جماليات

بريد الروحِ

رسائل في الحب، والمنفى...!

مدنٌ ميتة/ مدنٌ حيّة

لن نسرد ذلك السجل الكارثي الذي يبدأ من بابل، المدينة التي بنتها الآلهة كي تقيم فيها، ولازال مفتوحاً لكتابة الضحية التالية إثر الضحية السابقة في ارتماء، لا يبدو مفهوماً، في حضن الجحيم!!
بل نتهجى ما نعرفه الآن من هذا السجل…
بلى، هي مدننا: من بغداد إلى بيروت..
مدننا، التي دمّرها مرة الطغاة، ومرات الغزاة…
مدننا، التي دُمرت باسم الاله مرات، وباسم الثورات مرات،وباجتياح الهندسة السياسية مرات…
مدننا، التي رمادها عذّب الشمس كي تعود أشعتها إلى حاراتها وساحاتها وبقايا تاريخها…
من نذكر منها؟ من نسمّي؟
الموصل… الرقة… حلب… حمص… بيروت… القدس… غزّة… من منها يسلم من الاحتجاز في هذا السجل الذي لم نتمكن من تمزيقه وإغلاق شهوته الهائجة لكتابة الكارثة؟
مدننا، سنجول فيها.. نعاينها… نعاتبها… تعاتبنا وتشكونا…علّنا نعيد إلى دواخلنا/ ذواتنا، ما دُمّر فيها مع تدميرها؟
علّنا نعود إلى الحياة فيها ومعها…
الشمس لم تزل سلاحنا الأثير في مواجهة الرماد.

(نزار سلّوم)

بريد الروحِ

رسائل في الحب، والمنفى…!

أسئلة تبحث عن جواب...؟.  

د.يوسف بوزو               

ذات ليلٍ ونهارٍ، حين دمّروا كل شيء...

بكى النهر، والجسر، وصفّق الصفصاف من شدة الألم، ثمّ ناح الزيزفون على الغوالي “.

الرسالة رقم 01

—  — — —

[تصل متأخرةً إلى بريد الرقة الوضّاحة، في الوقت الذي كان النهار يغتسل بالنهر، والغبشةُ تلبس شالاً من قصبٍ، والمرايا أودعت أسرارها لأعشاش اليمام.. .

نام الجسر مقطوع اليدين، مبحوح الصوت...

مآذن الغيم صدحت بالحب، والعتاب...

مال قلبي، وصاح :

 كيف لروحي أن تصل أحلامها ؟]

——————————-

كيف أكتبكِ، وأنتِ ملأت العينَ، والقلبَ، والروحَ، والرؤى…؟

 داشرٌ خيالي في البراري…كيف أرسمكِ ؟

 صوتي المبحوح يصلكِ مذبوحاً على حدِّ الجسر، والسكين، مبتلّاً بالحنين يا ” زليخة “..؟

كيف أصلّيكِ، وأتلوكِ في فاتحاتي، والنهر نبيٌّ، ورسولٌ، والتعاويذ مني آياتٌ، ومرايا، وجسورٌ، وشهقة عاشقٍ، واشتقاقاتُ قمر…؟!

كيف أرسم وجهكِ في الحُلم الذي ما انفكَّ يبارحني ؟ .

النجوم سافرْنَ في النومِ آفلاتٍ، وتركْنَ الضوءَ، والوردَ جمراً للحشا…؟

  يا صورةً من نهارٍ بعيدٍ تعالى …

هامةُ الغيمِ، وهامتي، حين أسجدكِ طويلاً في الحب، والوله، والهيام، والعشق الذي لوّحَ لي بيديه كأكمام النخيل، وسعفه،

حين تكون التلاوة صمتاً في الصلاة، والصلاةُ قراءة في شهقة العاشق، ويكون الحب أوّل البوح الذي بات في خيال الدالية، وشروخ حيطان الدار الفخّارية، وعتبة الباب الخشبي العتيق، ويكون الشال الأخضر على حبل غسيل الضحى ملوّحاً بروحه للبراري الخضراء، تاركاً طارف الحلم لمحجريها، حين تتوسّط شجرة التوت في الحوش الجميل وهي ترنو إلينا، وتصغي لهمس روحينا، فتهتزّ أوراقها الخضراء جذلى من الحب، آخذةً أسراب الحُلمِ إلى أعشاش اليمام.

دعي ظلّي يرافق ظلّكِ يا حنونة، ويحبو خلفكِ كطفلٍ رضيعٍ…

يا حبّات الحليب التي تسّاقط حنيناً من مرايا الروحِ وأبعد.

سطوري هذه المضمّخة بالحب، والغياب، والحنين

ستصلكِ متأخرةً، حين أقطفُ لك وردة الضحى التائهة في ملكوته، والراكضة على الضفاف، وما تدلّى من حبل الغسيل…

إنّها تأخذ سرَّ الليل إلى روح الفرات سراباً، وعذوبةً، وجمالاً، ودلالاً.

سألمس قلبي، وأتحسّس نبضه، وأرسله على طارف الغيم بريداً في الحب، وقبلةً من عاشقٍ تاه على دروب الولَه، ونام في غيم المآذن، وفاتحات الصلاة .

يا قميصاً يفتح نوافذ الحُلم إلى اللون، والعذوبة، والمشتهى..

يا وجعي… يا أنين الناي ” السافر ” في بحّة القصب…

إنّي أبثّكَ ألمي، ومطارح وجعي، وما بات في قميصي من عبق الريحان الداشر في ” زريعة ” الحوش الجميل وهو يفتّش عن أخضر عينيها.

الرقة الوضّاحة في النهار، والليل، والنوم، والحلم ..

 الوضّاحة في تفاصيل الغيم، والدرب، والسماء، وما دشر من نجوم في هذا البهاء الجميل.

 الوضّاحة في خيال الغَرَبِ، وتمايل الشمس كرغيف التنّور، وخدّ الضحى، حين يستحي من طلعتها البهيّة !

قال الجسرُ :

هذا البياض من نهاركِ العالي الضحى، تعالي، وخذي بيديّ المشلولتَين، والغيم منّي خفيض على الروح يا ” زليخة ” .

ما ابتلّت سطور قصائدي، وما تقاطر التين من حلا في دمي، وما هجّ ريشٌ من أعشاش القبّرات وما نحفت أشجار الغَرَبِ من نشيد الإنشاد، والدمع ملء العين، ولا سواد يشارف شط الحُلم، لا…ولا زرقة السماء، ولا ما داخ في قاع الكأس الأخيرة وهو ينوح على الصدى…!

ليلْ…يا ليلْ…يا ليلْ

يداي مقطوعتان يا ” زليخة ” والروح نهر، وفقدٌ، ورقرقة … والجسر قلادة النهر الذي سبّح الليل، والنهار !

كيف أكون ساهر العينين في ليلكِ، وأنا لمّا أزلْ أراقب نجمة الصبح ألّا تأفل، وأتوضّأ بيدين مبتورتين في الحب، والمشتهى…؟!

ليلْ…يا ليلْ…يا ليلْ

أبكيكِ في الحب

وأبكيكِ في صلاتي

وأنساك في تعاويذ النهار، وما ابتلاني الله، الرحمن، الجبّار، القاهر، الرؤوف، الرحيم..

أهو الحب…؟

أم صلاة نسيها القمر على ظهره المحدوب ؟

أم تراني نسيت سجادتي على العشب الداشر في البراري ؟

قد اجتاحني العشق يا ” زليخة “، ونال منّي، وصار كحلاً لعينيّ الدامعتين على ” الراحَمْ، والترْكَم مكاتيبهم ، وصورهم معلكَة على الحيطان.. ” ؟

أنا احتفظ بصورهم، وما همست أرواحهم في قلبي وروحي يا ” زليخة “…!/ قال الجسر، وانسحب في قلب النهر مودّعاً قبّرات الغَرَبِ، وأعشاش اليمام .

صباح يومٍ جميلٍ، كان النهر يركض مسابقاً ضفافه إلى الحب، ونسي يديه في خيال الغَرَب، وأكمام النخل، وسعفه، حين التفتَ فجأةً، ورآها تعيد الوضوء في روحه، وتبدأ صلاتها في الضوء، وتقرأ فاتحات سجودها، وسهوها وهي تتجّه قبالة الغَرَب الحنون، وسألها :

– أبهذا الحب تعشقين يا ” زليخة “…؟

قد ضوى جسده، وصار نحيلاً كسروةٍ أمام الباب الخشبي العتيق…!

أعيدي وضوءك يا جميلتي، فهو لمّا يزل يتهجّد ليله الطويل في الحب، ولامست روحه سرير النهر، وراحة كفي.

أترينَ هذا الدخان وهو يصعد السماء العاشرة شاكياً…؟

إنّه البارود ” يا زليخة “.

إنه الغول الذي عاث فساداً، وتدميراً، وخراباً في الأرض. الأرض التي تشبهنا ونشبهها.

كان الصدى يأخذ معه رقرقة النهر، وحشرجة الجسر المكلوم، المبتور اليدين :

– إنّي أصلّي كي يكون ظلّ الجسر وارفاً على روحي، وكما ترى أيها النهر، فهو مقطوع اليدين، وفاتحات صلاتي باتت مقطوعةً إلّا من سجود بهيٍّ، وتلويحة من غياب…وتيمم بالماء، والماء منّي قريب …!

كيف ابتليتني بالحب يا أيها النهر، وأنا لا قلبَ لي يعشق إلّا الطير، وما تمايل من أشجار الغَرَب، وما ذاب في روحكَ من تسبيح، وما فاح من عبق الزيزفون البهيّ..؟!

يا أيها النهر هلّا أخذت إحدى عينيّ، وتركت الأخرى تضيء روح الجسر المكسور، وهو يعيد ذاكرته المهزومة بالحرب، والخراب..؟!

يا أيها النهر النبيّ هلّا نشرت كتبكَ، وصحفكَ، وآياتكَ البيّنات، كي نرى النهار نهاراً، والضحى ميالاً، ومصفّقاً على ضفافك الحالمات…؟!

ها… وقد وصلتني رسالة من أبي حيدر في بريد الروح يعاتبني فيها، كيف لا آتيه من أوّل الحُلم، كلّ الحُلم، وأكون له وردة الضحى الداشرة على الضفاف…؟

الحُلم بات باروداً، ودخاناً، وخيالاً من خراب، وسراب.

أجبني أيها النهر… يداي مكسورتان في الحب، والمشتهى.

والجسر قلادة الروح، مبحوح الصوت، مرتجف اليدين، مكسور الظل…!

كيف لقلبٍ أن يحتملَ هذا…؟! / قالت ” زليخة ” في الوقت الذي راح النهرُ يكفكفُ دموعه، ويمسح النومَ من دهشة الأحلام التي ابتلته هو أيضاً في العشق، والحب، والهيام…!

—————————————

دمشق/ الرقة الوضّاحة – بين الخراب والخراب…وبين الموت والموت …أحرث خيال ذاكرتي، فيلوح لي ظلّها من بعيد مقطوع اليدين، ومكسور القلب، ودامع العينين، ولكنّي أراكض روحي إليها، وأصرُّ عليها، فتبتلّ يداي .

—————————————————-

هامش: يستخدم الشاعر/ السارد (أبو حيدر)، بسبب من الفيضان الروحي، بعض المفردات باللهجة العامية، من مثل: السافر، أي الذي سافر. والراحم، أي الذين راحوا. والتركم، أي الذين تركوا.

وتطعيم النصّ الشعري بكلمات من اللهجة العامية، هو أسلوب مميز عند يوسف بوزو، منذ أربعين عاماً، إضافة إلى كونه يستخدم أحياناً كلمات من اللهجة العامية لسورية الغربية مع اللهجة العامية لسورية الشرقية في نسيج نصّ واحد. (نزار سلّوم)

د.يوسف بوزو

طبيب شاعر وكاتب سوري

‫2 تعليقات

  1. كم هو صعب على العاشق الذي تغزل بحبيبته طوال حياته والتي عاش في أحضانها ان يراها ممزقة الجسد أشلاء… فكيف إذاً هي حال الدكتور يوسف العاشق المرهف… للأسف كلنا عشاق وكلنا فجعنا…
    تحياتي للدكتور يوسف… ولك أستاذ نزار…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق