الشاعر السّوريّ خليل سلّوم… ليس من السهل أن تختصر سيرة رجلٍّ كان في أكثر حياته ملء السمع والبصر، وكانت سيرته مكتظةً بالعلم والفكر والثقافة والأدب في صفحاتٍ معدودةٍ. ومن ثمّ كان من المناسب التنبيهُ هنا على أن المقام قد اقتضى أن يكون الكلام إشاراتٍ تشبه أن تكون عناويناً أو رؤوس أقلام: لأنَّ استيعاب الديوان (324 صفحة) والإحاطة به بتفاصليه وتفريعاته في مقام الاختصار شيءٌ متعذرٌ، وما لا يُستطاع كلّه، لا يُترك جلّهُ. فهذه الدراسة المختصرة هي بمثابة قيمة تعريفية للجيل الجديد، أكثر منه إيفاء حقّ الشاعر.
تتمحور الملاحظات التالية حول نصين شعريين متفاويتين كلّ التفاوت في ظروف الزّمان والمكان، وفي ملابسات الثقافة والسياسة والاجتماع، نصّين يمتدان عبر القرون: ليلتقيا رغم كل ما يحوطهما من تفاوت حول إشكاليّة حضاريّة – ثقافيّة معقدة في جوهرها.
تجتمع قصيدتا سلّوم وييتس حول قضية (الإبحار)، وتختلفان حول جهة هذا الإبحار، فهي عند سلوم إبحارٌ من الآخر إلى الذات، وهي عند ييتس إبحارٌ من الذات إلى الآخر. وفي هذا التفاعل بين (الذات / الآخر) جانبٌ إشكاليٌّ، فهو موقفٌ تتكبد فيه الذّات شعوراً بالنقص. وسبب هذا كلّه هو أنّ وقفة الذّات أمام الآخر باختلافه الثقافي والحضاري، هي وقفة مشبعة بالقلق، بل هي وقفة سرعان ما تتلبس بالرحيل، فتصبح انطلاقة نحو المختلف أملاً في الوصول إلى الكمال الذي لا يتحقق طبعاً فلا يتبقى سوى آثار الرحيل إليه.
فنحن إزاء قصيدتين من أجمل قصائد الارتحال بكل ما في ذلك الارتحال من قلقٍ وشوقٍ وتوهج إبداعي. فزورق المغترب عند سلّوم هو رحلة نحو ثقافة الجذر والتحام بذاتية الأنا / الآخر، رحلة تفضي إلى مكاشفة ذاتية من خلال مواجهة الآخر. وكذلك هي رحلة ييتس نحو حضارة بيزنطة وآثارها الفنية التي تحمل بالنسبة له خصوصية تميزها عن التوجهات الثقافيّة والإبداعية في حضارة الغرب.
ولعلّنا ننطلق في مقارنتنا هذه من ملاحظة أنّ الارتحال يبدأ في كلتا القصيدتين من همّ ذاتي، أي من معاناة فردية، وإن اختلف الإطار الذي تنطلق منه تلك المعاناة. لكنّ المهم هنا أن نتبين أنّ تلك المعاناة تشكّل المبرر الموضوعي والفني للارتحال إذ يقول خليل سلّوم:
قد جُنَّ ليلي فانطلق يا زورقي /
واطوِ مسافاتِ الزّمان المرهق(1)
ولو أردنا التعرف على طبيعة تلك المعاناة: لوجدنا الظروف التاريخيّة، سواء على المستوى الفردي أو مستوى العصر، تشكّل عاملاً رئيسياً من عواملها بالإضافة إلى كونها إطاراً عاماً لابدَّ من استحضاره. (بدد ظلاماً عالقاً في أفقي(2)).
فسلّوم هنا يرسم لنا ظروفاً تاريخيّةُ بل وشخصيّةً محددة كانت وراء معاناته، وهذه الظروف التاريخية – الشخصية، وإن لم تقف بمعزل عن إطارها الفنيّ. فإنّما تلقي بثقلها على تشكّل القصيدة، وتُسهم بالتالي في تحديد طبيعة المعاناة. فالذي يحدث هو أنّ الهموم الذّاتية تفضي تدريجياً إلى هموم جماعيّة، حتّى إنّه ليصعب الفصل بينهما. فالذات التي تفتتح القصيدة (ليلي)، سرعان ما تطالب بـ (الانعتاق = انطلق يا زورقي)، لينتقل الشاعر مباشرةً (لا تخشَ موجاً عاتياً سرْ باتجاه المشرق)، وهكذا تتسع الدوائر: لتتسع معها دائرة المعاناة، وتشتبك.
وإبحار ييتس إلى بيزنطة ينطلق أيضاً من مرفأ الهم الفردي الذي يأخذ هنا طابع الشيخوخة والعجز عن مواصلة العيش في عالم تضخُّ فيه الحسيات: ليس ذلك وطناً للشيوخ / الصغار في أحضان بعضهم / الطيور تلك الأجيال الفانيّة / في الأشجار تغني / مساقط السلمون، البحار المتخمة بالأسقمري / أسماك، أجساد، وطيور، تحيا طوال الصيف / كل ما يولد ويموت / في أسرتلك الموسيقى الحسيّة يهمل الجميع / نصباً لعقل لا يموت(3)
الشاعر الإيرلندي الذي كان قد بلغ الستين من عمره يقول: ليس الإنسان العجوز سوى شيء حقير / معطف ممزّق على عصا / ما لم تصفق الروح بيديها وتغني، وترفع صوتها بالغناء / عن كل مزقةٍ في ثوبها الفاني…
نحن إذن إزاء همّ ذاتيّ المنشأ، لكننا نجد أنه يقود الشاعر الإيرلندي مثلما قاد الشاعر السّوريّ إلى دوائر أكثر اتساعاً من الهم والرؤية. وليست تلك الدوائر بالطبع سوى آفاق ثقافيّة وتاريخية مغايرة إلى حدّ كبير لثقافة الشاعر وثقافة عصره، آفاق تتمثل في الحضارة البيزنطية بمكوناتها المتباينة التي خلقت مزيجاً ثقافياً وإبداعياً.
ولعلّ من الضروري هنا أن نتذكر أن ييتس في قصيدة (الإبحار إلى بيزنطة)، لا يبحر نحو الشرق أو نحو فارس، وإنما نحو كيان حضاري يراه جزءاً مختلفاً عن أصله: لكونه تلقى تأثيراً عميقاً من كيانات حضارية مختلفة. ذلك المزيج من العناصر الفنيّة هو ما نجده في (الإبحار إلى بيزنطة) حين يقول الشاعر في المقطع الثالث من القصيدة:
أيها الحكماء الواقفون بنار الله المقدسة / كما في الفسيفساء الذهبية على جدار / تعالوا من النار المقدسة، انحدروا / وعلّموا روحي الغناء / أحرقوا قلبي، ذلك المريض بالرغبة / والمربوط إلى حيوانٍ فانٍ / لا يعرف من هو، واجمعوني في حيلة الخلود.
من القراءة الأولى لقصيدة ييتس سندرك أن ثمّة إبحاراً تقوم به الذات نحو بيزنطة، بوصف هذه الأخيرة موقعاً حضارياً متفرّداً. غير أننا في القراءة الثانية سنتبين أن رحيل الذّات لم يكن ليتم لولا أنّ بيزنطة نفسها قد قامت بإبحار آخر نحو ينابيع حضارية مختلفة عن أصولها. بل إنّ هناك توازياً بينها وبين الذات الراحلة إليها.
فبيزنطة، من هذا المنظور ذات حضارية ضخمة أتمّت امتزاجها بالآخر، وذات الشاعر ساعية إلى تحقيق ما يمكن أن نسميه (الالتحام مع بيزنطة). ذات التوازي بين الذات وما تسعى إليه نجده أكثر وضوحاً في قصيدة زورق المغترب لسلّوم، ولو أنّ التوازي هنا ذو طبيعة مختلفة. فالقصيدة تطلُّ علينا بلغة أقرب ما تكون إلى الهمس، ترسم أمامنا ذاتاً نكاد نلمس كيانها ووجودها.
أميّ معي تحرسني من عاصفٍ أو غرق /
فطيفها مرافقي /
قبلتُها ظلّت ضياءً ساطعاً في مفرق
لكم حنت تضمّني بصدرها بالمرفق /
في الحرّ في القرّ الشقي /
كم خبأت طفولتي بثوبها المنمّق المعتّق
أهوى بأن أمسحه، بهدبي، بالمؤق
وكأن الذات هي التي تتحدث عن نفسها، لكننا لا نعلم إن كان الشاعر يتحدث عن ذاته أم عن ذات حضارته، فإننا بقراءة عكسية للقصيدة، أو قراءة ثانية، سنجد أنّ ذات الشاعر إنما تتهيأ لموازاة الذات مدركةً شبهها بها: ليغدو ضمير المتكلم معادلاً موضوعياً لتلك الذات، كما كانت بيزنطة معادلاً موضوعياً لذات شاعرها.
فانظر إلى الشرق مليّاً حدّث /
رفَّ بجناحيك وطرْ وحلق /
صلْ بي إلى مطارح الحلم البهي الشيّق
هناك تصبو دارنا لنلتقي /
وتنتشي جنّاتها بالعبق /
أنداؤها، تناثرت معشوقةٌ للورق /
هناك بوحّ سوسنٍ وزنبق
وبين سلّوم وييتس تحتشد دلالات ثقافيّة وتاريخيّة متشعبة. وإذا كان سلّوم في هذه القصيدة يحقق تجاوزاً مهماً في بنية ودلالات القصيدة، فإن ذلك التجاوز لا ينحصر في الانتقال من الوقوف على عتبة ذاته إلى الوقوف على عتبة الوطن. بل يتعداه إلى الالتحام بتلك الآثار التحاماً تمتزج فيه الذات بموضوعها من خلال المعاناة الذاتية ومعطيات التاريخ والحضارة.
ويجد سلّوم في ضمير المتكلم شبيهاً له في الهم، ولكنّه يوحي أيضاً باختلافه عنه، ومن تماس الشبه والاختلاف ينشأ توتر درامي،
“يا زورقي… يا قلقي /
صلْ بي إلى بحر السلام الرائق /
تاهت به ألوانه تحارُ بين أبيضٍ وأزرق
يا قلقي /
أعطف عليّ، أشفقِ /
بدد ظلاماً عالقاً في أفقي”
استناداً إلى كلّ تلك الإشارات، يمكننا القول إنّ الخطاب الشعري السائد والأكثر هيمنة هو خطاب ينشد تعميق العلاقة بين الشاعر كذات والوطن كذات، فهو خطاب يسير نحو تحقيق التلاحم بين الشاعر والذات. ومع ذلك فلا بدّ من تذكر أنّ الخطاب يظل غير قادر على الانفصال عن خطاب أو خط آخر يسير ملتصقاً به، ونحن من هنا نستطيع أن نفهم لماذا ينتهي التوق إلى حالة من الشك أو الوعي بالمستحيل.
في هذه اللحظات، لحظات الوعي ولحظات الشك بحقيقة التجربة، تنقلب الرحلة، فالاقتراب يفضي إلى الخروج، والقرب من التمازج يؤدي إلى الابتعاد عنه.
يا شمسنا ترفّقي /
تمهّلي تهيباً، لا تُشرقي /
حتى ألاقي وجها،
في وجهها فجري النقي
وهذا تماماً ما يحدث في تجربة الشاعر الإيرلندي، فنحن في قصيدة (الإبحار إلى بيزنطة)، لا نعدو أن نتأمل مشروعاً لرحلة لا تتم: وحالما أغادر الطبيعة لن آخذ جسدي / من أي شيء طبيعي.
نعود من هذا بنتيجة مفادها أنّ الرحلة سواء عند سلّوم أو ييتس، لا يتحقق منها سوى آثارها، تتحقق القصائد كمشاريع، كمخططات لأحلام ومقاربات للمستحيل. يعود الشاعران بقصيدتيهما كشاهدين على محاولة الوصول، وبتجربتين ذاتيتن حفرتا مكاناً مهماً في بناء القصيدة.
خاتمة: إنّ ما يميز كتابة خليل سلّوم الشعرية هو مقدرته الواضحة على المزج بين بساطة التعبير وواقعية الكلمات والمعاني من ناحية ورمزية اللغة الشعرية من ناحية أخرى، وعنوان الديوان (فوق تجعّدات الزّمن) يحمل دلالاتٍ فنية رمزية خالصة تلخص الإطار العام للرؤية الشعرية في الديون كله.
- خليل سلوم: شاعرٌ سوريٌ معاصرٌ، ولد في قرية الزويتينة في محافظة حمص عام 1930 م، حاز على درجة الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، له ديوان شعري موسوم بـ (فوق تجعدات الزّمن)، صادر عن مركز سيرجيل للثقافة والفنون والإعلام، ط1، 2018م ، وُزّع الديوان توزيعاً خاصّاً. الديوان مقسم إلى (14 قسماً)، ويضمُّ (47) قصيدة.
- وليم ييتس: شاعرٌ إيرلندي معاصرٌ، ولد في سانديمونت 1865م، ويعدّ من أكبر شعراء الإنجليزية في القرن العشرين.
————————–
- خليل سلوم فوق تجعدات الزمن صفحة 101
- خليل سلوم فوق تجعدات الزمن صفحة 102
- The Collected Poems of W.B. Yearts (New York: Macmillian Co>inc, (1976)191-192
قرأنا بشغف المقارنة الأدبية عن الشاعرين السوري ( سلوم)والارلندي ( ييتس) .فابحرنا مع سلوم من بيزنطية إلى المشرق برقة الشعر وعمق المعاني.وحبذا لو يتوسع حضرة الأديب نزار سلوم بدراسته عن الشاعر سلوم. فيزيدنا شغفا وتعلقا دون التقليل من أهمية ترجمة عمل الشاعر ييتس التي مع أمانة الترجمة تبقى حسب رأيي المتواضع حاملة بعض جفاف مقارنة مع رونق القصيدة مع سلوم: قدني إلى المشرق …