعيد هذا المناخ التذكّير بحملة القمع الأميركيّة الخمسينيّة – المعروفة بالمكارثيّة – ويعِد بتجديدها وعلى نحو أكثر قسوة وقمعاً…!!

تتجلّى الاستثنائية الكبرى في التعامل مع هذا الحدث بكون الولايات المتحدة الأميركيّة بدأت سريعاً بقيادة رد الفعل عليه باتجاه إدخال أهداف استراتيجيّة تتكشف على نحو متلاحق.

-4-

أوروبا تعاملت برعب مع الحدث، الارتياب بعودة الوجود اليهودي من مستوى توضّعه كدولة إلى مستوى كونه مسألة، يعيده دفعة واحدة إلى أحضان أوروبا الغربيّة والشرقيّة. أي يعود إلى أصله وتعريفه في العصور الحديثة بكونه مسألة أوروبيّة خالصة لا شأن لفلسطين بها ولا للعالم العربي غرباً وشرقاً.

أوروبا صدّرت المسألة اليهوديّة إلينا، دفعتها عنها دفعاً، أوجدت حلاً لها خارجها، وهو حل فعلت كل ما يمكن فعله من أجل إنجازه واستمرار وجوده، وأي تراجع عن هذا الحل يعني العودة إلى أوروبا حيث لا سبيل آخر أمام المسألة اليهوديّة إلاَّ العودة إلى بلدان المنشأ: أوروبا، وبالطبع أميركا الشماليّة معها إن اقتضى الأمر.

بهذه الخلفيّة يمكن قراءة مواقف الدول الأوروبية التي تجد تعبيراتها في كلام مكثّف من مثل ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مخاطباً الحكومة الاسرائيليّة “نحن إلى جانبكم، فرنسا لن تترك إسرائيل لوحدها”، إلاَّ أنَّ هذه المواقف وصلت مع المستشار الألماني المصاب كغيره من السياسيين الألمان بـ (متلازمة الهولوكوست) إلى اعتبار الدفاع عن إسرائيل “مسألة وطنيّة ألمانيّة”! والدفاع بدأ في ألمانيا نفسها مع العمل على استصدار قرار بعدم إعطاء أو سحب جواز السفر الألماني من كل شخص يقوم بنشاطات تعتبرها الحكومة الألمانيّة معادية للساميّة!

مع السابع من تشرين أول 2023، وجدت أوروبا نفسها أمام ضغط المشهد الإسرائيلي الذي تلوح فيه علائم العودة بمكونه من إطار الدولة المؤسسة في العام 1948 إلى إطار المسألة الحاضرة في أوروبا وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى الحرب العالميّة الأولى التي من نهايتها تحكّمت أوروبا بالمسالك التي دفعت بالمسألة كي تجد حلاً لها كدولة على أرض فلسطين.

-5-

لا أحد يتوقع من واشنطن إلاَّ أن تكون الضامن الدائم لوجود إسرائيل والجاهز لحمايتها، لكن مع هذا الحدث، ما هي الإضافة المختلفة في الموقف الأميركي؟

تمثّلت الإضافة في اعتبار ما جرى مسألة أميركيّة مباشرة وليست مسألة إسرائيليّة بامتدادات أميركيّة. وعلى ذلك بدت واشنطن وبوضوح حاضرة ميدانيّاً سياسيّاً وعسكريّاً. وزير الخارجيّة بلينكن حضر مباشرة بصفته السياسيّة وبانتمائه العرقي – الديني كيهودي أفلت أهله من الهولوكوست؟ كان حريصاً على قول ذلك بصوت عالٍ لتأكيد رسالة واضحة مفادها أن الحدث أميركي، وأن واشنطن ستتعامل معه مباشرة، وهذا ما فعله الرئيس بايدن الذي سبق وعرّف عن نفسه مفاخراً بأنه صهيوني، ليتخذ حزمة قرارات بدعم عسكري غير مسبوق توج بإرسال حاملات الطائرات والمدمرات لترابط على شاطئ المتوسط الشرقي مع ضبط رد الفعل الإسرائيلي ضمن إطار الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة ومفرداتها الموزعة في مساحة تمتد من طهران شرقاً مروراً بالخليج وصولاً للمتوسط، مع محاكاة لعنوان الحرب في أوكرانيا والصراع البارد مع الصين. تبدو واشنطن وكأنها وجدت فرصتها للتقدم بذريعة هذا الحدث المحمّل بمواصفات (أيلوليّة).

لاحقاً، ستبدأ قطع بحرية بريطانيّة وأستراليّة وألمانيّة ومن ثم فرنسيّة الالتحاق بالأسطول الأميركي وتعزيز فكرة التحالف الغربي العسكري المباشر القريب من جبهة الصراع.

بهذا المعنى، ورغم كل التصريحات العالية النبرة للحكومة الاسرائيليّة من رئيسها إلى وزير الدفاع، القرار ومرجعيته وعلى نحو تام في واشنطن وليس في تل أبيب.

-6-

يعيد هذا الحدث تعريف إسرائيل لجهة كونها مرتبطة عضويّاً ليس بالغرب بالمعنى التقليدي، بل بدرجة السيطرة والقوة التي عليها الغرب، فهي مثال على قدرته على إيجاد حلول لمسائل خاصة به وناشئة من سياساته، خارج مجاله المباشر، ولو أدت هذه الحلول إلى إنتاج مشكلات جيوسياسيّة كبرى غير قابلة للحل إلاَّ بتصحيح الخطأ الكارثي الذي أدى إليها.

بالنسبة للولايات المتحدة خصوصاً، إسرائيل هي امتداد للحلم الأميركي وللفكرة الأميركيّة وروحها … إسرائيل هي بعض أميركا الموجود في أرض الكتاب المقدّس.

-7-

طوفان الأقصى…؟

بلى، عنوان ديني من كلمتين لتأكيد أن الصراع الدائر في تلك الأرض هو صراع ديني يعود في أسبابه المباشرة إلى احتلال فلسطين، ولكن يعود في مرجعيته إلى الكتاب. المستوطنون يصرّون على اقتحام الأقصى، حيث لم يتبق الكثير من الوقت للمباشرة ببناء الهيكل للمرة الثالثة، مع أنَّ أحداً من المؤرخين أو الآثاريين لم يجد أية دلائل على وجوده وبنائه لا في مرة أولى ولا في مرة ثانية!!

حماس، لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى أولى القبلتين مزدحماً بالقلنسوات ومهدداً بمعاول (سليمان). المستوطنون لديهم كتاب، بلى، وحماس لديها كتاب أيضاً. إذاً لا خيار ولا سبيل للمواجهة المتوازنة عقيديّاً إلاَّ بمرجعيّة الكتاب. وفق هذا النحو يأخذ الصراع أحد معانيه بكونه ينتمي إلى الحروب الدينيّة.

لم يمض إلاَّ بعض الوقت على بداية طوفان الأقصى، حتى أشهرت إسرائيل ومن معها العدة الدينيّة المقابلة. نتنياهو سيقول لاحقاً أمام الكنيست: ” سيف داوود خرج من غمده وقوس جوناثان انطلق…”. من الأراضي الأميركيّة سينادي السناتور ليندسي غراهام بأعلى صوته:” نحن في حرب دينيّة هنا، أنا مع إسرائيل. قوموا بكل ما يتوجب عليكم القيام به للدفاع عن أنفسكم، قوموا بتسوية المكان”. سيستجيب نتنياهو وسيطلق على العملية التي ستقوم بها إسرائيل اسم “السيوف الحديديّة” استلهاماً من سيف داوود ورداً على طوفان الأقصى، لأنّه يؤمن قائلاً: “لا يفلّ الحديد إلا الحديد”.

وفي الحروب الدينيّة تصبح: لا يفلُّ الكتاب إلاَّ الكتاب!!

-8-

مشروع فلسطين الآن، موزّع على حاملين، الأول، حامل السلطة الفلسطينيّة التي غادرت منظمة التحرير الفلسطينيّة، منذ وقعت اتفاقيات أوسلو (1993 – 1995)، ومن ثم عدّلت الميثاق الوطني الفلسطيني في تراجع سيادي كارثي، لتتحول مع غياب زعيمها التاريخي ياسر عرفات (تشرين ثاني – 2004) إلى مجرد (إدارة ذاتيّة) ترتهن بوجودها إلى ما يُعطى لها وما يُسمح لها بالقيام به من قبل إسرائيل، وهي الآن تنتظر أعجوبة (حلّ الدولتين).

الثاني، حامل المقاومة الاسلاميّة بتنظيميها الرئيسين حماس والجهاد، مع ريادة واضحة للأولى اكتسبتها في سياق تعاظم قوتها شعبيّاً وتمكّنها من السيطرة على السلطة المدنيّة في غزة التي هي بالأصل، امتداد لسلطة رام الله، قبل أن تنحسر هذه السلطة من قطاع غزة تماماً.

حركة المقاومة الاسلاميّة (حماس) التي قامت بعمليّة السابع من تشرين أول، تنتمي إلى أرومة الإسلام السياسي، وهي لذلك تحمل الإشكاليات نفسها التي يحملها، وأولها المكّون العقائدي المرجعي الذي يعود إلى القرآن أولاً ومن ثم إلى المصادر المتباينة بين المذهبين الإسلاميين: السني والشيعي وسرديتيهما. والاشكاليّة هنا تتمثل بكون سرديّة الإسلام السياسي ذات مضمون اختزالي يتجه نحو جماعة خاصة. وهو لذلك يفرّق ولا يجمع. الفعل المقاوم الذي تقوم به حماس أو الجهاد يستقطب كل وطني أو قومي أو علماني إلى جانبه، لكن مع انتفاء هذا الفعل تضرب الفرقة هذا النسيج الذي يبقى مهدداً بالحروب الأهليّة المتناوبة. المقاومة هي الجامع ومع غيابها يغيب التحالف. هذه الاشكاليّة لا تخص حماس وحدها، بل هي الطبيعة التكوينيّة للإسلام السياسي بمختلف تنويعاته المذهبيّة ومرجعياته التاريخيّة.

في المقلب الثاني من المتوسط وشاطئ الأطلسي، خرج الأوروبيون من قارتهم، ابتداءً من أواخر القرن الخامس عشر، واتجهوا غرباً نحو العالم الجديد على ظهر مراكب ترفع أشرعتها عالياً، فيما هم يشهرون الكتاب الديني بأيديهم. لم يكن هذا الكتاب سوى التوراة. في فصوله وجدوا أميركا: الأرض الموعودة، وبتوصيات إلهه التزموا وقاتلوا وانتصروا وملكوا البلاد من أولها إلى آخرها. بعد قرنين تعلم اليهود الأوروبيّون الدرس الأميركي جيداً مع الحركة الصهيونيّة، التي هي الحركة الرائدة لليهوديّة السياسيّة ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر ليتجهوا نحو فلسطين وهم يشهرون بأيديهم الكتاب نفسه: التوراة.

تحت هذا الكتاب الحامي، يمكن طبعاً رؤية كل الخطط الاستراتيجيّة والأسباب التاريخيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسكّانيّة التي تسببت بهذه العمليات الكبرى غرباً وشرقاً، كما اقتضت رفع الكتاب عالياً.

لماذا هذا المقطع الذي اعترض مقاربتنا للإسلام السياسي؟

في نادي (الأديان السماويّة) سيتم ترتيب أسبقيّة تاريخيّة للكتب، ليتبوأ كتاب التوراة تلك المكانة المرجعيّة المميزة والحاكمة للكتب التي جاءت بعده: الانجيل والقرآن. ووفق هذه المرجعيّة وسرديتها تم التوصّل إلى مصطلح الديانات الابراهيميّة. وبسبب من المرويّات التوراتيّة التي يتضمنها القرآن، ستبدو إشكاليّة الانعتاق من المرجعيّة التوراتيّة وخصوصاً عند حركات الإسلام السياسي في غاية التعقيد.

السلاح الذي استخدمه (المسلمون) عبر التاريخ في سبيل تأكيد الاختلاف عن أتباع التوراة، ليس سوى: التأويل، أي قراءة النص على غير ما يعنيه مباشرة. فالتأويل هنا “حيلة تاريخيّة” تلجأ إليها الجماعة لتتحرر من السلطة المرجعيّة المباشرة.

الابراهيميّة الرائجة اليوم والتي تحت لوائها تُعقد الاتفاقيات – التطبيع – والتي مشروعها لا يزال يتقدم، تتطلب أولاً وقبل كل شيء، التسليم غير المشكوك فيه بمرجعيّة الكتاب المؤسس للديانات الابراهيميّة: التوراة. والحال لا بدَّ من إبطال التأويل، وإلغاء هذه ” الحيلة التاريخيّة” وتوضيب النص القرآني مستسلماً لمعناه المباشر.

حركات الإسلام السياسي التي تقاتل إسرائيل تتسلّح بمنهجيّة التأويل، فيما استسلم دعاة الابراهيمية لسرديّة النص الابراهيمي المرجعي المؤسس: التوراة، وما جاء متوافقاً ومؤكداً له في النص القرآني.

على أنَّ حركات الإسلام السياسي، ليست فرقة دينيّة خالصة لها تأويلها الخاص وحسب، بل هي حركة سياسيّة تتعامل مع وقائع تتغير وتتبدل وفق قانون المصالح. وبسبب ذلك لا تعود قادرة على الالتزام برؤيتها الخاصة وتأويلها المحدد لعقيدتها، بل لعلها تأخذ بالتأويل الدائم المرادف للإفتاء الدائم حسب الحاجة فتصبح بعض تنظيماتها من طبيعة وظيفيّة قابلة للتغيير حسب الحالة.

يمكن معاينة حركة حماس وهي تتوضّع بين ثلاث مرجعيات سياسيّة تمثّلها دول إيران وتركيا وقطر!!

تباين المواقع التي فيها هذه الدول يستولد تساؤلات مشروعة حول طبيعة علاقة حماس مع كل منها؟ (أول الأسرى – الرهائن – الذين أفرجت عنهم حماس كانوا من التابعيّة الأميركيّة / الجنسية الثانيّة، وذلك بوساطة دولة قطر ورعايتها؟).

بطبيعة الحال، لهذه المرجعيات السياسيّة – الدول، خططها الخاصة المتباينة التي تصل إلى حد التناقض أحياناً، ولكن حماس تعود إليها كلّها!!

سيؤكد تورّط حماس السريع إلى جانب جبهة النصرة وداعش وغيرها من تنظيمات في مواجهة الجيش السوري وحلفائه ابتداءً من العام 2011، الجانب الوظيفي في طبيعتها، وهو الجانب الذي تقرره مرجعياتها بكل الحالات. في هذا المثال، قاتلت حماس من يفترض أنه أحد حماتها الكبار، بل عمقها الاستراتيجي، وعلى ذلك انتصرت لـ (وظيفتها) في مواجهة ما يسمى (محور الممانعة) الذي تنتمي إليه لسبب يوحده معها والذي هو سبب وجودها (مقاومة الاحتلال الإسرائيلي).

بالمعنى السياسي، انشقّت عن محورها بقوة المرجعيّة التركيّة – القطريّة.

مع هذه الإشكالات البنيويّة المهمة التي لا يمكن تجاوزها، ظلت حماس رهان المقاومة المسلحة في فلسطين إلى جانب الجهاد الإسلامي، وهو رهان قائم وحاضر ومستند لوجستياً واستراتيجيّاً إلى المرجعيّة الإيرانيّة.

من هذه المنصّة قدمت حماس حدثها الأهم في تاريخها: طوفان الأقصى.

-9-

7 تشرين أول 2023، بدأ طوفان الأقصى بعمليّة استثنائيّة غير مسبوقة… بدا الطوفان متجهاً صوب إسرائيل في وجودها ومعناها. بضعة أيام كانت كافيّة كي ينحسر الطوفان ويبدأ الحريق، حريق غزّة الذي لا يستهدف ترميّد غزة وتفحيمها، بل حرق فلسطين كلها في وجودها ومعناها؟

إذاً، ما هي هذه اللحظة؟

من اتخذ قرار رفع الرتاج عن السدّ ليبدأ الطوفان؟

هل هو قرار اتخذته حماس وحدها، لتبدو كـ (ذئب منفرد) لم يعد لديه من سبيل سوى المغامرة بوجوده ووجود غيره؟ ولماذا قرر (الذئب المنفرد) التحرك فيما المشهد الإسرائيلي يشهد أحد أكثر أزماته السياسية حدة؟ أزمة بطيوف ثقافيّة واجتماعيّة غير مسبوقة؟

وماذا بشأن مرجعيات حماس الاقليميّة: إيران وتركيا وقطر؟ هل من قطبة مخفيّة في هذا التطريز المعقد لثوب علاقات حماس المزركش؟ هل من خداع استراتيجي؟

بعض الذكرى فيها ما يساعد، ولكن ليس ما يحسم، قصّة الرئيس صدام حسين معروفة تماماً، كيف استقبل السفيرة الأميركيّة أبريل جلاسبي في 25 تموز 1990، ليضعها بصورة ما يقوم به لتسوية النزاع مع الكويت دون أن يخفي عزمه على اللجوء إلى القوة إن اقتضى الأمر ذلك، وتلقى منها تشجيعاً مبطناً بلغة سياسيّة دون أن يلحظ منها أي اعتراض على الاطلاق. وكان ما كان وبدأ طوفان الجيش العراقي ليغمر الكويت بلحظات… لكن ليعقبه احتراق العراق!

نستذكر لنعود لنتساءل بالمقابل، هل القرار يعود لمحور الممانعة الذي تقوده إيران؟ وما هي ملامحه الاستراتيجيّة؟

إلى هذا الوقت، انقضى القرار مع انحسار الطوفان في اليوم التالي، ليبدأ حريق غزة، دون أي تدخل استراتيجي من أعضاء محور الممانعة!

إذاً، الحدث انقلب ليكون إسرائيليّاً في مشهده، ولكن مع قيادة أميركيّة بخلفيّة استراتيجية تبدو متجهة نحو حالة من السفور التام.

-10-

القنبلة النوويّة يمكن تعطيلها بالاقتراب من مالكها. (الخيار: دليلة)

هذا ما يفعله الشعب الفلسطيني بالتحامه بمالك القنبلة: إسرائيل.

-11-

القنبلة الديمغرافيّة – السكانيّة في حالة انفجار دائم، لا يمكن تعطيلها ووقف انفجارها إلاَّ بإبعادها أو قتلها.

هذا ما تحاول إسرائيل القيام به دائماً: إبعاد الشعب الفلسطيني أو قتله.

مع حريق غزة بدأت إسرائيل تفعيل استراتيجيّة تعطيل القنبلة السكانيّة الفلسطينيّة.

-12-

عملية السابع من تشرين أول، هزّت إسرائيل كوجود ومعنى، وهذا إنجاز كبير جداً، إنجاز تُرى فيه إسرائيل وقد تراجعت من (الدولة) إلى (المسألة)، لكن هذا الإنجاز لا يمكن أن يتحول إلى انتصار دون حماية. حماية استراتيجيّة لا تبدو ملامحها واضحة في الأفق المنظور.

لكن، مع هذا التراجع، استعادت إسرائيل عصبية الصهيونيّة الأولى، تعود مع زئيف جابوتنسكي… تعود مع الهاغانا… تعود مع سفر التثنيّة… تعود مع نبوءات الكتاب … تعود لتقتل البشر وتدمر الحجر…

إن نجحت، سنتوه في بريّة هذا العالم.

-13-

بصراحة: أخشى أن فرصتنا في العصور الحديثة، فرصتنا في أن نكون أمة مستقلة سيدة وذات سيادة، قد انقضت. لا زلنا نقاتل ونقاوم بمخزون تاريخي قديم، نقاتل بإنساننا العتيق، بأفكارنا الرثّة، حامل مشروع المقاومة عندنا ديني، الحامل القومي ضعيف.

لم ننتصر على ذاتنا العتيقة، لم ينتصر الإنسان الجديد فينا، فكيف سننتصر على أعدائنا!!

-14-

بصراحة: طوفان الأقصى بدأ… وانحسر!

وبصراحة: حريق داوود بدأ… وملح سدوم وعمورة يقتل الأرض ومن عليها…

إذاً، هي حرب الكتب على الأرض، حرب الكتب من أجل الأرض، حرب الكتب التي سقطت أغلفتها، الكتب المكشوفة. الكتاب نفسه الذي دار العالم، الذي ملّك أتباعه العالم الجديد ثم قادهم إلى فلسطين…

الكتاب دون غلاف: عارٍ تماماً، ترى من ورائه الاستراتيجيّات الكبرى وقد تخلّت عن الفصول التكتيكيّة التي تضلل الرؤية. الأساطيل البحريّة والمدمرات والصواريخ العابرة للقارات. حرب أوكرانيا، وجود روسيا في هذا العالم، الصين وطريق الحرير الجديد، الهند وطريق التوابل الواصل إلى تل أبيب، الخليج والزمن الابراهيمي، إيران التي تتجه نحو الغرب منذ قورش الكبير، تركيا التي خلعت قبعة أتاتورك، وعادت لتمرّن رأسها على ارتداء طربوش عثماني ضائع ومقضي… النفط… الغاز… التكنولوجيا العالية…

الغرب الذي سيقاتل في سبيل تفوقه المستمر منذ أكثر من ثلاثة قرون.

الولايات المتحدة التي تشعر أن البشرية برمتها طوع بنانها، وأن مستقبل الانسانيّة اختصاصها وحدها.

هل حريق غزة ينتج كل هذه التداعيات؟

بلى، الأرض ضاقت على الاستراتيجيات من زمان. من غزة، أضيق مكان محاصر بأقوى الأسلحة والأساطيل، يمكن تفحّص كل هذه التشابكات وغيرها.

-15-

مع هذا العراء الاستراتيجي التام، حسم هذه المعركة سيكون في وسط الهلال الخصيب.

ليس لأن نتنياهو يتوعد بتحقيق (نبوءة) أحد أنبياء التوراة:

“وحي من جهة دمشق: هوذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رُجمة من ردمٍ.” (أش 17/1).

بل، لأنَّ ذلك الوسط هو السرّ الاستراتيجي الكبير مذ تأسس كحاجز يفصل بين الامبراطوريتين الرومانية غرباً عن الفارسيّة شرقاً.

هنالك ولدت داعش وقامت بوظيفتها على نحو مثالي: إنتاج المشاع الجيوسياسي؟

 مَن حلّ محلها، مَن يدير ذلك المشاع؟ مَن يوجد هناك؟

الأميركيون هناك، لا ليبحثوا عن الكمأة السوريّة الطيبة … إنهم هناك ليقفلوا كل هذا المشهد الذي استدعاه حريق غزة.

-16-

نبوءة التوراة: حرق الساحل، غزة. إزالة دمشق.

نحن بين أن تتحقق النبوءة، أو نقول إنّها: خرافة؟

الحريق على الساحل الآن، والحسم في الوسط.

‫3 تعليقات

  1. أبعاد عقلانية هائلة في كل كلمة نطقت بها. ان من يقوى على دراستها بالعمق المطلوب سيكون بحاجة للتدقيق الواعٍ في كل فقرة بمكوناتها وبمفردتتخا للوصول إلى الرؤيا المقصودة من هذا البحث القيم… دمت

  2. اعمق تحليل قرأته حتى الآن للمشهد العام “لواقع صراعنا التاريخي” (القومي) الذي شوهه الفكر القطعاني امام اعيننا (ونحن نتلهى ونلهو باللعبة السياسية وتتهافت على مكاسبها لنهوي الى قاعها). يا خوفنا من صفحات التاريخ التي ستقرؤها اجيالنا القادمة. وأقسى ما فيها ان تقرأها في بلاد الشتات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق