جماليات

إنّهم ينهبونَ الحياة!!

[في العام 1989، كتب الشاعر فايز خضور هذه القصيدة، وذلك إثر شيوع خبر المشروع التركي الذي يهدف إلى جرّ مياه نهر الفرات لتصل (إسرائيل) وتتابع حتى السعودية]

فراتْ.

سلامٌ، من الغَسَقِ اليَعربيِّ إلى رعشةِ الفجرِ.

طارتْ بهِ قافلاتُ الحجيجِ ـ التوابيتِ،

من طُورِ سِيناءَ حتى حواكيرِ مكَّةَ، مسعورةَ بانفجار  »النبأْ«:

(سيُبعثُ من رِمَّة الرملِ وهْمُ الشَّتاتْ.

ويُجلى عن الحقد والسيفِ والصولجانِ، حِصر الصدأْ…!

وتنهضُ أسواقُ  »خَيْبَرَ« صخَّابَةَ البِشْرِ.

يزهو صيارفةُ القتلِ، باللؤلؤِ الأعجميِّ.

وتَخْضَلُّ سُودُ البساتينِ، حول صحارى » سَبَأْ«…

ويجثو على الأُمم الباقياتِ رِهانُ السُّباتْ…)

فراتْ.

أحييِّكَ باسمِ طيورِ الظمأْ.

وأنخو هياجَ الهدير المصفَّدِ، في عُزْلَةِ الضفتينْ.

إلى أينَ ينأى بكَ الغَمْرُ يا أبتَرَ الساعدينْ:

مَصَبّاً ونبعاً…؟!

أُسائلُ عنكَ سجاياكَ، بين اللُّقى والطواطمِ.

بينَ حُطامِ الحضاراتِ والأبحدياتِ.

بين البلاد العريِقةِ،

والطارئاتِ من الدَّسْكَراتِ التي طوَّبوها لهمْ »وَطَناً«.

وَهْيَ مستَوْطَناتْ…!

ويعرفُ لؤمُ التجاهلِ. أيَّةَ معمورةٍ في براريكَ.

تَنداحُ عَبْرَ العصور السوالفِ: أُفْقاً فسيحاً،

وذاكرةً للبرايا، وعَدْلاً، حميمَ الشرائعِ:

ـ عينُ بعينِ، وسِنٌ بسنٍّ، ولا رأْفةً بالجُناةْ ـ. ..!

ويَعلَمُ حَشْدُ النبيِّينَ والتابعينَ، وشتّى الغزاةِ،

بِشَرْخِ الفروقاتِ، ما بينَ،

أرضٍ بشَعْبٍ، وما بينَ لصٍّ بمستعمراتْ…!

فراتْ.

هَلِ الشرقُ جافاكَ.

أَمْ ظنَّكَ التُّرْكُ إرثَ بِغاءِ العقائدِ،

»دُوغْماءَ« هَلْهَلَةِ الغَرْبِ…؟! والظنُّ إثمٌ جَمَامٌ،

برَغْم تجهُّمِ  »تبعيضهمْ« في مرايا الملأ…!

لعلَّ الخلائطَ فاضتْ بعقل الطواويسِ، حتى تراءى لها، أن تشريعَها

المذهبيَّ قديرٌ، على فَطْمِ نهْرٍ جليلٍ، وتغرّيبهِ عن سرير الطبيعةِ.

أو فَصْمِ نشوتِهِ ـ حُلْمِهِ، عنْ ولوج مَصَبَّاتِهِ الدافئاتْ…!

فراتْ.

تُراكَ تخيَّلْتَ ـ شَرْواكَ ـ نهراً عظيماً من الوجعِ الآدميِّ:

نخيلاً وورداً، ورزقاً حلالاً، يُهَجَّرُ،

طيَّ الأنابيبِ، محمولةً، في سعير الفَلاَةْ…؟!

لِمَنْ يا فراتِ…؟!

لمن يلعنونَكَ سِراً وجَهْراً.

ومن يلعنونَ أهاليكَ، صوماً وفِطراً، وحَجّاً،

ـ زكاةً إلى اللهِ ـ فجراً وصبحاً وظهراً وعصراً.

مَغيباً، عِشاءً، مساءَ التراويحِ قَبْلَ وبعدَ وَضوءِ الصلاةْ. ..!

سماسِرَةُ الزيتِ ورَّمَ أوداجَهُمْ بَطَرُ المُلْكِ،

فاستعَذَبوا أنْ تَتِمَّ مقايضةُ القار بالماءِ.

ما هَمَّهُمْ، جاعَ من جاعَ، أو ماتَ مَنْ ماتَ.

ما هَمَّهُمْ عَطَشُ الحقِّ والغيمِ والكائناتْ…!

عِقالاتُهمْ والطرابيشُ ترفو عراها،

»أوَاصِرُ » دين حنيفٍ دعا للأخوَّةِ بينَ مُريديهِ:

جِناً وإنساً، طُهوراً ورِجْساً.

جَنوباً، شمالاً، وأدنى وأقصى الجهاتْ…

فيا سائقَ الغيث، كيفَ تناسلتَ فيهمْ.

ونَصَّبْتَ من سِفْلِسِ الوافديِنَ، حُماةَ الحَرَاماتِ.

كي يعبثوا بالودائعِ والرَّبْعِ والمكرُماتْ…؟!

لعلَّ الجنايةَ فيمَنْ تغاضى عن الذلِّ،

أو أسلَسَ الظَّهْرَ بينَ المطايا،

وعَلَّقَ بلواهُ في مِشجَب الحظِّ، والقَدَرِ اللا يُرَدُّ.

وأودعَ شكواهُ في قُمْقُم الغيب والفَرجِ المُجتبى بالدُّعاءاتِ،

فاستضعَفَتْهُ البهائمُ، والوحشُ والطيرُ والزاحفاتْ…

لعلَّ النوايا المريضاتِ، قد كشَّفَتْ عورةَ الراضخينَ.

على درب غرغرة الموتِ، وانزاحَ سِتْرُ السماواتِ

على مُقبلٍ مُمْحِلٍ، أمردِ العُشِ.

والشوكُ قهقهُ يختالُ غَنْجاً، بمضمارِ سيل الحفاةْ…!

أَخَصْيٌ ويبغي مصاوَلةَ الفحلِ، قولاً وفعلاً…؟!

أمَا ضاقتِ النَّفْسُ بالمهزَلاتْ…؟!

فراتْ.

أسائلُ عنكَ حنينَ القرابينِ: مِنْ نسوةٍ عاقراتٍ.

ومِن نسوةٍ متئماتٍ. ومن نسوةٍ عاشقاتٍ:

تمادى بهنَّ التطهُّرُ مِن عِفَّةِ النارِ،

فاْنسَبْنَ يمرحنَ في عسجدِ القاعِ،

يغسِلْنَ عن روحهنَّ غبارَ التقاليدِ،

والأولياءِ الظَّلومينَ، والقهرِ، والشائعاتْ…

عذارى، ويَحترِبُ البرقُ غيرانَ

من جمرهنَّ المرأْرِئِ في واجفِ الموجِ

يَشتَجِرُ النجمُ والبدرُ من عُريهنَّ المكابرِ.

تسهو المجاذيفُ عن طَلَب الرزقِ.

تُفلِتُ منها الأكفُّ، لِكَتْ الضَّراعاتِ،

يبتهجُ النهرُ، يَمنَحُ أحلى طقوسِ ضيافاتهِ،

وإلهاً، لاحتضانِ عَروساتهِ الوالهاتْ. ..!

يقيناً سخيَّ العذوبةِ،

أن الخلائقَ من مَضْغَةِ الطينِ، دبَّتْ على الأرضِ،

إلا صباياكَ، من نُطفة الماء والضوءِ مستولَدَاتْ…!

فراتْ.

تَنفَّسْتَ في رئةِ الكونِ مَجْداً، يُضوِّي حدائقَ بابلَ بالسِّحرِ.

آشورَ بالفتحِ.

سومَرَ بالوعيِ.

أغويتَ عَرْشَ أثينا وطُروادَةَ الحربِ، بالحبَّ والفِكْرِ.

فَتَّحْتَ أبوابَ حُلْمِ الممالكِ.

غنَّيتَ قبلَ ابتكار المزاميرِ، أنشودَةَ الخَلْقِ.

سارت بصيتكَ

حَمْحَمَةُ الخيلِ والريحِ والمركَباتْ…

فوافَتْكَ من كلِّ مِصْرٍ وخارطةٍ،

نُخبةٌ تنهَلُ الزادَ،

متخمةً بالنوايا النقيضاتِ، منهوكةً باحتمال الهِباتْ…!

هيَ الأرضُ تُعلِنُ أسرارَها

مِنْ سحيقِ الدهورِ.

إلى الأمسِ واليومِ، والمرتجى في ضمير السُّعاةْ…

فراتْ.

تناهى إلى مسمع الوقتِ ـ في صاخب الطوفِ ـ أنَّ امرأهْ.

تعنَّتْ، مخيَّرةً، أن تجيئكَ: رمداءَ، حتى تُخومِ العمى المدلَهِمِّ. فجاءتكَ.

مِنْ ها … هنالِكَ ـ مِنْ أرضِ أوديبَ * ـ جاسَتْ بقرطاجةِ العِشق،

مرَّت بقبرصَ، مرَّت ببيروتَ، مرت بعَمْريتَ، مرت بشمرا

ومرتْ… ومرتْ… ومرمَرَها اللَّوْبُ.

ناءت بمركبها هيبةُ الموتِ.

أوحى لها النوءُ ـ شطَّ بها ـ لارتشافِ

شِفاءِ العَمَايةِ، مِنْ نبعِ كيليكيا المستباةْ…!

فَمَنْ يَغسِلُ العتمَ عن طفلةٍ،

شرَّدَتْها السنينُ العَقُوقات،

واليُتم والخوفُ والهمزُ والنهيُ… والشعوذاتْ…!

هي الآنَ في واحةِ العِشقِ، تَرفُضَ عَّرافَةَ الغيبِ،

»والعارفينَ النَّصوحِينَ«. تكرَجُ ظبياً حنونَ المدامعِ.

تلهو حوالَيْكَ آمنةَ الخطوِ. فامْنُنْ عليها،

بغُصْنٍ طريِّ الأصابعِ، وامْسَحْ رمادَ الكوى المطفأَهْ…!

هلاكٌ مُريعٌ، تَقمَّصَ فيها ربيعاً، وأسرى بها.

مِن شطوطِ التغرُّبِ، حتى حفافيكَ:

توْقاً لهوفَ الشرايين، وعياً جَسُوراً، عَصِيّاً على الهَتْكِ.

لاذتْ بخصبكَ يبسانَةَ الحَلْقِ،

إني أعوذُ بنسْغِكَ من ظَبيْةٍ ظامئهْ:

تبارَتْ بترويعها، في فنون القنيصِ، كلابُ الطغاةْ…!

فراتْ.

أَجِرْها من اللعنة اللاحَقَتْها. وكَفكِفْ عذابَ قرونٍ.

تُشرِّشُ فيها المطامعُ: جيلاً يورِّثُ جيلاً من الحقدِ،

والجَشَعِ العالميِّ المموَّهِ، باليقَظةِ النهضويةِ،

والثورويَّةِ، والنُّور، والرأفةِ البشريةِ، والروحِ والشكلِ، والتسمياتْ…!

هي الآنَ في طَلْقها الموسميِّ،

تُكابدُ أفراحَها الموجِعاتِ،

وتُعلنَ فِصْحَ الكُماةْ…!

ترى غايةَ النهجِ، من خَلْجَة الحَبْو.

تَكبَرُ … تَكْبَرُ ما بينَ أحفادكَ ـ المؤمنينَ بَحتمْ الحضارةِ ـ

أترابها القاصمينَ قلاعَ المعادنِ والذعرِ، في »مَقدِسِ الشامِ«،

والسافحينَ دماءَ الوديعةِ للوطن الأمِّ،

والمنشِديِنَ ولادَةَ حُبٍّ جديدٍ، أصيلِ الصِّفاتْ…!

فراتْ.

سلامُ البراءةِ من صِبْيَةٍ، يرفَعُونَكَ في رايةِ الحقِّ،

ورداً عقيقاً، من القبوِ،

والسهلِ، والسَّفحِ، والجُلْجُلاتْ…

سلامُ الشراسةِ من صبيةٍ يكتُبونَكَ في القلبِ،

نَقْشاً بهيَّ التصاويرِ،

غِبَّ الذي كابدوهُ من الغِشِّ، في دفتر الحاكمينَ العَشُومينَ،

بعدَ فساد الصحائفِ والنُّطقِ والمِحْبَراتْ…!

فراتْ.

سلامٌ الشهادةِ من فِتيةٍ صدَّعوا جرَّةَ النومِ بالزغردات المهيبةِ،

يستنفِرونَ الكواكبَ للموسمِ الأُرْجوانيِّ مستلِهمينَ

شموخَ الإرادةِ، مستبشرينَ، وَهُمْ يَلهَجُونَ بعزَّة مسراكَ:

»ويلٌ ، وأكْوانُ وَيْلٍ، لِمَنْ ينهبونَ الحياةْ«

———————————————-

* – وهي مدينة طيبة أو ثيبا اليونانية، التي أسسها قدموس وأحفادُه السوريون، كما ورد في تاريخ الأساطير، وفي أوديسَّة هوميروس ـ النشيد الحادي عشر ـ

فايز خضّور

شاعر سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق