جماليات

عن مأساة الرجل الذي عرف الكثير

الفصل الأول

رفع ارثر ماثيوس دي اوليفيرا كارفالهو كأس النبيذ ببطء إلى فمه، أخذ جرعة صغيرة دفعها بلسانه إلى أطراف فمه، تمضمض بها قليلاً ثم ابتلعها، وأطلق تنهيدة ارتياح. تأمّل تلك الزجاجة المغبّرة التي أحضرها ساقيه من قبوه الحجري الرطب مستلقية في سلة قش خاصة بها، وفكر وهو ينقر بطرف اصبعه على كأسه نصف الملآن، الآن لا شيء ينافس جوده نبيذ شادويك من وادي مايبو في تشيلي، ربما هو الأفضل في العالم .أعاد تثبيت قبعته المصنوعة من القش على رأسه ودفعها قليلاً إلى الأمام ليحجب أشعة الشمس التي ابتدأت بالغطس في أعماق الاطلسي عن عينيه امام ذلك الجزء من الخريطة الذي يبدو بعيداً عن العالم في جزيرة سانتا كاترينا في البرازيل، تنهد بعمق مستلقياً على كرسيه المصنوع من خشب القصب النهري الذي ينمو بكثرة في تلك الانحاء والقش الدغلي.

هو هنا لم يغادر فيلته الحجرية منذ ثلاث أشهر تقريباً، ويبدو أن الحياة غير مشغولة به هذه الأيام، ربما نسيته ولم يعد على لائحة برامجها. نهض من كرسيه، وسار الى باب الشرفة المتصلة من طرفها الجنوبي بأدراج توصلها إلى الشاطئ الرملي الدي يضيق بشكل مفاجئ أمام الفيلا لمسافه لا تتجاوز مئتي متر ويعود للاتساع في الأطراف البعيدة للفيلا المحمية جيداً بثمانية عشر كاميرا للمراقبة تستطيع أن ترصد أي حركة في الفيلا وجوارها حتى حركه العناكب واليعاسيب، فتح الباب الزجاجي العريض ودلف إلى الداخل بعد أن رمى قبعته جانباً وقرر أن يراجع عروض اليوم التلفزيونية، وبعد مشقة ظاهرة اختار أن يرى فيلماً عن الغرب المتوحش اسمه الجبل الأحمر، يلعب الدور الرئيسي فيه آلان لاد، ويعود إنتاجه إلى الخمسينيات من القرن الماضي، تذكر أن والده كان يحب أداء هذا الرجل، اختار هذا الفيلم فقط لأن اسم ممثله جره ان يراه. كانت الاعلانات تشير إلى أن الفيلم سيبدأ بعد حوالي الساعة والنصف، إذاً عليه ان ينتظر. قرر أن يقرأ صحيفة اليوم التي اشتراها سائقه له صباحاً ونسي ان يقرأها، كانت صحيفة محليه تصدر في الجزيرة، صفحاتها الأولى مخصصة للشؤون المحليّة وبقية الصفحات الداخلية مخصصة للشؤون الدولية إضافة للتسليات.

فجأة ابتدأت معالم الحياة تدب فيه مرة أخرى، فجهاز كمبيوتره الخاص المفتوح دائماً ابتدأ بإرسال إشارات محددة تنذر بورود رسالة، تناول جهازه وفتحه بعناية ظاهرة فرأى عبارات واضحة تشير إلى ضرورة فتح الرسالة المرفقة. تمهّل قليلاً لسبب ما، ثم فتحها متأملاً الصورة التي ملأت الشاشة لرجل أربعيني وسيم يبدو من تفاصيل وجهه أنه أمضى حياته بعيداً عن أحزانها ومتاعبها. كان هناك معلومات مرفقة قرأها بتمهل، عن محل إقامته وعاداته اليومية ومهنته، وما لفت انتباهه بشكل خاص مهنته، فهو طبيب متخصص بأمراض القلب، وتبادر إلى ذهنه تساؤل لماذا للعنه يريدون القضاء على طبيب للقلب؟ كان هناك ملاحظة خاصة على أن العمل يجب أن يتم بسرعه، خلال الاثنين والسبعين ساعة التالية. أعاد إغلاق كمبيوتره الذي لا يستخدم فيه إلاّ كلمات تعريف واحدة تمكّنه من الدخول إلى الدارك ويب، إلى الشبكة التي تعمل خارج متناول الالتقاط والتتبع المعهودة، والتي تتم عليها كل العمليات غير الشرعية من تجارة البيتكوين، إلى الرقيق الأبيض، إلى صفقات المواد المخدرة العالمية. كانت شبكة تغطي كل العالم ولا يوجد أي جهاز أمني قادر على تتبعها أو ملاحقة كل هذه العمليات غير القانونية عبرها. تأمل بعناية العنوان المشار إليه الذي يشير إلى مدينة رافينا عاصمة دوله بندر ستانيا الجبلية الصغيرة الواقعة على مفترق طرق شرق أوسطي. تقع هناك في أعماق تلك الصحراء العظيمة التي تشكل معظم خريطة الشرق الأوسط، ولكنها تعتبر مناخيّاً، قياساً إلى محيطها، جنة أرضيّة منسيّة من الحروب ومسلوخة من الجغرافيا، ورغم ثرائها لم يلفت وجودها أي متطفل سياسي ينتزع منها أمنها الأزلي الدائم بديمومه بزوغ الشمس في كل يوم.

عليه الان أن يستقل الرحلة الأولى التي تقلع إلى أي مطار كان في الشرق الأوسط، بعدها سيجد طريقه إلى هذه الجنة المنسية. ستكون إقامته قصيرة، ينهي فيها مهمته بعد أن تتحول ثلاثة ملايين دولار إلى حسابه في مصرف ويست كارابيان الذي تقع إدارته في الباهاماس في مدينه ناسو عاصمتها، والتي تعتبر ملجأً آمناً لغسيل الأموال عبر العالم.

بعد مراجعة لم تستمر طويلاً، رأى أنه لا يحتاج إلى أية حجوزات على أية رحلة، ومن الأنسب أن يستخدم طائرته الخاصة للانتقال الى الشرق الاوسط، ولكن المشكلة الوحيدة أنها غير معدة للرحلات الطويلة، فعليه أن يهبط في جزر الكناري ليتزود بالوقود ومن هناك ينتقل إلى ليماسول، بعدها سوف يعثر على طريقة ما للانتقال من ليماسول وعبر طائرات الشارتر إلى بندرستانيا.

رفع جهاز هاتفه واتصل بطياره الخاص جيمس اورفيل وطلب أن تكون طائرته معدة للتحليق بعد ثلاث ساعات، وطلب منه أن تكون مضيفة الطائرة باتريسيا برات في صحبته، هذا يرفع المعنويات ويجعل الرحلة تبدو كرحله رجال الاعمال.

تقدم ارثر ماثيوس إلى تمثال حجري صغير يعتلي منصة مدخنة حجرية قديمة، كان التمثال يشبه تلك التماثيل الدينية في ملامحه العامة، لكن مع الامعان في تدقيق التفاصيل سيتضح دون أدنى شكّ أنه تمثال لأحد فرسان الهيكل أو التمبلار، يستند بكلتا يديه على ترسه الضخم التي تنغمس ذؤابته عميقاً في التراب. دفع ذلك التمثال إلى الخلف فتحركت المدخنة الحجرية وكأنها باب يفتح وورائها بدا باب فولاذي إلى جواره مجس حراري، وضع ارثر ابهامه عليه وانتظر لدقيقه كاملة قبل أن يفتح الباب المؤدي إلى درج معدني وثير ومضاء بعناية، هبطه بسرعه إلى ممر حجري قاده إلى بوابة أخرى دفعها بيده وعبر داخلاً. كانت القاعة التي أصبح في وسطها الان، مغطاة بالكامل بخزائن معدنيه ذات واجهات زجاجية سميكة، وكانت الإنارة الممتازة تمنح كل التفاصيل الممكنة عن محتويات تلك الخزائن، فكان بالإمكان وببساطة متناهية رؤية تلك المجموعة الفذة من الأسلحة الفردية التي يحتاجها في حياته المهنية، والتي تتنوع من قاذفات القنابل إلى الخناجر، وبعد تفكير بسيط انتقي بندقية مجهزة بمنظار قنص من طراز ريمنغتون ام اس ار والمصنوعة بكاملها من الالمونيوم الخفيف، وانتقى علبة تحتوي على سبعه عشر رصاصة متبقية فيها والخاصة بالريمنغتون. هو في النهاية لن يحتاج إلى أكثر من رصاصة واحدة، لكن من يدري؟ هناك دائماً شيئاً يتلاعب بالثقة الشخصية التي لا يعوّل عليها كثيراً في هذا النوع من المهمات.

تناول سيكاراً من جيبه وقطعه بآلة القطع الخاصه بالسيكار، وأشعل عود ثقاب قربه إلى سيكاره وهو يفكر بهؤلاء الحمقى الذين يولعون سيكارهم بولاعة محطمين قواعد تدخين السيكار، وتأوه عاجزاً من هذا العالم الذي لا يعرف الكمال.

وفجاة لفت انتباهه حوض الاكواريوم الصغير في منتصف الغرفة،تأمل تلك المخلوقات الشديدة السميّة التي تسبح فيه، كانت من نوع الأخطبوط ذي الحلقات الزرقاء التي لا يزيد طولها عن اثني عشر سنتمتراً مع الاذرع، لكنها كانت شديده السميّة، بل إنها أكثر مخلوقات الارض فتكاً ولسعة واحدة صغيرة منها كافيه لقتل ما يعادل واحداً وعشرين شخصاً. حيث تشل ضحيتها تماماً، رغم احتفاظها بحواسها كاملة لمدة ساعات قبل أن يتوقف تنفسها وتصل إلى الاختناق. هذا السم اسمه التيترو دو تو كسين، يمكن استخراجه منها واستخدامه، وتساءل ربما أحتاج إليه فماذا لو طلبوا أن يبدو موته طبيعياً؟

تبسم وهمهم بحبور:

حان الوقت ليذهب دكتور جيكل…حان الوقت ليحضر مستر هايد.

الفصل الثاني

(قبل ثلاثة وثلاثين ساعة من أحداث الفصل الأول)

كانت طائره الداسو فالكون 6x تستدير في نهاية المدرج الارضي الذي يقود إلى بناء معتم، فخم التصميم، في هذا المطار الخاص بـأبناء الأسرة المالكة وزوارهم الغامضين. كان يمكن الملاحظة بسهولة إلى عدم وجود أية دلائل للحياة على متنها عندما توقفت بالكامل، وظلت شبابيكها الجانبية الثمانية والعشرين المستديرة غارقة في الظلام. وفجأة دبت بعض الحركة على متنها وظهرت إنارة خافتة في مقدمتها كانت غير كافيه لإعطاء الدليل على وجود الحياة داخلها، ورغم ذلك فتح باب الطائرة وتدلّى سلم جانبي إلى أرض المطار. تقدم رجل بملابس رسمية سوداء وابتدأ بالنزول وعندما وطأ ارض المطار استدار بخفة مفسحاً الطريق للرجل الذي وراءه. كانت الإناره الخافتة في المطار واهتمام الرجل بإخفاء معالمه عبر قبعة همفري بوغارت طراز ستيتسون فيدورا ذات الحواف العريضة، ورفعه ياقة معطفه لتغطي معظم معالم وجهه كافيه لإضافة مسحة أكبر من الغموض على هذا الزائر الذي تقدم منه رجل كان ينتظره وقال له:

– أرجو أنك لم تعاني أية صعوبات يا سيدي أثناء رحلتك؟

رد عليه الزائر بصوت مرحب مع ابتسامة واضحة:

– لا، لقد كانت مريحة رغم تنقلي بين عدة مطارات اليوم لدرجة نسيت معها إلى أي مطار أنا ذاهب. كما أن عليّ أيضاً أن أغادر اليوم بعد انتهاء المباحثات مع سمو الأمير.

 سارع الرجل بالرد باهتمام قائلاً:

– علينا ان نسرع اذاً. سمو الأمير في انتظارك الآن وسوف ننتقل إلى قاعة الاجتماعات، بعد أن تستقطع لنفسك دقائق من الراحة.

رد عليه الزائر بلهجة حازمة:

—أفضل أن نبدأ الآن فلا حاجة بي إلى أي’ استراحة. وقتنا ضيق وعليّ أن أكون في طريق العودة بعد ثلاث ساعات.

اتخذت قافلة السيارات القليلة العدد طريقاً جبلياً متسلقاً ومناراً بشكل جيد، ومطلاً في حافته الخارجية على جرف صخري عملاق، تقع غابات صنوبرية في أسفله. كان الوقت نهاية الشتاء، وكان الضباب يغطي تقريباً كل الجرف في الأسفل، فيما الساعة تقارب الثامنة والنصف مساءً.

كان الزائر يعرف أن أفضل نتائج لمحادثات سياسية تتم تكون في المساء، لأن المتحاورين يعانون من إرهاق النهار ويفضلون عادة إنهاء المحادثات بسرعة للخلود للراحة، تلك المباحثات التي تنتهي باستسلامهم لإرادة المحاور الذي يحتفظ بلياقته من ضمن اتباعه هذه الاستراتيجيّة، والاتفاق معه فقط لأن التعب يكون قد وصل عندهم إلى حدود الإرهاق. اختار هو هذا الوقت تماماً، ولاحت علامة ابتسام على وجهه وهو يفكر أنّه من الجيد أنهم لا يعرفون الكثير عنه، ولا عن قدرته على التفاوض، ولا قدرته الاسطورية على عدم النوم لليالي متعددة والبقاء متيقظ الذهن بلياقة عقلية وبدنيّة تامة.

ثم إنَّ هذا الأمير عامر بن عبدالاله آل القاسم هو جديد في مسؤوليته التي تنكبها كحاكم للإمارة، قليل الخبرة، لم يسبق له أن خاض أية مفاوضات سياسية من قبل، إلاّ أن سيرته وما ينقل عنه، تشير إلى أنه حذر جداً ولا يثق بأحد كما هو واضح في كل تلك الاجراءات التي اتخذها لتمهيد الزيارة. لقد كان هذا الحاكم هو نفسه من أشار عليه عبر رسائل سرية أرسلها مع مبعوث خاص به حول كل المطارات التي يجب أن يتنقل عبرها على طائرات خاصة بأصدقاء الحاكم وضعوها تحت تصرفه لصرف الانتباه عن الجهة المقصودة، كما كان واحداً من أصدقائه ولعله سيرج داسو نفسه مالك الشركة الحالي هو من وضع هذه الطائرة في خدمته، وهي طائرة فريدة من نوعها في العالم، والنسخة الوحيدة منها هي التي استقلها اليوم، لأن شركة داسو كانت تزمع على إطلاقها في نهاية عام 2022، والنسخة الوحيدة منها هي نفسها التي عرضت في معرض باريس للطيران في شهر شباط الماضي للترويج لها. من المدهش أنها تعمل في خدمه الأمير اليوم. لن يكون مندهشاً إن عاد ورآها نفسها مرة أخرى في أي معرض طيران قادم.

وصلت قافلة السيارات إلى طريق محروسة جيداً بكبائن الحراسة، والحواجز المراقبة من قبل جنود بالزي الرسمي، وكاميرات مراقبة مزروعة على مسافة كيلومترات. انعطفت القافلة في أحد أفرعته قاصده ما يشبه قلعة محصنة بجدار خارجي. فتحت البوابة المعدنية وسارت السيارات ما يقارب النصف كيلومتر قبل أن تقف أمام إحدى هذه البوابات للبناء الذي بدا وكأنه قلعة.

ترجل الزائر من سيارته بعد أن فتح أحدهم له الباب، وتقدم آخر وقال له:

-اتبعني يا سيدي، إنه في انتظارك.

الفصل الثالث

تقدم الأمير عامر بخطى مرتبكه وصافح الزائر الذي بدأ بسرعة ملفتة، يتأمل بعناية وجوه الموجودين الذين لا يزيد عددهم عن أربعة اشخاص كانوا يحيطون بالأمير بشكل نصف دائري، وتيقن فوراً أنه لم يسبق له أن تعرف على وجوههم سواء عبر الصحافة أو التلفزيون أو وسائط الشبكة العنكبوتية.

 أشار الأمير إلى طاولة الاجتماعات وطلب من ضيفه أن يستدير حول الطاولة ليأخذ كرسيه المقابل لكرسي الأمير المميز بعلامات خاصّة وبارزة، فيما جلس مرافقا الزائر على كرسيين مجاورين له، مقابل رجال الأمير الأربعة.

توجّه الأمير نحو الضيف مفتتحاً الحديث بمجاملة تقليدية:

– أرجو أن رحلتك كانت مريحة، أو هذا على الأقل ما أخبرني به قبل قليل مسؤول ديوان القصر، وهو نفسه الرجل الذي استقبلك في المطار.

– كانت مريحة من الناحية المهنية، أي لا مشاكل أو مفاجآت، لكنها، بصراحة، مرهقة جسدياً بسبب ساعات الطيران الطويلة الناتجة عن خيار الخط الذي اتخذته.

نظر الأمير إلى الضيف مباشرة وعقّب بلهجة توحي بالاهتمام الزائد:

-كان ذلك ضرورياً للتغطية على وجهتك المحتملة. على كل حال أنت الآن هنا، وأرجو أن نبتعد قليلاً عن الرسميات لأنها ترف لا نحتاجه لما نبتغيه، عدونا هو الوقت، وقد علمت أنك مضطر للمغادرة الليلة، لنضع أوراقنا على الطاولة ونبدأ في استعراض وجهتي النظر لكل منا، على يسارك إبريق من عصير الرمان، أنصح أن تجربه…  لا مثيل له في أي مكان في العالم، فالرمان الذي ينمو هنا هو الأشهر والأطيب مذاقاً في العالم. على الأقل سيبقى مذاقه الفريد ذكرى دائمة عن هذه الزيارة.

تناول الضيف إبريق الرمّان وملء كأساً إلى جانبه وأجاب الأمير متنهداً:

– سأعمل بنصيحتك وأجربه، راجياً أن يكون فيه منوماً ما، لأنني فعلاً أفتقد النوم…

بدت علامات الاستياء الحذرة على وجه الأمير، بعد الملاحظة المبطنة التي تحمل مقداراً ما من عدم الثقة لاتجاه المحادثات، وقال بعد أن رسم ابتسامة عريضة على وجهه كشفت عن الجهد الذي يبذله لرسم قناعٍ من عدم المبالاة:

– اسمعني جيداً، لا أحد هنا يعرف شيئاً عن هذه الزيارة سوى هؤلاء الذين تراهم هنا، ويجب أن لا تكون متفاجئاً إن قلت لك إن الرأي العام هنا برمته ضدكم، وقد ينقلب ضدي إن علم ان علم بما بيننا من تنسيق، وأنا لست جاهزاً بعد للسيطرة عليه، وقد لا أكون أبداً، لذا أفضل الطرق للاعتراف المتبادل بين دولتينا، يقوم على قبول الجرعات المتدرجة.

وتابع الأمير بلهجة المتمكن من قناعاته: لا بدَّ أنك سمعت عن دبلوماسية البنغ بونغ، التي تلائمنا تماماً، فوفقها يتم تجريع الرأي العام قبولكم وقبول العلاقات معكم على جرعة تليها أخرى، بالرغم ان هذه الدبلوماسية عينها أخدت اسمها من مسار آخر، مسار تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، أنا سآخذ بالصورة المصغرة عنها التي تعني تطبيع الراي العام للقبول هنا بكم.

واستفاض الأمير متابعاً، فيما الزائر ينصت من دون الإيحاء بأية علامات خاصة:

ما رأيك مثلاً أن تقوم شركة سياحية كبرى عندكم بصنع فيلم دعائي عن بلدنا؟ أو أن نشترك في منافسة رياضية مخطط لها ليبدو لقاءنا عفوياً؟ هذا يمهد لإزالة بعض القلق الذي يشعر به الرأي العام ويخفف من حدة الرفض الشامل للعلاقة معكم. طبعاً، أعرف أنكم تعلمون لماذا أنتم هنا، أو بالضبط لماذا نريدكم هنا، ولماذا نريد العلاقات معكم. نحن نطمح بكسب صداقتكم والاستفادة من علاقاتكم الاستثنائية مع كبار لاعبي العالم من الدول. نطمح بدخول شركاتكم الناجحة هنا، ونطمح ان نربح المعرفة التكنولوجية عبر ربط معاهدنا وجامعاتنا مع معاهدكم وجامعاتكم. هناك الكثير لأقوله في هذا المجال، وأنتم بالمقابل تربحون الطريق إلى قلب أبناء المنطقة. تربحون علاقات جيران مع الجميع وتربحون أسواقنا الأكثر شراهة من أي سوق بالعالم، إلى آخر اللا – انتبه الأمير إلى وجه الزائر الذي بدا بحالة غير طبيعيّة-ورفع صوته بقلق…ما بك، هل أنت على ما يرام؟

هل تحتاج للمسا،،،،،،ما بك يا رجل؟

كانت ملامح الزائر قد تغيرت، وابتدأت عضلات وجهه بالتقلص، وكان من السهولة ملاحظه شلالات العرق المتدفقة على وجهه الذي ابتدأ بالشحوب. كان يضع يده اليمنى على صدره والأخرى مستندة برخاوة إلى كرسيه.

صرخ الأمير: أريد طبيب القصر الخاص حالاً، هو وطاقمه الطبي.

اقترب مدير أمنه الخاص وقال له بصوت منخفض: طبيب القصر الخاص في إجازة منحتها سموك له، وهو خارج الإماره الآن. أرى ان نسبق الوقت ونحضر أي طبيب، لأن الدلائل تشير إلى أن الزائر يعاني من ذبحة صدرية، على الغالب.

قال الامير تمسك بتلالبيب الشيطان واحضره إلى هنا إن كان ذلك ينقذ ابن الجحيم هذا ،، لست مستعداً لأي حرج دولي أو فضيحه سياسية أو أخلاقية الآن، والأكثر لا احتاج إلى أية مواجهة مع الرأي العام هنا، إن تسرب ما يحدث في هذه القاعة إلى الخارج.

ثم التفت الأمير غاضباً، وبعنف دفع كرسيه الذي انزلق بضعة أمتار على الأرض الرخامية، وطلب من مرافقيه جميعاً البقاء في القاعة وأن لا يغادروها مهما كانت الأسباب، إلى جانب الزائر ورفاقه، الذي مدد فوق الطاولة.

وختم حازماً، بعد أن وضع يده على قبضه الباب: تذكروا أنني أحب سماع الأخبار الطيبة دوما.

 الفصل الرابع

هرول الدكتور ربيع الصقال إلى العياده الملحقة بالقصر والمجهزة كمستشفى صغير، في الواقع وكما كل يوم، كان يتهيأ لتناول وجبة العشاء، عندما أتاه هذا الهاتف الغامض منذراً إياه بأن يكون مستعداً في دقائق لمصاحبة بعض الرجال الغامضين الذين سيأتون لمرافقته إلى مكان لم يتم تحديده. كان المتصل معروفاً بالنسبة إليه، أو سمع باسمه من قبل، فهو وبالرغم من أنه وافد جديد على الأمارة التي وقع مع أحد مشافيها على عقد عمل طويل بعد أن أصبح طبيباً معروفاً بمهارته الاستثنائية، وأنه احد الرواد في أمراض القلب ومعالجتها في المنطقة، إلاّ أنه أمضى وقته قبل الحضور إلى هنا بالاطلاع على تفاصيل الحياة في الامارة، والتعرّف إلى قاده الرأي فيها وأسماء مسؤوليها. كان ذلك ضرورياً ليعرف نظام الحياة وطبيعته ومكامن القوة فيه، ليتمكن من التأقلم السريع معه.

كان بعض ممرضي القصر قد نقلوا الزائر الغامض إلى هذه العيادة منتظرين وصول الطبيب، الذي بادر إلى تركيب جهاز مراقبه القلب فوراً، ووضع مجساته على الصدر والاذرع لتخطيط كهربيته. كان ينظر إلى وجه مريضه بتمعن واهتمام ، ولاح له أنه رآه في مكان ما، لا يستطيع التذكر أين على وجه الدقة.

 استمر الدكتور الصقال متابعاً لإجراءاته وهو يعصر ذهنه لتذكّر تفاصيل أكثر عن هذا الوجه المألوف بالنسبة له. لم يتجرأ على السؤال، وكان تحت مراقبه ملحوظه من رجال الأمن المحيطين به، وفجأة قفزت الصور إلى مخيلته صافيه نقية وواضحة.

 هذا الرجل، الممدد أمامه وحياته في خطر ليس سوى وزير الخارجية الإسرائيلي هاريل سيغل. صحيح أنه عُين حديثاً كوزير للخارجية منذ ثلاثة أشهر لا أكثر، إلا أن وجهه أصبح مألوفاً أكثر من أي وزير خارجية إسرائيلي سبقه، ربما لغرامه الاستثنائي بالمناسبات الاجتماعية والحفلات الصاخبة التي تظهر صورها على صفحات تلك المجلات أو الصحف المحبة للفضائح مثل السن والديلي ميل والديلي ميرور. تلقف أنفاسه، مع هذا الاكتشاف، وأحس بدوار بسيط. إنه تحت المراقبة الشديدة ومن الحكمة أن يلبس قناعاً من اللا مبالاة، وعليه أن يتماسك ولا يُظهر أيه ملامح تدل على معرفته بالمريض، ولما لا؟ لقد كان دائماً لاعب بوكر مجيد، فما عليه إلا الاحتفاظ بملامح لاعب البوكر. لا مشاعر، لا عواطف، لا شيء البتة. ورغم هذا الوعي الداخلي لوضعه الحرج، استطاعت عينا قائد الأمن الحادة التقاط ملامح ارتباكه، فبالنسبة لهذا الأخير لا مجال للمقامرة، وعليه التحرك فوراً لإبلاغ الأمير بهواجسه من أن الدكتور ربما تعرّف إلى الضيف، وبذلك تكون كل الإجراءات الاحترازية قد سقطت.

تسلق مدير الأمن الأدراج بسرعة ملفتة وخاطفة، وطرق باب الأمير عامر بطريقة قليلة اللياقة، والذي كان يحاول صرف قلقه بمشاهدة شريط إخباري يتحرك على شاشة عملاقة مثبتة على الحائط .

أعتذر لمقاطعة الأمير خلوته وتفه بعبارته بسرعة تنم عن ارتباك:

-نحن في انتظار تحسن حاله الزائر، سوف تجهز طائرته بالأجهزة الطبية اللازمة مع طاقم طبي سيحضر سراً من بلده ليرافقه برحله العودة. أعتقد أن كل شيء سيكون جاهزاً خلال الاثنتي عشرة ساعة القادمة.

استمع الأمير بانتباه ونهض عن كرسيه وتقدم منه قائلاً:

-هناك أكثر لتخبرني به؟ لا تستطيع أن تخفي عني أي شيء مهما كان مزعجاً، ملامح وجهك القلقة تقول الكثير. وارتفعت نبرة صوت الأمير: ماذا هناك؟

– هذا الطبيب، يا صاحب السمو، هناك الكثير لنقلق منه ومن وجوده هنا، أعتقد أنه عرف ما لا يجب أن يعرفه.

وهناك تفصيل عرفناه في الدقائق الأخيرة، بواسطة أجهزة دولة الزائر المريض، من أن الدكتور ربيع الصقال هو شقيق رئيس مجلس الشيوخ في دولة سومريا. ما يعني أن هذه القضية قد تتطور بشكل لا يمكننا السيطرة عليه، إلاّ بعمل استثنائي.

قال الأمير وهو يلّوح بيده بعصبية واضحة:

– أنت أكثر المحترفين الذين يعرفون ما عليهم فعله، عليك بالمبادرة فوراً ولا أريد أن أسمع أي تفصيل إضافي بعد الآن، ولا أرغب أن أسمع أحداً يردد اسم هذا الرجل هنا.

 الفصل الخامس

حان الوقت للاتصال بالمؤسسة. كانت هذه الفكرة تجتاح ذهنه الآن. الزمن سوف يعمل ضدنا حتى هذا الوقت، نحن نجلس في مقعد السائق، والسائق هو الدي يقرر الوجهة التي يقصدها. غداً من يدري إذا تأخرنا فقد نكون من الركاب الذين يتم نسيانهم على الرصيف لأنه لا متسع لمكان في الحافلة.

علينا المخاطرة. لا تردد. لا نملك إلاّ عبور نهر الروبيكون.

وضع الكود الخاص، على كومبيوتره، ودخل إلى موقع المؤسسة.كانت رسالته قصيرة جداً.

-نريد مسلم للطرود، العمل يجب أن يبدو كحادثة طبيعية. المكافأة ثلاثة ملايين دولا ر. الزمن اثنان وسبعون ساعة، كافة التفاصيل عن الطرد تردكم بعد دقائق.

أغلق مدير الأمن كومبيوتره وحك رأسه، ووضع سيجارة بين شفتيه ومجّها بقوة.

انتقل إلى باره الخاص، أخرج زجاجة الجين الإنكليزية، صب قليلاً منها في كأسه وأضاف إليه التونيك، كسر قليلاً من الثلج بآلة خاصة. ذهب إلى نافذته ونظر عبرها إلى الخارج. كان النهار ربيعياً. فكر قليلاً وهو يرشف مشروبه، لقد وضع للتو جدول الساعات المتبقية لأحد أهم أطباء المنطقة.

تأمل ارثر ماثيوس ضحيته وهي تغادر عيادتها، عبر منظار قناصته الخاصة التي انتزعها من جسم القناصة، وأصبح يستخدمها الأن كمنظار. لن يستخدمها التزاماً بالشرط الوارد بأن يبدو كل شيء على نحو طبيعي. تلّمس في جيبه الحوجلة المتناهية في الصغر التي تحوي التيترو دو توكسين، وابتسم.

حيدر كاتبة

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق