العالم الآن

ألواح غزّة

اللوح الرابع: فلسطين والعالم: "الغرب الأخير" عدونا... وأملنا!!

-1-

ماذا نقصد عندما نتفحّص كيف يتعامل “العالم” مع ما يجري في فلسطين؟

بل، من هو هذا “العالم” الذي نقصده؟

هل هو على نحو الاجمال تلك المليارات التي تجاوزت الثمانية، وتتكاثر يوميّاً على أرض تضيق بها يوماً بعد يوم؟

هل “العالم” الذي نرصد رؤيته إلى فلسطين، نرى فيه دولة كإندونيسيا مثلاً؟ أو الفليبين؟ أو غانا؟ أو الأرجنتين؟ أو رومانيا؟ أو حتى الهند؟ بل والصين؟

أنشعر بالخيبة الشديدة لأنَّ مستوى الوحشية السائد في غزّة لم يوقظ ضمير هذه الدول فعلاً؟

دون أدنى شكّ، كل ما تم تعداده من هذه الدول مع غيرها ممن هي موجودة إلى جوارها أو بعيدة عنها، ولكنها مشابهة لها، ليست هي “العالم” الذي نتصوّره أو نعنيه، ولا العالم الذي ننظر إليه على مدار الساعة ونترقب أفعاله وما سيقوم به، ونأمل منه أن يقوم بفعل ما، بل أن يقوم بمعجزة ما توقف هذه المذبحة الكبرى التي لا يبدو أن فلسطين قادرة على مواجهة من يولم لها ويغذي نارها ويبشّر بتوسّعها.

ليس “العالم” بنظرنا سوى ذلك الغرب المقيم على ضفتي المحيط الأطلسي، غرب بجسد مزدوج أوروبي – أميركي شمالي، ولكن برأس أميركي واحد لا شريك له.

كل ما عداه، ليس سوى فائض سياسي مربك ومرتبك يُصنّف كـ “عالم آخر”، ولا يُرتجى منه القيام بأفعال مؤثّرة على مصير شعوب هذه الكرة الأرضيّة، حتى الشعوب التي تقيم فيه!!

“الغرب” تحديداً هو هذا “العالم” الذي نتصوّره، ونقصده، ونحدّق فيه باستمرار، علّه يتغير، علّه ينتفض على نفسه، علّه يتأثر.. يبكي.. يندب.. يغضب.. يشمّر عن ساعديه.. ويقول: كفى!!

وبالرغم من أنّه لم يقل ولا مرة كفى في سياق تاريخ المجازر التي ارتكبت بحقنا، وبالرغم من أنّه يقف دائماً في الموقع المعادي لنا والمتعضّي مع إسرائيل، إلّا أنَّ تحديقنا فيه لا يتغيّر وأملنا بأن يقوم بشيء ما يبقى موجوداً دائماً!!
نبدو كمحكومين بنظرة تطابق رؤيتنا إلى العالم برؤيتنا إلى “الغرب”.

بالنسبة لنا، العالم هو “الغرب”.

-2-

ليس المجال الذي نخوض فيه الآن معني بـ “الغرب التاريخي”، الذي ودّع القرون الوسطى في منتصف القرن الخامس عشر، وبدأ يصنع قروناً جديدة، ليست في نهاية الأمر سوى قرونه هو بقيادته وسيطرته. مجالنا هو الغرب الحديث، بل “الغرب الأخير”، الذي يمكن التأريخ لبدايته مع تمكن النيوليبرالية من الشروع في إعادة مأسسته في بداية الثمانينيات من القرن العشرين.

في المجال الذي نعنيه، يمكن أن نرى “الغرب الأخير” من منصّتين – حدثين كبيرين:

الأول: سقوط جدار برلين ابتداءً من العام 1989، ومن ثم تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية برمتها.

الثاني: أحداث 11 أيلول 2001، التي أدت إلى سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك مع أكثر من ثلاثة آلاف ضحية، بهجوم انتحاري أعلنت الولايات المتحدة أنَّ منظمة القاعدة مسؤولة عنه تخطيطاً وتنفيذاً.

غالباً ما يُرى ركام جدار برلين على الجانب الشرقي حيث ترقد تحته جثّة الاتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي برمته، ولكن هذه الرؤية تبقى ناقصة وقاصرة إذ تغفل ذلك الركام الذي انهال على الجانب الغربي ليطمر المعنى الحقيقي للسياسة في “الغرب”، بقضائه على الثنائية المتوازنة والمتفاعلة على الدوام بين قطبي النظام السياسي: السلطة والمعارضة. مع سقوط جدار برلين سقط المحتوى السياسي للمعارضة وتحوّل النظام الرأسمالي بهذا المعنى إلى نظام شبه شمولي مدجج بعنوان “الحوكمة”، التي أجهزت على أي فكر أو اتجاه تغييري، مساهمة في تعبيد طريق تأبيد الرأسماليّة.

مع الحدث الثاني تم قمع المعارضة في السياسة الدولية، بعد أن تم إعدام النظام الثنائي القطب مع الحدث الأول، فسادت الولايات المتحدة قائدة “الغرب الأخير” السياسة العالمية وفق منطق ثنائي مدجج بالمعاني الأخلاقية: خير – شر (معنا – ضدنا).

حاولت فرنسا التمرّد على هذا النظام الجديد للغرب، بمناسبة انعقاد مجلس الأمن الدولي في 14 شباط 2003 لبحث مسألة التدخل في العراق في ضوء تقرير المفتش الدولي هانز بليكس. في هذا الاجتماع مثّل فرنسا دومينيك دي فيلبان الذي استلهم التمرّد الديغولي على حلف شمال الأطلسي وألقى كلمة من خارج اللغة السياسيّة السائدة وصفها وزير الخارجيّة الأميركي آنذاك كولن بأول بأنها “خطاب مثالي”.

رحلة انتهاء حالة التمرّد الفرنسية بدأت مع قمة الثماني في حزيران 2003، واختتمت باستسلام فرنسا تماماً، في حزيران 2004، بلقاء بوش – شيراك خلال الاحتفال بذكرى إنزال النورماندي.

من العام 2004 وحتى العام 2024، يمكن ملاحظة وجود محاولة وحيدة للتمرّد تمثلت بانتفاضة السياسي البريطاني المعارض رئيس حزب العمال جيرمي كوربين، الذي وجد نفسه في العام 2020 موقوفاً بقرار من حزبه بسبب من تقصيره في مواجهة حالات (معاداة الساميّة). وكوربين نفسه من يقود اليوم حملة التضامن مع فلسطين، في بريطانيا.

خلال العقدين الأخيرين، ازدادت قوة العلاقة بين إسرائيل والغرب الذي ساعدها في مختلف حروبها على لبنان وغزّة التي تحوّلت منذ العام 2006 إلى أكبر معتقل للسكان في التاريخ بسبب الحصار المحكم عليها من مختلف الجهات.

-3-

منذ خمسة أشهر، تواظب إسرائيل على تنفيذ عملية عسكريّة، بمنهجيتها ونتائجها تأخذ مواصفات الإبادة الجماعيّة، وقد اخترنا – واختيارنا مقصود – “موسوعة الهولوكوست” كمصدر لتعريف وتحديد هذه المواصفات التي تم الاجماع عليها في الاتفاقية الدولية في العام 1948. جاء في الموسوعة: “الإبادة الجماعيّة تعني ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكليّة أو الجزئيّة لجماعة ما على أساس القوميّة أو العرق أو الدين، مثل:

(أ) قتل أعضاء الجماعة.

(ب) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.

(ج) إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشيّة للجماعة بشكل متعمّد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليّاً أو جزئيّاً……”

 وهذه المواصفات ومظاهرها، التي تنطبق على العمليّة العسكريّة الاسرائيليّة، تحاكي مستوى من العنف والوحشيّة يُفترض أن يُوقظ ويحرّك الضمير الإنساني برمته.

نحن كنا ولا زلنا ننتظر أن تؤثّر فصول هذه الإبادة في العالم ونقصد “الغرب” الذي بحكوماته كلّها لم يصل إلّا للتمني على إسرائيل بمراعاة المدنيين وتخفيف الخسائر منهم ما أمكن، والعمل على وقف مؤقت لإطلاق النار لأسباب إنسانيّة، لتسهيل إدخال المساعدات الغذائية. كل ذلك بلغة سياسية مواربة، خوفاً من التأنيب الإسرائيلي لكل ذي صوت احتجاجي.

ماذا يعني ذلك كله؟

يعني وبوضوح شديد، أنَّ العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة تخدم أهدافاً مترابطة جيوسياسيّة واقتصاديّة لأطراف متعددة ومتضامنة، إضافة إلى كونها تخدم استراتيجيّة التطهير العرقي التي تعتمدها إسرائيل منذ تأسيسها. ولا يمكن إنجاز هذه الأهداف وخدمة هذه الاستراتيجيّة دون حصول هذه العملية بالمواصفات التي تجري وفقها.

قراءة “الغرب الأخير” مع قراءة الأبعاد الحقيقيّة للعمليّة الإسرائيليّة، تجعل من التحديق في الغرب وانتظار شيء ما منه عملاً فاقد المعنى، ضائعاً في متاهة لا تنتهي.

-4-

لماذا في كل مرة تقوم بها إسرائيل بعملية تحاكي معنى الإبادة الجماعيّة، أو مجزرة تصل إلى مستوى سحيق من الوحشيّة، نتطلع إلى الغرب على أمل تغيير موقفه؟ وهو مصنّف كعدو وخصم، فيما لا نتطلع إلى الصديق والحليف الذي بدوره لا يغيّر موقفه قيد أنملة، وإن تغيرت لغته ولهجته ودعواته؟!

-5-

دومينيك دي فيلبان، الذي سخر كولن بأول من خطبته المثاليّة ذات يوم، يقول في تصريحات صحفية غداة عملية حماس في السابع من تشرين أول 2023، وبداية العمل العسكري الإسرائيلي في غزّة، يقول: “يجب علينا الانتباه والقلق لأنَّ القضيّة الفلسطينيّة لم تطرح على الطاولة ولم تسلّط عليها الأضواء لدرجة أنَّ معظم الشباب في أوروبا اليوم لم يسمعوا بها من قبل. من حديث دي فيلبان لقناة بي أف أم الإخباريّة”.

حسناً، ها قد عادت القضيّة الفلسطينيّة مع عملية حماس ومن ثم العمليّة الإسرائيليّة، إلى الشارع الغربي، حيث تشهد أكثر من 50 مدينة أوروبيّة وأميركيّة وكنديّة قيام مظاهرات أسبوعيّة في شوارعها وساحاتها تأييداً للحق الفلسطيني وتنديداً بالإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل.

بالرغم من ذلك، يبدو أننا سننتظر وقتاً إضافيّاً لنرى إن كانت هذه الحشود في شوارع المدن الغربية ستفرز قوى سياسيّة مؤثّرة أو لا؟ الحكومات الغربيّة لا تتعامل معها كمعارضة سياسيّة تقليديّة، بل كحالة من خارج السياق السياسي السائد، لذلك تبادر الشركات والجامعات والمؤسسات للاقتصاص من موظفيها الذين يشاركون في هذه المظاهرات. وصل الأمر برئيس الوزارة البريطاني للقول بصوت عالي النبرة “شوارعنا محتلة، وسنصدر قوانين لتحريرها”!!

-6-

في 28 شباط من العام 1986، تم اغتيال أولف بالمه، رئيس وزراء السويد ورئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي. الرجل اقترب سياسيّاً من القضيّة الفلسطينيّة أكثر من المسافة المسموح بها، وفق المقاييس المعتمدة في “الغرب الأخير” الذي منه إسرائيل.

-7-

عبارة الشاعر الإنكليزي روديار كيبلينغ الشهيرة: “الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً” ستكون خارج المعنى الثقافي والجغرافي، مجرد تضليل للرؤية.

“الغرب” يقيم في مخيلة “الشرق”، بل يحتل تلك المخيلة.

هل نقول إن تحرير تلك المخيلة، يحررنا من الانتظار الدائم للغرب كي يقول لإسرائيل: كفى.

بلى.

——–

يتبع…

‫2 تعليقات

  1. شكراً أستاذ نزار
    تحليل منطقي مبني على متابعة لأحداث مفصلية لا يلحظها ويبني عليها إلا المفكر والمحلل السياسي الحاذق.
    – هل علينا المراهنة على ما يمكن أن تؤدي إليه المظاهرات في مدنالغرب من تأثير على اختيار النخب الحاكمة . ماذا نأمل من هذه المراهنة ونحن نرى المجتمع الأمريكي مخيراً بين / أو مجبراً على / التصويت على واحد من اثنين : رجل مارق وآخر مصاب بعته الشيخوخة.
    – هل النصير لقضيتنا في الشرق قادر وفاعل لنراهن عليه.
    – أم إن العلة فينا وفي تشتتنا وبحثنا العبثي عن الهوية والانتماء.

    1. شكراً جزيلاً دكتور ميخائيل على إضافتك وملاحظتك التساؤليّة، ودون شكّ، أتساءل معك باحثاً عن أصل العلّة… وأجده تماماً في تشتتنا وبحثنا العبثي الدائم عن هويتنا ووجودنا… دون أن نصل إلى قوام وجود واحد وموثوق تاريخيّاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق