حلمت بأن بردى متدفق، واسع، في تلك المنطقة العزيزة قرب التكية. سحرني فارتميت فيه لأقطعه إلى الضفة الأخرى. وتبيّنت خلال السباحة أنه أعرض مما قدّرت فكدت أغرق. ساعدني شخص لا أعرفه قال لي: تمسكي بي! في المنام كان بردى فاتناً، فحاولت أن أستعيد المنام، وبقيت دقائق مغمضة العينين. لكنه تبدد.
واسيت نفسي: لم يرحل بردى فقط، رحل أكثر من عقد من العمر! خطفت الحرب من الأطفال مقطعاً من طفولتهم، ومن الشباب سنوات من شبابهم، ومنا كهولتنا. سرقت منا الطرقات إلى سهولنا وجبالنا وبحرنا. تتنقل الحروب الغربية علينا، لكنها لا تنتهي. ولدينا دائماً أحياء ينتظرون أن يستشهدوا. ألم يعبّر عنا الطفل الغزاوي الذي سئل عما يريد أن يكون عندما يكبر فأجاب: نحن لا نكبر!
أفسر بهذا الواقع الكآبة لأردّها. ثم أواجه الحقيقة. رحل الأبناء والأصدقاء، فقصُرت طرقاتنا، وقلّت العناوين التي نقصدها، وأصبح العمر أمامنا أقل مما خلفنا. كلام حزين؟ فلأبدده إذن! أتجاهل أن الطعام صار وجبات في أوقات محددة، ولم يعد من متع الحياة. وأن العطش إلى الغابات يقاس بثمن الطريق. وأن التنقل الصعب في المدينة يحرمنا من الأمكنة التي ألفناها، واستطلاع التي لم نألفها. نقيس الأشواق إلى المدى بالصبر على الزحمة وثمن البنزين. تحرمنا العتمة حلاوة المشي في الليل، وملمس النوافذ المضاءة التي توهم بالسعادة، وسحر الشوارع المزينة بالأنوار. ونلجأ إلى الشمس لأنها دفء ونور بديل.
نستنتج بهدوء مُرّ أن الحرب ليست القتل والدمار والتجويع والحصار فقط، بل السجن في موضوعات الحياة والموت، والسيادة والاستعمار، والمقاومة والاحتلال. السجن في مكان جغرافي محدود. بعُدت اللاذقية، وتناءت حلب، والرقة دمرت، والحسكة ودير الزور للمقاتلين فقط. كُسرت الأجنحة التي تعودت الطيران، وقرّب ذلك الشيخوخة.
لا! هذا الأسى ترف! يستطيع الرسام والكاتب والنحات والنسّاج أن يطوف في مدى، فيخترق الأسوار ويستدعي الحرية. لا حق في الوهن لمن في يده الريشة والقلم، والإبرة، والنول، والإزميل! واجبه أن يكون دائماً في قمة العمر! مسؤوليته أن يحرس الصلابة الروحية، والهمة التي لا تفتر! الزمن لهؤلاء امتداد كالكون الذي يتأمل العواصف لكنها لا تدمره.
مكابرة؟ لا! لأننا نحتاج إلى بروميثيوس المخلّد على الصخرة. وغلغاميش الباحث عن عشبة الخلود. نحتاج الايمان الذي لا يرتعش وهو يواجه أحكام الطبيعة واضطراب المجتمعات. في أول العمر تصورنا أننا نملك الزمن؟ ها نحن في قمة العمر نتبيّن أن الزمان خالد، ونحن فيه عابرون.
سألني جميل صليبا مرة في الامتحان الجامعي عن الزمن. أستطيع الآن أن أجيبه أجوبة متنوعة. منها أن الزمن يُمتلك ونحن نشيّد رواية، أو لوحة، أو معبداً، أو قصراً. ويُمتلك أمام رصاص الإعدام. ويمكن أن نستعيده وهو تاريخ فنعيش عمر أجيال. أو نثبّته كلمحة من ذكريات. ويمكن أن نمده بالأفراح والأسفار ومواسم الأزهار، لكن الغرب يسرقه منا، وكلما التهم جيلاً تناول جيلاً بعده، فحوّل حتى الماء والأنهار إلى وطن يجب أن ندافع عنه بالدماء.
نتمنى أن نمتد في زهر المشمش واللوز، وفوح زهر الليمون الناعم، وليالي البدر، وفي صفاء السماء الرائق! نتمنى ذلك الانسياب في السعادة الذي ينسينا عبورنا الخاطف! لكننا لا نمسك بأشعة الشمس عند المغيب لنستبقي النهار، بل ندفعه في انتظار الانتصار على الوحشية التي تملأ الفضاء.
———————-
تنويه: يُنشر هذا النصّ باتفاق مسبق مع السيدة الكاتبة، وهو منشور على صفحتها الشخصيّة.