[الدكتور صادق فرعون (1928 – 2017)، طبيب وأديب وموسيقي سوريّ، متعدد المواهب وحاضر في مختلف الحقول. شغل منصب وزير الصحة في العام 1965. من أعماله الأدبية (موت أم مع انبلاج الفجر) – (أن يقول الانسان الحقيقة).
ننشر في ما يلي، نصّاً رواه كمذكّرات شخصية تتناول حقبة نهاية الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وتشكّل شهادة قيّمة عن بعض نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في ظلّ الانتداب الفرنسي، فضلاً عن كونها شهادة في التعليم والتربية، من خلال سرد بعض محطات السيرة الشخصيّة لطالب في مدرسة اللاييك التي تأسست عام 1932.
قد نختلف مع الدكتور فرعون في بعض استنتاجاته، وخصوصاً السياسية، ولكننا نقدّر فيه مسيرته الطويلة الحافلة بالعطاء.
يبقى أن هذا النصّ، يعيد صورة مفتقدة لدمشق… صورة أمست تاريخاً]
كنت في أربعينات القرن الماضي طالباً في المدرسة الإعدادية في الحلبوني، والتي كانت تدعى بالتجهيز الثانية. كنا ندرس اللغة الفرنسية منذ الصف الأول الابتدائي إلى جانب العربية أيام الانتداب الفرنسي على سوريا. عليّ أن أذكر أن أبي كان سورياً قومياً منذ منتصف الثلاثينات وكان هذا الحزب من أشد المناضلين ضد الاحتلال الفرنسي، وكان أبي لا يقبل أن ينطق بأية كلمة فرنسية. أما أنا فقد أُغرمت بهذه اللغة الجميلة الأنيقة منذ صغري، ولم أكن أخفي ذلك عن أبي ولم يكن هو يبدي أية معارضة أو إنكار لذلك، بل كان يشجعني على تعلم لغة العدو حينذاك.
لقد كان حبي للغة الفرنسية مرتبطاً بالأدب والشعر، وكنت أستمتع بقراءتهما في سن مبكرة. كنا نتعلّم الفرنسية في المدارس الحكومية بشكل مُكثّف، ومع ذلك فقد رغبت في الاستزادة ولما علمت بوجود مدرسة فرنسية تهدف إلى تخريج مترجمين من وإلى الفرنسية، أعلمت والدي عن رغبتي وسرعان ما وافق، فانتسبت لتلك المدرسة الواقعة في بداية شارع بغداد (هي معهد الحرية الآن). لعل من الضروري أن أشير أنه لم يكن في ذلك الشارع سوى هذا البناء القائم حتى يومنا هذا على حاله، وكان إلى جانبه الأيسر ملعب لكرة السلة، يليه بناء ذو طابق أرضي فقط، كان يدعى مشفى نخمن نسبة للطبيب المولد الذي كان يسكن ويمارس طبّه فيه. أما بقية الشارع فكان عبارة عن حدائق وبساتين غناء تتدفق فيها سواقٍ صغيرةٌ من مياه بردى. وكانت هناك مقاهٍ في نهايته قرب ساحة التحرير حالياً يستمتع فيها البعض بقرقرة الأراجيل وبالشراب، ما حُلّلَ منه وما حُرّم!
كنا نحضر دروس تلك المدرسة المخصصة لتدريس اللغة الفرنسية للعرب مساء، وكان كل أساتذتنا من السوريين. أذكر منهم الأستاذ شلهوب، وكان رغم سنه المتقدمة مرحاً مبتسماً مُحبّاً لطلابه، والأستاذ صنيج الإنسان الجادّ الحازم الذي قلما يبتسم وقلما يخرج عن موضوع الدرس وكان مُتمكنا من مادته التي تتعلق بالمحاكم وبالحقوق، وعمر شخاشيرو الشابَ المتأنقَ في ملبسه وفي كلامه وفي نُطقه وكان يدرسنا مقاطع من الأدب العربي القديم لنترجمها إلى الفرنسية وكان اسم المادة،theme تمييزاً لها عن الترجمة من الفرنسية إلى العربية وتدعى versio.
أماالاستاذ هدايا فكان أمين سر المدرسة وكان يعطينا بعض الدروس أحياناً.
من الضروري القول إن جو المدرسة كان يختلف كثيراً عن جو مدارسنا اليوم. كانت الدراسة جدية إلى أقصى الحدود وكان النظام مطلقا أو شبه مطلق وكانت الفحوص في غاية الجدية فالعلامات تحُسب بأجزاء العلامة، لا تزيد شعرة ولا تنقص شعرة، ولم يكن هناك خيارٌ أو فقوسٌ فالطالب ينال ما يستحق من علامة، أياً كان. أؤكد أن ما أقوله صحيح ولم تؤثر في تقييمه مرور السنين. وأظن مخلصاً أن على كل إنسان أن يقول الحق ولا شيء غير الحق سواء كان هذا معه أم عليه.
لا يمكننا أن نتطور أو أن نتقدم إن لم نكن صريحين وموضوعيين مع أنفسنا ومع الآخرين.
عندما التحقت بالمدرسة كانت الحرب العالمية الثانية قائمة على قدم وساق، وكانت فرنسا المنتدِبة تابعة لقوى فيشي المحالفة للمحور، وربما لهذا السبب كان أفراد الحزب السوري القومي يتمتعون ببعض الحرية. في السنة الأولى لالتحاقي دخلت قوات الحلفاء إلى سوريا من فلسطين والأردن وحدثت معارك ضارية وقُصفت مدينة دمشق قبيل دخول الحلفاء إليها. أذكر أننا كنا نسكن في الشاغور في حارة اسمها نزلة حمام القاضي وقد سقطت قنبلة في الحريقة بعيداً عن بيتنا مائتي متر لا أكثر فاهتزت أركان ذلك البيت الدمشقي القديم، وكانت جدتي تصرخ وتناديني أن أترك فراشي في “العلوي” وأن أنزل إلى الأرضي، ولكنني لم أفعل حتى اندفع سريري ذي الدواليب المعدنية الصغيرة من زاوية الغرفة إلى زاويتها المقابلة بعنف وصخب بفعل ما كان يدعى القاظانات التي كانت تُسقطها الطائرات البريطانية على الأحياء الشعبية فتقتلَ الأبرياء والمواطنين بينما كانت تدّعي أنها تحارب قوات فيشي المحالفة لألمانيا النازية. وعندها فقط بدأتُ أفكر أنه ربما من الأسلم أن أغادر سريري وأن أنزل إلى باحة البيت ” أرض الديار “.
أذكر أنني في اليوم التالي ذهبت إلى اللاييك فإذا الدراسة مُعلّقة. أذكر بوضوح شديد صور العسكر المغاربة الذين كانوا يحاربون مع قوات فرنسا الحرة أو الديغولية الحليفة لبريطانيا وهم جرحى جروحاً بليغة ينُقلون، بدون أية ضمادات لجروحهم المفتوحة، بطنابر تجرها بغال أو أحصنة متعبة إلى بناء المدرسة التي استعملت لعلاج المصابين. مع أني كنت صغير السن فقد شعرت بالمرارة والأسى إذ أرى جنوداً عرباً يقاتلون في صفوف المستعمرين دون أن تكون لهم علاقة أو مصلحة وطنية في ذلك؟
هكذا كانت وما زالت قوى الاستعمار بكل أشكاله وأسمائه تستخدم الشعوب الضعيفة وتستغلها لتنفيذ مصالحها ومآربها دون أي اعتبار لمآسي تلك الشعوب ولخسائرها. بعد أيام عاودنا الدراسة كالمعتاد ولكن تحولت الإدارة إلى تبعية القوى الديغولية، وكان هذا بدايةً لملاحقة أفراد الحزب السوري القومي المعتبر منحازاً لقوى الفاشية. كان من عادة حكومة الانتداب أن تُرسل في طلب أفراد هذا الحزب عندما تريد اعتقالهم بمذكرة تطلبهم للمثول أمام القضاء الفرنسي وكان من عادة هؤلاء الأفراد أن يلبوا الدعوة رغم علمهم بأنهم سوف يُعتقلون ويُقدمون للمحاكمة أمام المحاكم العسكرية الفرنسية، وأن المحاكمة ستنتهي بالحكم عليهم بالسجن مددا مختلفة. رغم هذا كله ما كانوا يفرّون أو يتوارون عن الأنظار. أذكر جيداً إنساناً من ” التحرّي ” وكان اسمه زكي الأسود ولا أدري أكان من عائلة الأسود أم كان هذا لقَبَه لأنه كان غامق البشرة. كان يأتي مساء ومعه ورقة كتب عليها اسم المطلوب وكان يكتفي بأن يطلب من والدتي إيصال المذكرة لوالدي مؤكداً على ذلك.
لم يكن أبي يعود إلى البيت إلا في وقت متأخر من الليل. أذكر جيداً زكي الأسود هذا عندما أتى في العام 1936 إلى بيتنا وأعطى ورقة مماثلة لأمي التي بدأت تبكي فقد كانت تعرف أن زوجها ورفاقَه سوف يلبون تلك الدعوة. في اليوم التالي لملم أبي بعض ثيابه الضرورية ولفّها في قطعة قماشية كانت تدعى ” بقجة ” وبدأ يتكلم بحزمه المعتاد إلى أمي يُعلمها عن عزمه على السفر إلى بيروت للمثول أمام المحكمة العسكرية الفرنسية فيما كان يدعى ” المفوضية العليا لفرنسا ” وأن عليها أن تنتبه إلى ولديهما… إلى آخر ذلك من تعليمات كانت تعلم جيداً أن عليها أن تنفذها دون أي أخذ أو ردٍّ، فما كانت هناك أية جدوى من أية مناقشة. لقد كان أفراد ذلك الحزب يؤمنون بالنظام الصارم والمطلق. كانوا ينفذون الأوامر دون أي تردد أو تساؤل وكانوا هم أنفسهم يطلقون الأوامر عند اللزوم وينتظرون من الآخرين تنفيذها على نفس المنوال.
أذكر أن أمي بكت بل بالأحرى دمعت عينها فما كان يحق لها أن تبكي أو أن تندب، فذاك كان ضعفاً والضعف إذ ذاك كان من أكبر الرذائل، وأذكر أن أبي نظر إليّ وأنا أراقب إصدار تعليماته النهائية بصمت، تأملني وكأنه يراني لأول مرة ثم قال: أعتقد أن من المفيد أن تأتي معي إلى بيروت هذه المرة. لم يكن في الكلمات أية رنّة تساؤل بل كان هناك قرار. صاحت أمي قائلة إنه صغير وكيف سيترك ابنه وحيداً في بيروت إذ جرت العادة أن من يُدعى إلى المفوضية الفرنسية يحُجز هناك للمحاكمة وللسجن. لا أعرف حتى الآن هل كان أبي يأمل في أن يُستجوب مع رفاقه ثم يطلق سراحهم في تلك المرة أم لا؟ رفعت أمي صوتها قليلاً محتجة بأنني ما زلت صغير السن على مثل تلك الرحلة! ولكن لم يكن هناك أي جواب أو أي تفسير ولا أي تبرير، فقد كان الأمر محسوماً. إنه يرى أن ذهابي مفيدٌ لي. والحق أقول أنني سررت في داخلي لتلك الدعوة فقد كنت أحب السفر مع أبي إلى بيروت.
لعلني لم أكن أعرف من أسباب حبي لذلك سوى أنني كنت أمضي كل الوقت إذ ذاك مع أبي ولأننا كنا نتعامل أو بالأحرى كان يعاملني وكأنني صديق له ومن سن واحدة. وكان مثل ذلك السلوك أمراً غير عادي في تلك الأيام، فعلى سبيل المثال كان على الأولاد حتى ولو كانوا مُشورَبين أن يركضوا فيقبلوا يد آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم. أما أبي، ومنذ صغري، فكان يكرر على مسمعي بلهجة رقيقة ولكن جادّة: سلّمْ عليّ وصافحني هكذا كما يصافح الرجالُ الرجالَ، وكان ينهض فيصافحني ويشدّ على يدي وأنا طفل في السادسة من العمر. كنت أشعر باعتزاز كبير بأنني كنت أصافح أبي عندما كان على كل رفاقي أن ينحنوا ويقبلوا أيدي آبائهم. وعندما كنا نذهب سوية إلى بيروت ويحين وقت الطعام كنا ندخل سوية إلى أحد المطاعم الشعبية فيقدم النادل لأبي قائمة الطعام. كان أبي يشير إليه أن يقدّم للشاب الجالس قبالته قائمة ثانية. كنت أشعر باعتزاز، بل وبخيلاء وما كنت أعرف بعد قراءة الكلمات جيداً. أذكر مرة أنني قرأت أكلةً اسمها ” نصف خاروف ” وكان أبي يخيّرني في أن أطلب ما أرغب. قلت له: أريد “نصف خاروف” فابتسم وطلب لي نصف خاروف وكان دهشتي كبيرة إذ وجدت أن نصف الخاروف ذاك لم يكن سوى قليل من الأرز مع قطعة صغيرة من اللحم، ولم يكن لي خيارٌ فقد كان عليّ أن آكل ما طلبت.
كنا ننزل في فندق صغير ولكن نظيف ومرتب في الزاوية اليمنى من ساحة البرج. نسيت اسمه ولكنني ما أزال أعرف موقعه بالدقة وأظن أنه تهدم في أحداث لبنان الدامية. إذن ذهبت مع أبي إلى بيروت قبيل بدء الحرب العالمية الثانية وكان يرافقه ثلاثة من رفاقه الحزبيين: جورج عبد المسيح وجورج نصار والثالث نسيت اسمه؟
في اليوم التالي لوصولنا ذهبنا إلى المفوضية العليا الفرنسية، وما أزال أذكر مكانها وشكل البناء الذي يقع مقابل حديقة كبيرة كانت تستعمل لسباق الخيل. بعد انتظار قليل دخل أفراد الحزب واحداً بعد الآخر ثم كان دور أبي. انتظرت خارجاً وكان عمري في الثامنة حسبما أذكر. كان يقف أمام الباب ضابط فرنسي جميل الطلعة أنيق الملبس وكنت أحدّق فيه بنظرات غاضبة على ما يبدو؟ نظر إليّ وكلمني بالفرنسية مرتين: هل تحبّ فرنسا؟ لما عرفت معنى سؤاله في المرة الثانية صرخت عالياً: لا، لا، فكيف لي أن أحب الدولة التي تسوم شعبي كل عذاب وتعتقل أبي ما بين الحين والآخر! ابتسم الضابط وكأن جوابي القاطع قد أمتَعهُ.
بعد انتظار بدا لي طويلاً خرج والدي إلى قربي وكان جندي فرنسي يقف ملاصقا له. كلمني كعادته بحزم ولكن بهدوء: “أبي، لقد صرتَ الآن رجلاً أعتمد عليه. اذهب إلى الفندق وآتِ لي بثيابي ثم عُد إلى ساحة البرج واستقلّ سيارة إلى دمشق واعتن بأمك وبأخيك فأنا باقٍ هنا الآن. صافحني كالعادة وذهبت فلم يكن هناك أي مجال لأي تخاذل. لا أحتاج لأن أشرح أنني وجدت صعوبة في الوصول إلى الفندق وكان صاحب الفندق في الأغلب سورياً قومياً أيضاً، إذ ما أن رآني حتى طيّب خاطري وشجعني وأعطاني بقجة الملابس فأوصلتها لأبي، ثم عدت إلى الساحة حيث كانت تقف سيارتان أو ثلاث سيارات فورد عدتُ بواحدة منها.
كان أبي قد أعطاني بعض المال وطلب مني أن أدفع أجر السيارة وأن أعطي أمي البقية. وهكذا عدت وحيداً وكانت ما بين الحين والآخر تندفع دمعة صغيرة إلى عيني فأزجرها أن تتراجع فمن العيب على الرجل أن تدمع عينه. أذكر أن أبي ورفاقَه سجنوا في سجن الرمل عاماً أو أكثر وأنني كنت أذهب وأمي لزيارته وكان الشيء الوحيد الذي يطلبه هو أن نأتي له بأعداد مجلة “الرسالة” المصرية ليطالعها، وقد قمنا بتجليد أعداد منها وقدمناها إلى الضابط المناوب فختم عليها موافقاً أن تُدخَل إلى السجين رشيد فرعون.
هناك الكثير من الذكريات عن ذلك السجن أكتفي بهذا القدر منها كيلا أطيل. ولكن يجب عليّ أن أذكر أن أحد أسباب سرور أبي من زياراته المتكررة لبيروت، أنه كان من مواليد بيروت وأن جدي رحمه الله كان يعيش ويعمل أيضاً فيها، حيث وافته المنية على يد مجهولين آثمين وحيث دفن هناك.
هكذا جُبل الإنسان على حب الشر والعدوان منذ أقدم الزمان فقد سبق للأخ أن قتل أخاه طمعاً في مال أو في متاع مذ قتل “قابيل” أخاه “هابيل”، وهكذا يقتل من يدّعون الإنسانية والتميّز عن كل بني البشر أخوةً لهم في الإنسانية طمعاً في أرضهم وثرواتهم ونفطهم، وهم رغم كل جرائمهم يظنون أنفسهم متحضرين ومتمدنين، وهم أشد شراسة وضراوة من أقسى الحيوانات.
أقفز الآن زمنيا فأعود إلى مدرستي التي كانت تدعى التجهيز الثانية في الحلبوني. كان أستاذي في اللغة الفرنسية يدعى ” ناتان بريسيادو ” . كان يهودياً ظريفاً مرحاً طيب القلب، أو هكذا كان يبدو لنا ولا أدري هل كان ومازال (هو ومن مثله) على طيبته الظاهرة تلك أم أنه قد ظهر وظهروا على حقيقتهم التي كانت خافية علينا نحن الناسَ الطيبي السريرة بعدما غادروا سوريا؟؟ كنا نحبه، وكان يحبنا (أو هذا ما بدا لنا حينذاك) وكان درس اللغة الفرنسية عسيراً بالنسبة للبعض وسهلاً هيناً وممتعاً بالنسبة للبعض الآخر، وكنتُ من هؤلاء الآخرين.
كنت أحب كتابة وظائف الإنشاء بالفرنسية وكانت علامتي دوما تامة أو شبه تامة أي 20 أو 19/20 في أقل الأحوال. أما العربية فلا أدري لمَ كنت أجد صعوبة بالغة في كتابة وظائف الإنشاء والقواعد فيها …؟ وكان أستاذنا رحمه الله ميشيل فرح نكاد ننام في درسه من رتابة إلقائه، وكنا شلّةً من عفاريت لا نملّ من إحداث كل أشكال الشغب والعفرتة، وكان يغضّ الطرف عن كل تلك الشيطنة ويعاملنا كأب رؤوف أو كأم رؤوم. وكانت علامتي في مادة العربية لا تزيد عن خمسة من عشرين (راجع مقالتي في الأسبوع الأدبي العدد،1311 )
لا بدَّ لي من أن أذكر أن جو المدرسة في تلك الحقبة كان يختلف عما آل إليه الحال بعد الاستقلال وفي هذه العقود الأخيرة . ما كان عدد الطلاب في الصف يزيد عن عشرين، وكانت علاقاتنا بأساتذتنا ومعلمينا قوية جدا ووثيقة. كنا نحترمهم احتراماً بالغاً وحقيقياً، وكنا نشعر بأنهم كانوا آباء حقيقيين لنا، وما كانت مثل تلك المشاعر وهمية أو خيالية. أذكر أن أحد أساتذتنا، الأستاذ صلاح الزعبلاوي كان يدرّسنا الجغرافية والتاريخ. كان ينتهي الدوام فنخرجُ مع أستاذنا نسير أمامه وخلفه وعلى جانبيه نسأله عن الكثير من الأمور والقضايا: قليلُها يتعلق بمادة المدرسة وأغلبها يتعلق بالحياة العامة وبآفاق المستقبل وما سوف تتمخض عنه الحرب العالمية من متغيرات. كان ذلك همَّنا وما كنا إلا يفعاناً لم تنبت ذقوننا بعد. كنا نواكب هذا المعلم العظيم حتى يصل إلى بيته أو إلى قرب بيته في الصالحية ثم نحييه ونتفرقُ كلٌ إلى بيته في المدينة القديمة.
كان همنا أن نتنافس على الأولية وفي كل وظيفة، لا سيما وظائف الإنشاء، وكانت سعادتنا كبيرة عندما يطلب الأستاذ من واحد منا أن ينهض وأن يتلو وظيفته التي فازت بالعلامة الأعلى أمام الصف. ورغم هذا التنافس فقد كنا رفاقَ صف وأصدقاءَ حقيقيين لم تُباعد الأيام والسنون بيننا. صُدمت كثيرا بعد عدة عقود من الزمن عندما طُلب مني أن آتي لمدرسة أولادي لأجد أن الطلاب لا يُكنون أي احترام أو تبجيل لأساتذتهم وأن البعض يتطاول على أستاذه ثم ينكر أنه فعل كذا أو ارتكب كذا وأن المعلم متحامل عليه أو متحايل لا يقول الحقيقة!!
أذكر جيداً أنني بعدما عدت وزوجتي من ديار الغرب، وقد انقضى ما يزيد على عقدين على أيام المدرسة التي حدثتكم عنها، أن سألت عن أستاذي ” ميشيل فرح ” “أبي زهير ” وعن هاتفه وعنوانه. اتصلت به هاتفياً وزرته في بيته وكأن ما بيننا لم ينقضِ عليه إلاّ يوم أو أيام. ذكّرته بعفرتتنا وشيطنتنا فابتسم بكل طيب قلب وبكل أريحية. ألا رحم الله ذلك الرعيل من المعلمين والأساتذة. إذا قلت لكم أنني ما زلت أذكر أسماء معلميّ وأساتذتي منذ السنة الأولى في الابتدائي، وأنني أذكر ملامحَ وحركات كل منهم، فهو أمر مؤكد، ولولا الإملال لأعدت رسم تلك الصور من الماضي الزاهي اللامع. آمل ألا يظنّ أحد أن في مثل هذه الكلمات عواطفاً مبالغاً فيها سببها توالي السنين والعقود. بالتأكيد لا. ما أود قوله هو قياس واستطراد لكلمة قالها كاتب فرنسي Voyage ما هو كزافييه دو مايستر، لا زلت أكن لكتيبه (جولة حول غرفتي) الكثير من الاعزاز، لأقول: “سعيدٌ من له مُعلّم ” وبالمعلم هنا أقصد المعلم الحقَّ الذي يعطي طلابه بعضاً من ذاته، والذي يجود بمعارفه وبتجاربه ليكونوا في المستقبل أفضل منه وليُسعِدهُ أن يكونوا كذلك. والأمر نفسه ينطبق على الطلاب والتلامذة الذين يُفترض فيهم أن يحبوا ويحترموا ويقدّروا أساتذتهم حق قدرهم وحتى الممات.
آن الأوان أن نعود إلى ذكريات “اللاييك” – معهد الحرية الآن. لقد كانت الدراسة في المدرسة العليا للعربية بالغة الجدية والصعوبة والتركيز. ما كانت هناك دقائق تضاع في أي لهو أو مزاح. كان معظم الطلاب من الثانوي البكالوريا الأولى أو الثانية وكنت أنا أصغر طالب في تلك الأيام، فقد كنت في الصف الأول أو الثاني الإعدادي. تابعت الدراسة في قبو هذا المبنى عامين ونصف وقد نجحت في فحصيّ السنة الأولى والثانية (الشهادة الابتدائية والمتوسطة) وفي منتصف السنة الثالثة أصبت بمرض أقعدني في فراشي عدة أشهر انقطعت فيها عن الدوام والدراسة، فلم أتقدم إلى فحص السنة النهائية. ساعدتني الدراسة في التعرف على نفائس الأدب والشعر الفرنسي. أذكر أن أول مجموعة قصصية قرأتها كانت لأنفوس دوديه (رسائل من طاحونتي)، والعديد من روايات الكونتيسة دو سيغور الرائعة.
أما في الشعر فأول من قرأت لهم فكتور هوغو وألفريد دو موسي وألفريد دو فينيي ثم شارل بودلير في وقت لاحق. لا أزال أذكر الأثر الكبير الذي تركته قراءة قصيدة دو فينيي ” موت الذئب ” والوصفَ الدقيقَ والمؤثر لعاطفة الأمومة وللقوة العجيبة التي تتولد في المخلوقات سواء أكانت حيواناتٍ أم بشراً عندما يواجهون الظلم والعدوان فيهبون للدفاع عن النفس وعن الحياة، وهي في تلك القصيدة حياة صغار الذئبة. يهب الآباء والأمهات دون تردد أو تخاذل ليبذلوا حياتهم رخيصة في سبيل أكرم مبدأ، دون أي نحيب أو أنين. أذكر منها مقاطعها الأخيرة وأذكر أبلغ ما فيها:” الصمتُ وحده هو العظيم وكل ما خلاه ضعفٌ. الأنين والبكاء والترجّي هو جُبْن. فقُم بهمةٍ بواجبك الطويل والثقيل وامشِ في الطريق الذي نادتكَ إليه الأقدار وبعد ذلك تألّمْ مثلي ثم مُتْ دون أي كلام
Seul le silence est grand; tout le reste est faiblesse
Gémir, pleurer, prier est également lâche,
Fais énergiquement ta longue et lourde tache
Dans la voie ou le sort a voulu t’appeler,
Puis, après, comme moi, souffre et meurs sans parler.
أذكر أنه كانت في دمشق مكتبة أنيقة تدعى “المكتبة العمومية ” إلى جانب مقهى البرازيل الأصلي ومواجه سينما الأهرام اليوم والتي كانت تدعى “روكسي”. كنت أنتقي من تلك المكتبة أوائل كتبي بالفرنسية وكان معظمها لناشر فرنسي يدعى “نلسون”. أود أن أختتم كلماتي بطرح موضوع قد لا يقرّه البعض: لا أحد يقبل بالاستعمار، بل وبكل أشكال الظلم والتسلط على البشر، ولكنني أتساءل الآن وبعد مرور نصف قرن ويزيد: هل كان الاستعمار الفرنسي كله شراً مطلقاً كما يعتقد بعض المتحمسين ولا أقول الشوفينيين؟ أرى أنه يندر في عالمنا هذا أن نجد خيراً مطلقاً أو شراً مطلقاً، أن نجد بياضاً ناصعاً لا شائبة فيه، أو سواداً مظلماً قاتماً لا أثر فيه لأي ثقبة نور. أرى أن الانتداب قد أثار في شعبنا حب الوطن ووحّدنا للدفاع عنه وهو في الوقت ذاته كان واسطة للتعرف على بواعث ومبادئ الثورة الفرنسية وعرّفنا على اللغة الفرنسية الأنيقة التعبير الحلوة الجرْس والثرّة بالعواطف الإنسانية. هل ينسى أي ممن قرأ “البؤساء” لفكتور هوغو أو “جيرمينال” لإميل زولا ما فيهما من عواطف إنسانية نبيلة؟ أعتقد مخلصاً أن على الإنسان أن يحاول دوماً أن يفتش عن نواحي الخير في نفس الوقت الذي ينتبه فيها إلى نواحي الشر في البشر، فعلى ما يبدو أن ليس هناك شر دائم ولا خير دائم، وأن على الإنسان ألا يكون دوماً دوغمائياً جزّاماً وباتراً في أحكامه. وهذا لا يعني مطلقاً أن يتخلّى عن مبادئه أو عن تراثه، ولكن الحياة تعني الحركة الدائمة المستمرة والتطور نحو الأفضل ونحو الأنسب للحياة.
في الختام، أذكر حادثة كبيرة الدلالة وتمُتُّ لنفس الفكرة: فور استقلال سوريا بادر الطلاب المتحمسون إلى ترتيب مظاهرة تتجمع في ساحة المرجة يحمل فيها كل الطلاب كتبهم الفرنسية لحرقها في تلك الساحة التي كانت تشكل مركز المدينة في تلك الحقبة. اجتمعنا وكان كل رفاق صفي يعرفون ولعي بالفرنسية وباقتنائي للعديد من كتبها. قرر الجميع أن يحملوا كل ما بحوزتهم من كتب مدرسية ومن قواميس لاروس لتُحرق. التفتوا إليّ قائلين: أنتَ عندك الكثير من كتب الشعر والرواية ؟؟ لم أترك لهم أن يُكملوا بل بادرتهم بشجاعة وبإيمان: لا تحلموا أن أضحي بأي كتاب شعر أو قصص فتلك تربطني بها رابطة لا تنفصم، ولا علاقة لها بأي استعمار أو انتداب. سوف أضحي بقصة أو بقصتين بوليسيتين كمشاركة رمزية، ولا فائدة من أي نقاش في الأمر وظُنوا بي ما شئتم من ظنون. وقد قبلوا مني ذلك الموقف.
لم أكتف بذلك، بل أذكر أن رفيق صف لي كان مؤجراً لجزء من بيت أهله لضابط فرنسي يدعى بارّي، وكان طبعاً قد هرب بعد الحوادث التي قادت لاستقلال سوريا.
كانت عند هذا مكتبة أدبية فرنسية. رجوت صديقي أن يطلعني عليها فقد كان مصيرها الحرق في ساحة المرجة. رأيت فيها مجموعات شعرية وروايات رائعة. رجوت رفيقي أن يطلق سراح تلك الكتب البريئة والتي لم ترتكب أي إثم وأن يهديها لي عوضاً عن جرّها إلى المحرقة فصاح غاضباً واعتبر ذلك خيانة للوطن. لم أيأس وفاوضته أن أبادل بين تلك الكتب الأدبية بروايات بوليسية كنت أقرأها ولا أعود إليها، فمانع أولاً ثم رضخ للججي وقبِل أن نقايض كتاباً واحداً بكتاب، وهكذا أمضيت ساعة أقلب في تلك الكتب واخترت مجموعة شعرية لشاعر فرنسي لم أسمع به اسمه روبيرت إدوارد هارت مقيمٍ في جزيرة موريس في المحيط الهندي عنوانها L’ombre étoilée وما دفعني لاختيارها أنني قرأت في صفحتها الأولى إهداءً من سيدة فرنسية للضابط بارّي تشير فيها إلى ذكريات إقامته في تلك الجزيرة وكانت كلماتها القليلة بليغة تنمّ عن عواطف حييّة. كان ذلك في الثلاثين من حزيران عام 1945 حسبما كتبتُ على المجموعة التي تمّ إنقاذها. في ذلك اليوم أو في الذي يليه تجمع طلاب دمشق وربما ما حولها أيضاً، وقذفوا بأكوام كبيرة من الكتب المكتوبة باللغة الفرنسية وكانت بينها كتب ضخمة من قواميس لاروس ومن موسوعات وأشعلوا فيها النار. نظرت إليها بحزن وأسى ورميت بكتاب أو كتابين من الروايات البوليسية كرمز للمشاركة مع ما أقرّته الأكثرية من رفاقي وزملائي في المدارس مدركاً أن هناك لحظات في حياة الأفراد وكذلك في حياة المجموعات البشرية تُفقد فيها كل قواعد التفكير المنطقي والرَشَدي وتسيطر رغبات عارمة جارفة قلّما يستطيع أحد الوقوف في وجهها. تذكرت عندها صورا من الثورة الفرنسية وتراءت لعينيّ صور خيالية للمقصلة التي كانت لا تني ولا تَهِن في صعودها ونزولها الصاعق مدحرجة الرؤوس البشرية، بريئها ومذنبها سواء بسواء. خُيّل لي أنني قد أنقذت مخلوقاً بريئاً، هو تلك المجموعة الشعرية من مصير مشابه، ومع ذلك فقد سِرْتُ مع ركب قومي ورميت بكتاب أو كتابين لاقتناعي أن على الفرد أن يقبل حُكم قومه أو قبيلته حتى عندما يكون ذلك الحكم بعيداً عن الرَشَد. هل كان مثل هذا الموقف سليماً أو مخطئاً يا ترى؟
لا نستطيع دوماً أن نجيب بلا أو بنعم، بل يبقى الجواب أحياناً شيئاً من كليهما. ألم يقل الشاعر العربي دريد بن الصِّمة:
وما أنا إلا من غُزيّةَ إن غوَتْ غويتُ وإنْ ترشُدْ غُزيّة أرشُدِ؟
هل أتابع هذه الذكريات أم أن في هذا ما يكفي خيفة الإملال؟
صادق فرعون 4/3/2012
—————————————————————————————
هامش وتعليق: يشير الدكتور فرعون، في مكانين إلى ما يوحي بأن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان مع حكومة فيشي، وبأنه مع قدوم الديغوليين بدأت ملاحقته. ونستغرب هنا كيف أن الكاتب لا يعرف تاريخ المواجهات بين الحزب وسلطات الانتداب منذ انكشاف أمره في العام 1935، فضلاً عن أن رحلات صادق مع أبيه إلى بيروت كانت بسبب محاكمة والده في المحكمة الفرنسية مع غيره من القوميين الاجتماعيين.!!