منذ سنوات عدّة، بدأ الشاعر والأديب الدكتور يوسف بوزو، تجربة إبداعية مميزة، بتقديم مشاهد من الفن التشكيلي السوري، وقراءة مكوناتها: بيانياً – جمالياً.
لا تأخذ هذه التجربة بالأدوات التقليدية للقراءات النقدية لـ (اللوحة)، والتي عادة ما تتمسك بتلك المسافة التي تؤمّن لها (برودة درسية)، تتيح لها الوصول إلى حكم تقييمي. بل يبادر الشاعر في تجربته، إلى هدم تلك المسافة، ويحتفي بحريق اللقاء معها، فتدخل الكلمة في فضاء اللون، وتتأرجح مغناجة مدللة على الخطوط، فتداعب ما تخفيه وتغمر ما تفصح عنه، وإذ لا تقطب جبين النقد، تبدو مبشّرة بوليمة من ولهٍ وحبٍ وعشق.
والكلمة هنا، وهي تنهمك بالانغماس في لجّة التشكيل بخطوطه وألوانه التي سرعان ما تقع في أسر كيمياء هذا الانجذاب، فتهرع صوب الكلمة لتختتم كيمياء اللقاء سحرها، بتشكيل ذلك الرحم الإبداعي، الذي سيولد منه ذلك الكائن الجمالي التيّاه بنفسه خارج أسوار مدارس النقد ومناهجها، أميراً في حدائق الجمال الحر.
يعتز سيرجيل بهذه التجربة، ويقدمها بمختلف مشاهدها، التي مهما كانت مواجعها صريحة أحياناً، غير أنها في النهاية، من عالم هذا الجمال العصّي على الخراب…!
لوحة لا تنتهي…!
قراءة في لوحة الفنان عبد الحميد فيّاض
الفيّاض “… يفيضُ حباً، وعذاباً، ولوناً…
سأقولُ ما أردتَ أن تقوله، وتحكيه ، وتبكيه يا عبد الحميد .
تكويناتٌّ ثلاث، في تكوين واحد، قد غلبتَ الموتَ فيه، وأبدعتَ،
والعويل تعالى من صدر اللوحة / الوجع ، وتآلفنا والموت ، والصراخ الذي بات هاجس الليل الطويل.
هواجسكَ قد سابقت الريشةَ، واللون ، وجلستْ هي الأخرى تحكي معاناتها آخر الليل ، حين تداعى الدمع للويل ، والسكر بين لمعان الكأس ، وجهشة القلب ، وشهقته.!..
سأسمّي اللوحة ” صرير الألم “
راح يتدرّج فيها اللون بين مساحات العذاب ، وأخضر الحب.
كم من المرايا قد تكسّرت على هذا الدرب ، والليلُ همسٌ ، ومواويل ، وأغان مجروحة بالسكين.!
أيّ عذاب هذا ، وأيّ أنين تعالى من صدر اللوحة ، واللون؟!
كلُّ ما في اللوحة يوحي بالعويل..
كلُّ ما في اللوحة يشير إلى الألم ، والإحباط ، ومحنة المضطهدين ، والمكسورين ، والمسحوقين ، والمهمّشين ، والمذبوحين حدَّ السكين ، والحب .
الفنان المبدع الأستاذ عبد الحميد فيّاض…كيف تكون الشاهد الوحيد على كلِّ هذا الكم من الحب ، والوجع..؟
وكيف استطعتَ أن تحوّلَ الهمس ، والبوح على صدر لوحتك ، إلى عويلٍ تعالى أعلى من بحّةِ المذبوح ، والمشنوق ، والمطحون ، والمغتَصَب..؟
كيف استطعتَ إقناع اللون إلى حضور الدهشة ، وكيف أعلنتَ الرفضَ لغةً للتحدّي؟
لا بلْ كيف طاوعت يداك المرتجفتان ، وأنت تفتح فصولَ الفرح ، والدهشة في الأخضر الداكن ، والقاتم..؟
حتى كاد فرحكَ أن يستحيلَ عزاءً للمكسورين.!..
يا ” أمير الألم ” ، و يا فتّاحَ الدهشة من قلب العويل ، والصهيل ، ويا وهّاج الكأس اللمّاعة آخر الليل بالتعاويذ..
سأصرخ :
إنّي انكسرتُ …
إنّي انهزمتُ…
واسألوا اللون الذي تعشقون.
لا تكفيك قراءة المعوذات من سخط الجلّاد ، ورحتَ تدير ظهر الضحيّة للموت ، لا للعتاب ، تحاول إظهار ما خفي من سطوة الموت ، والصراخ من السياط ، فتدرِّج اللون باهتاً كي يأخذ مداه في الحكاية ، ثمّ تقصّ علينا من الآي الحكيم ماينفع الناس بالإبتلاء، وما يدنيهم من الحب.
قالت الكأس :
تركتُ رنيني يصافح قبلاتكم قبل النوم،وبعد الصحو ، ونمتُ في شالها المستباح ، وتركتُ ليلي ، وخيلي ،وما تمزّق من ثياب الندب ، والحبُّ قبلةٌ ، وكأسٌ من المحيّا الجميل.!
يا عبد الحميد… إليكَ قلبي وما حمل .، لا تفضحني بلونكَ ، وريشتكَ / قالت النسوة هذا ، من شدّة الوجع ، والوجهُ ليلٌ مخدوش الروح ، ومكلوم الصدر ، والأغاني للمراثي.
ليلْ…يا ليلْ…يا ليلْ..
لم تترك حتى ساقيها، والندب التي أحرقت جلدها،وهاجس الظنون قد بدا على محيّاها الحزين..
ليلْ…يا ليل…يا ليلْ…
الأبيض الكالح، المائل إلى الفضّي ، صار نهاري الذي تحوّل أسود اللون على وجهي .!
أي ليل أطول من هذا …؟
وأيّ عذاب أوجع مما رسمتَ، ولوّنتَ..؟
لوحةٌ لا…ولن تنتهي…!
ثلاث تكوينات في وجعٍ واحد…
وثلاث قصصٍ في ليلٍ طويلٍ واحد…
وثلاثة مواويل في بحّة ناي على صراط واحد…
من أين أبدأ أيها الفنان… وأين سأنتهي …؟
قالت العرّافةُ :
خذوا أحلامكم معكم، ولا تنسوا عويل اللوحة ، حين يؤذّن لله في مآذن ، قد مالت من ثقل حملها ، وانكسارها .
الله في اللون…
الله في الحب…
الله في مواويل تكسّرت على السياط …
الله في ريشة سافرت في الوجع، وأدهشت عيناً بات يتدحرج الدمع منها، وأرادت أن تصيح ، لكنها ظلّت مخنوقة ، ومبحوحة ، ومجروحة…!
عبد الحميد فيّاض فنان يأخذنا إلى مسرحه، ويعرض لنا لونه ، وصراخ معذّبيه ، دون أن نرى السياط ، والجلّاد ، والهراوات ، والسكاكين…لكنه يترك لنا مساحة من التخيّل ، والأمل ، ندرك من خلالها من هم خلف الكواليس ، وكم عدد الهراوات ، والسكاكين المثلومة، والسياط التي يحملون .
أدهشتنا أبا عبيدة، وآلمتنا .. لكنك تركت لنا الصراط الذي نريد، ونشتهي…
سبحانكَ ما أجملك …!
ودادي ومودتي أخي الكبير الفنان الأستاذ عبد الحميد فيّاض / للدهشة أن تشعلَ الكون، وللسكين أن تختصر الضحيّة…!
عبد الحميد فيّاض
مواليد مدينة الرقة 1953، خريج كلية الفنون الجميلة – جامعة دمشق، بدرجة امتياز، ليعود إلى الجامعة كأستاذ فيها. عضو اتحاد التشكيليين العرب وعضو مؤسس في تجمّع فناني الرقة، ولجنة الحفاظ على التراث الهندسي.
منذ العام 1970، يعرض إنتاجه الفني فردياً كما في معارض جماعية، حيث اقتنيت أعماله في مختلف دول العالم.
صاحب تجربة مميزة في إطار التجريدية الواقعية، غير أن مرجعياته الثقافية والفنية والبصرية تتعدى حدود الواقع الراهن، وإن كان يؤرخه على نحوٍ تراجيدي، لتصل إلى طفولة الحضارة على شاطئ الفرات الذي يشهد الآن _ يا للمفارقة – فصل الخراب الواصل إلى أعماق الموج الذي يلطم صدر الرقة التياعاً وحزناً، ليسيل دمعاً يصل البصرة دماً.