إلى التي امتدّ ظلها، ليصبح خيمةً
خضراء لقلبي
– 1 –
الباب الخشبيُّ العتيق:
لِمَ الصدود؟
أَدِرْ وجهكَ إليَّ..
أرى اللهَ، وعينيها، والنهرَ، والغَرَبْ…!
– 2 –
أراني بكَ، وجهاً مليئاً بالنتوءاتِ،
هنَّ لسنَ بثوراً..!
هنَّ حباتُ طَلعكَ،
يغارُ النخلُ منكَ تاركاً سعفهُ،
وصلاته للريح..!
– 3 –
المسافةُ تحتَ ظلّكَ طويلةٌ، وخضراء يا عبّادَ الشمسِ
كيف سأقطفُ حبّاتِ الطهرِ، بؤبؤَ عينيكَ، وأوزّعها على أطفالِ الحارةِ؟
قالتْ جدّتي:
حبّاتُ عبّاد الشمسِ عصيّةٌ على النارِ،
ولنْ تنضجَ إلاّ في الليلِ الطويلِ على جمرِ الحكايا، حين تكون الشمسُ قد غادرتْ مدارها الأخير، والأحلامُ نامتْ تحت أهدابِ الغروب.
حبّاتُ عبّاد الشمسِ، بناتُ الشمسِ، عصيّةٌ على المضغِ، كي تكسرَ واحدةً منها ستحتاجُ لألف يومٍ، وألف ظلٍّ،
وألف سكينٍ!
– 4 –
كيف لي أنْ أقرأَ الفاتحةَ في وجهكَ يا عبّادَ الشمسِ، وأنتَ تدورُ مع رجعِها البعيدِ أينما دارتْ؟
ظلُّ ” سبارتاكوس” ، وهو يتدلّى مشنوقاً على أبوابِ روما يشبهُ ساقكَ النحيلة وهي تتمايلُ أخذةً الغروبَ إلى اللهِ والغيابِ.
تعالَ نبتدعُ لغةً أخرى، نهيئ حروفَ القصيدةِ من أوّلِ السطرِ:
مِنكَ اللونُ، ومنّي الغناءُ،
منكَ الأصفرُ، ومنّي إحمرارُ الدمِ أيها الأصفر النافرُ في المراعي، والضفافِ:
لماذا تركتها تركضُ خلفَ ظلّي، وحمّلتني الليلَ الطويلَ أعيدُ فيهِ تعدادَ النجومِ، خشيةَ أن تظهرَ ” الثألولة ” على يديَّ؟ يومها أمسكْتَني خيطَ الطائرة الورقية التي أفلتَّها من يديكَ، وراحتْ تكتبُ النهارَ على سقوفِ الطينِ، وتبلُّ راحتيها بما تبقّى لها من دمائكَ التي سالتْ في النسغِ النحيلِ، وأوجعتْ عظامي، ثم ارتمى ظلّها غيمةً من حبٍّ وأكثر.
كيف لي أنْ أقرأَ الأصفرَ النافرَ الفضّاحَ في روحكَ، وعينايَ غادرتا محجريهما إلى العمى، وراحتا في الظلامِ تلاحقانِ الأخضرَ الجميلَ..وجه أمّي، ومادشرَ من عشبٍ في براريها؟
– 5 –
يا عبّادَ الشمسِ…
أعدُّ خطواتي إليكَ، واحدة، إثنتان، ثلاث، ويسابقني الغيمُ خاطفاً دهشة الإنحناءِ الطويلِ، مطراً ظلَّ يبلّلُ روحي وأبعدْ هي ما تركتْهُ العصافيرُ، حين غادرتْ إلى أعشاشها، بعدَ أنْ تمايلتْ فوقَ رأسي، ولوّحتْ للغيمِ تُدِلّهُ عليَّ، فأمطرتْ، وفاحَ الجصُّ من مقلةِ النهار.
يا عبّادَ الشمسِ…
. تركتني لتستدّلَ بي إلى اللهِ، والزقزقةِ!
هلّا أخذتَ قلبي، وتركتني وظلّكَ كعاشقين نلاحقُ صحوَ النهارِ بعد رنين الكؤوسِ، وما باتَ في خيالِ التينِ؟
قدْ قرأتُ الفاتحةَ عليكما، أنتَ، وظلّكَ لا قيامَ لليلِ، والنهار من بعدُ،
قدْ أوقفتُ دورانَ الأرضِ، والكأسِ، ورأسي. ..
أتدري يا عبّادَ الشمسِ… أنا قتيلٌ مثلكما.
– 6 –
– أنا ” سبارتاكوس ” قدْ تدلّيتُ مشنوقاً على أبوابِ روما، هل عرفتني ؟
– عرفتكَ من بعيدٍ يا مولايَ، حين لوّحتَ لي برأسكَ وهو يتدلّى، فأصبحتُ مثلكَ أرنو إلى الشمسِ حتى يحينَ الغروبُ، فيرتمي قرصيَ المشنوق متدليَّاً على أبوابِ النهار..!
عرفتكَ أيها الأخضرُ ما باتَ اليباسُ في خاصرتي، ولوّحَ لي بيديهِ المتعبتَين
-أرني وجهكَ.
-حين أميلُ برأسي سيرحلُ النهارُ باكراً عن صدرها يا مولايَ، ويصيرُ الأفولُ مقدمةَ القصيدةِ
-يا عبّادَ الشمسِ تعالَ إذاً نلعبُ لعبةَ ” الغمّيضة «. لا تفتحْ عينيكَ، اتركْ السيفَ جانباً، ودعِ الماءَ يدخلُ خاصرةَ نسغكَ، سنشربُ معاً نخبَ الشفقِ الأحمرِ الجميلِ، حين تغيبُ الكؤوسُ في غمرةِ السُكْرِ
. ” ماري…نو.ماري…نو.” قدْ دخلتَ جنّتكَ دون أنْ تدري..يا شهيدَ الظلِّ..!
لا تفتحْ عينيكَ إلى أن يتعالى الآذانُ الشجيّ فيضاً من حنينٍ، وصوراً من ذاكرة.
– 7 –
ياعبّادَ الشمسِ… أترى جلدي؟
والثقوب، هي ما تبقّى من طعناتِ النصلِ، تشبهُ حبّاتكَ النافراتِ إلى الماء، والشمس.
كيف تكون لي مرآةً لصحوي، وغيابي الذي طالَ فيكَ؟
أنا أراني فيكَ، وفي وجهكَ، تعالَ نعبر الصراطَ الطويلَ معاً، ونكتب ما خبّأتهُ الدوالي العالياتِ. .
أنتَ تسجدُ للشمسِ، وأنا أسلمتُ روحي لربِّ العالمين ..
تعال نسجدُ معاً، وحين أكملُ سجودَ سهوي سأسلّمُ عليكَ في إلتفاتةِ اليمين،
أخضرَ…أخضرَ كالحبَّ، وشهيّاً كالبرتقالِ، وفي إلتفاتةِ اليسار سآخذُ بيدكَ إلى عشبها الداشر فوق سقوفِ الطينِ، والحكايا التي اختبأتْ في شروخِ حيطانها.
يا عبّادَ الشمسِ، إنّي أشمُّ رائحةَ الجصِّ من وجهكَ،
لماذا تدورُ، وتدورُ ملاحقاً ظلّها؟
– ليستْ رائحةَ جصِّ يا مولايَ ، إنّهُ دمي الذي سالَ على الدربِ الطويلِ
– ها…وقد تشابهنا يا عبّادَ الشمسِ، من يخرجني من حقلكَ هذا إلى قاموسٍ لا تصريفَ فيهِ إلاّ للحبِّ.
اللغةُ عاجزةٌ عن التقاطِ أنفاسها، وهي تعدُّ حباتكَ اللؤلؤ قدْ تماهى اصفرارهنَّ مع الخريفِ الجميلِ، وما فتّحنَ عيونهنَّ. واللهِ. واللهِ. إلّا للحمامِ.
– 8 –
القبّراتُ السبع اللواتي وقفنَ فوق رأسكَ، وأنتَ تصلّي للشمسِ، وتتمايلُ للنهارِ قدْ ردَّدْنَ تلاواتكَ، ورفرفْنَ بأجنحتهنَّ حين قرأتَ البسملة، وغبْنَ في صمتِ الأبد حين أقفلتَ صلاتكَ بسورةِ ” الرحمن “.
قبّرةٌ واحدةٌ بصدرها المائل للحمرةِ كانتْ تنعيكَ في موتكَ الطويل طوال الليلِ مرثيّةً من رمادٍ، وبقايا صور
الحمامُ هجَّ في روحهِ بعيداً عن نواحِ القبرة الوحيدة، وتركَ أعشاشهُ للعصافيرِ، فهو يبادلها الحبَّ بالحبِّ ،
أعشاشهُ من أغصان التوتِ الحنون، والقشِّ، كلُّ عشٍّ يتسعُ لمئةِ ظلٍّ، ومئة جناحٍ، ومئة أغنيةٍ من زقزقاتٍ تعتّقتْ على أنغامِ مقام ” البيات «، وعودٍ من خشب التوتِ.
القبّرةُ الوحيدةُ تصلّي مثلكَ، فقد وهبت قلبها للّهِ، ورمتْ مصيرها في النهار الطالعِ من طارفِ العشِّ.
القبّرةُ الوحيدة بصدرها المحمرِّ، تنقر حباتِ طلعكَ، وتقضمُ أحلامكَ التي تركتَها داشرةً أمامَ الماءِ.
– 9 –
النهاياتُ الحزينةُ أقفلتْ ” زراقها ” الحالم في الموانئ، وباتتْ عيونُ المناراتِ تتلفَّتُ كالزرازيرِ حين تدشرُ في براري الروحِ دهشةً من ظلٍّ، وفاتحةَ كتابٍ
إنّها تلوّحُ بيدين من شالٍ عتيقٍ أخضر اللونِ.
يا عبّادَ الشمسِ، أعرفُ أنّكَ تسابقُ ظلّكَ الأسودَ الذي ارتمى في قاعِ الكأسِ الأخير أبيضَ الروحِ،
قدْ تماهيتَ معهُ كي تصيرَ أخضرَ أخضرَ كالصفصافِ!
هي الألوانُ تُشتَقُّ من روحِ بعضها
المرايا، التي أدهشتني فصولها تعكسُ ظلّ ذاكَ النهار الذي تشظّى إلى غيمةٍ فوق بحيرة.
المرايا التي أدهشتني بأحمر شفاهها، ظلَّ خيالها كسرابٍ بعيدٍ يعيدُ سيرةَ الحُلمِ الأحمرِ الجميلِ
يكفيكَ إنحناءً يا صديقي، قد مالَ النهارُ بكَ حتى قبَّلَ الأرضَ من راحتيها.
واللهِ…واللهِ… الإنحناءةُ الطويلةُ صارتْ ظهرَ قمر…!
– 10 –
يا عبّادَ الشمسِ…
أكتبُ حروفَ القصائدِ مفتوحةً إلى اللهِ، وعينيها،
وأتركُ النقاطَ للعصافيرِ كي تزقزقَ عليها تاركةً سكونها، فيركضُ النهارُ تاركاً آياتهِ على الماءِ.
– 11 –
يا عبّادَ الشمسِ:
كيف تركتَ ظلّ أمّي، وهي تخبزُ، وسبعة اطفالٍ حولها ينتظرون الرغيفَ الشهيَّ،
والنهارُ أضمومةُ حبٍّ على يديها المبتلّتين بالعجينِ؟
كيف تركتَ النهارَ يركضُ أمام البيتِ تاركاً ظلّهُ شجراً أخضرَ اللونِ من توتٍ، وتينٍ، ورمّانٍ؟
تعالَ لنتّفقَ على الحبِّ
-قل لي ما اسمكَ الحقيقي؟
– عاشقُ الشمس يا مولاي ، لكنَّ أمّي، قد نذرَتْ، وأطلقتْ عليّ ” عبّادَ الشمسِ ” كما ترى، وأنا لا أملكُ سوى هذا الرأس المتدلّي ، والرقبة النحيلة ، والسجود..
– كيف تلاحقُ ظلَّ النهارِ العالي ؟
– أمشي بروحي يا مولاي ، وأعرفُ كلّ الجهاتِ إلاّ الشمال ، فالشمس لا تشرقُ من هناكَ ، وأتركُ خلفي ما ارتمى من طَلعِ النخلِ ، وما اهتزَّ من سعفهِ ، وما حوَتْ التلالُ من خيالاتِ الجدايا وهي تركضُ مطاردةً أحلامها البيضاء، فأمسكُ بالشفقِ ، والغسقِ معاً، وأتلو آياتي البيّنات على طلوع الفجرِ، ومن غاب في ترحالهِ البعيد. والأرضُ لمّا تزلْ تدور دورتها الأولى على تخومِ النهارِ.
– وكيف تنامُ ، ورقبتكَ متدليّة ، والليلُ أحوى لا شيء فيه سوى صمت الكؤوسِ الحالمة ؟
– قلبي ارتمى على الجدارِ، وروحي تسابق ظلّي يا مولاي، فلا تعثرْ في الماءِ، والنومُ نوم الروحِ على عتباتِ البوحِ ، حين أرنو بوجهها ، والباب الخشبي العتيق ، وأفتحُ دفترَ بوحي لها ، وأسجّل الأيامَ الممطراتِ ، وما دشرَ من عشبِ تلك البراري …أسجّلُ غياب الغيومِ ، وعدد القبّراتِ ، وما تكسّرَ من أجنحةِ اليمامِ ، وما ماتَ من ” الكطا ” ، وما تركَ الحصادُ من ” السفيرِ / القشِّ ” أعشاشاً لها على الأرضِ ، حين تموت بهدوءٍ أمامَ بارودة الصيّادِ .
أسجّلُ موتي، وموتكَ، غبشة تفتحُ بيديها سرَّ وجهي، وما تمايلَ من ظلٍّ، وخيالٍ تحت رأسي.
–لمَ البكاء يا مولايَ…؟
– أبكي غيابكَ ، و شمسي ” المنتظرة..! “، والنهار الذي لاحَ لي من بعيدٍ، من شروخِ البابِ الخشبي العتيقِ ..
أبكي بقيّةً من نهارٍ كنتُ على موعدٍ معهُ.
—————————————————————————————————————————–
الرقّةُ الوضّاحةُ – رفرفَ “الكطا ” آخذاً روحي إليها
-2015-