[يعاني التاريخ السوري، الذي علميّاً، تعتبر بداياته، واحدة من أكثر البدايات الواضحة لتاريخ الإنسانية، يعاني من عمليات التجهّيل به وبمكوناته وفصوله ولغاته وفلسفاته وآدابه، وإذا كان هذا التجهيّل قد بدأ، لأسباب دينية، مرتبطة بالدعوة المحمدية وعوامل انتشارها، فإن الدولة الوطنية / الكيانية، تبنّت هذه العملية ودعمتها بحيثيات إيديولوجية تقوم على تعريفنا: كعرب أتينا إلى هذه الأرض التي اسمها سورية، أولاً بتلك الهجرات (السامية)، وثانياً مع الفتح العربي/ الإسلامي، الذي منحنا هويتنا الثقافية التي تتطلب قطعاً كاملاً مع ما سبقها. حسب هذه الأيديولوجيا:
إتنيّاً: نحن عرب من الصحراء.
ثقافياً: تشكلت شخصيتنا، في مجرى الدعوة المحمدية وفصولها، ابتداءً من القرن السابع الميلادي.
بالمعنى العلمي: تم نسف التاريخ السوري برمته، فولدنا (ثقافياً وتاريخياً) كشخصية قومية، من خاصرة معركة اليرموك التي فتحت الباب للمّ لحمة العرب القادمين من الجزيرة مع الذين سبقوهم مع الهجرات السامية الأسطورية…!!
وفق هذا المنهج توضع الكتب التربوية والمدرسية، وتوضع المناهج الجامعية، فيتطابق تاريخنا مع تاريخ اللغة العربية، التي ندرس أدبها ونحن نظن أننا ندرس تاريخ أمتنا وشخصيتنا القومية.]
سعادة عبد الرحيم يناقش هذه الإشكالية في هذا المقال:
يتم بناء الشخصية القومية، في أحد جوانبها، من خلال معرفة آداب الأمة وسيرة عظمائها وتاريخها الثقافي والسياسي القومي. كيف يتمظهر هذا المنهج في مؤسساتنا التربوية؟
في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، تدّرس آداب اللغة العربية، وفق منهجٍ يقسّمها إلى المراحل التالية:
1 – المرحلة الأولى: حقبة الأدب الجاهلي: وتشمل كل الفترة السابقة للدعوة الاسلامية المحمدية في الجزيرة العربية، أما بقية العالم العربي فكان سكانها يتكلمون غير العربية. سكان (الهلال الخصيب) كانوا يتكلمون السريانية والمثقفون منهم يكتبون بالسريانية واليونانية.
2 – المرحلة الثانية: أدب صدر الإسلام: (عهد الرسول الكريم والراشدين): مجاله محدد في نطاق الجزيرة العربية.
3 – المرحلة الثالثة: الحقبة الأموية: تشمل في نطاقها أدب الجزيرة العربي وأدب العرب الذين دخلوا البلاد المفتوحة وأدب بعض أهل البلاد المفتوحة.
4 – المرحلة الرابعة: الحقبة العباسية: تشمل في فصولها، أدب الجزيرة العربية والبلاد المفتوحة، وتتميز بأن الانتاج الأدبي في البلاد المفتوحة والذي يعود إلى أدباء من غير العرب، كان أغنى وأوسع من أدب الجزيرة العربية.
5 – المرحلة الخامسة: حقبة الانحطاط الذي أصاب الدولة العربية الإسلامية والمجتمعات الناطقة بالعربية، وتمتد هذه الفترة من أواخر العهد العباسي الى أواخر الدولة العثمانية.
6 – المرحلة السادسة: حقبة عصر النهضة العربية الذي يشتمل على الإنتاج الأدبي لكتاب ناطقين باللغة العربية، وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولاً الى هذا الوقت، مع تجنّب الدخول في تبويب المائة سنة الأخيرة بمنظار الحداثة، نظراً لعدم اختصاص البحث بهذا التبويب.
مناقشة وتساؤلات:
تُدرس اللغة العربية وتمتدح فصاحتها وثروتها اللغوية في الحقبة الجاهلية؟ (وهي الحقبة التي شكك بوجودها الأديب المصري طه حسين، ليتم تكّفيره، ليتراجع عن غير قناعة) حيث يتبادر إلى الذهن، كيف نمت هذه الثروة اللغوية والمعرفية في جزيرة العرب المتخلفة حضارياً، بسبب معطيات البيئة، فاللغة كائن حي ينمو بنمو حضارة المجتمع الذي ينطق بها؟ والاجابة التي نسمعها دائماً من أصحاب هذا الاتجاه، أن ذلك يعود الى عبقرية أبناء الجزيرة العربية وفطرتهم ويركزون على سلامة فطرتهم وأن هذه العبقرية انحصرت بالفصاحة والشعر!! وهذا التفسير لا يقرّ به عقل بصير.
حلُ هذه الأحجية قدمها العقل التاريخي العلمي للمؤرخ السوري العظيم محمد محفل في منتصف السبعينيات بمعرض رده على الدكتور شارل مالك الذي يقول :(غنى حضارتنا بسبب وجود اليهود وإننا بحاجة إليهم اليوم). يقول الدكتور محفل: إن العرب أخذوا من اللغة الآرامية لهجة تقتصر مفرداتها على ما يحتاجونه في حياتهم الفقيرة، كالشاة والحصان والناقة واللبن والقمر والشمس والليل والنهار….الخ، إلى أن جاءت آرامية الأنباط إلى الجزيرة العربية، بسبب هجرتهم إليها بعد تدمير الرومان لدولتهم ولعاصمتها البتراء، وأصبحت هذه اللهجة فيما بعد لغة القرآن الكريم.
إذا كان الأدب العربي في الفترة الجاهلية محصوراً في الجزيرة العربية وكان مقتصراً على الأغلب، على الشعر وبعض الخطابة، فهل نحن كسوريين كنا خلال هذه الفترة وقبلها بدون آداب؟ مع أننا نسبق العرب حضارياً آلاف عدة من السنين! ألا تناقض هذه الفرضية منطق التاريخ وقوانين نشوء الحضارة؟
في صدر الإسلام (عهد الرسول والراشدين)، وبفعل الدعوة والعقيدة الإسلامية عرف الأدب العربي، وفق الرواية الرسمية لتاريخ الإسلام كما تظهره المراجع التعليمية، ازدهاراً يتعلق بالدعوة مثل حفظ القرآن والخطابة والحديث…الخ. وكل هذا كان من إنتاج عرب الجزيرة العربية. أما في الحقبة الأموية فقد سبقها دخول سورية نطاق الدولة العربية الإسلامية وحيث أصبحت دمشق عاصمتها، عادت للشعر مكانته التي ضعفت خلال فترة الرسول والراشدين، ودخل في أنماط حديثة بسبب احتكاك العرب بالحياة الجديدة في الأمصار المفتوحة، وأخصها سورية، لكننا نسأل: هل كان للسوريين في هذه الفترة آداباً غير أدبهم باللغة الرسمية للدولة وهي العربية؟
وما هو دور الحضارة السورية في تطوير آداب اللغة العربية؟
في الحقبة العباسية نلحظ تطوراً كبيراً على آداب اللغة العربية، حيث شملت في فصولها حقولاً حديثة، غير الشعر والخطابة والحديث وغيرها مما يتعلق بالدين، فتضمنت الآداب العربية الفلسفة والعلوم على اختلافها. ليعود السؤال ذاته: هل كان للسوريين آداباً غير أدبهم باللغة العربية في هذه الفترة؟ وما هو دور حضارة السوريين في تطوير آداب اللغة العربية؟
في حقبة الانحطاط، التي شهدت توالياً وتعاقباً للحروب والاحتلالات، وكان آخرها الاحتلال العثماني، أصبح مجمل السوريين يتكلمون العربية، ففيها اكتمل تعريب المجتمع السوري وأسلمته.
عصر النهضة هو الفترة التي شهدتها المجتمعات الناطقة بالعربية، نتيجة الاحتكاك بالثقافة الأوروبية، مما ادى إلى نهوض اللغة العربية وآدابها، والتي بدأت فيها الحركات الفكرية تأخذ طابعاً قومياً وعلمانياً.
بعد هذا الاستعراض الموجز، نسأل: هل بقي للسوريين آداباً غير أدبهم باللغة العربية؟ وهل انحطت هذه الآداب؟
كما يبقى سؤالنا: هل كان للسوريين آداب قبل دخول العرب المسلمين سورية؟ وأين هو هذا الأدب إن وجد؟
لغات سورية القديمة وآدابها
من المؤكد أنه كان للسوريين آداباً ومعارف سجّلوها بلغات عدة كالسومرية والأكادية والآشورية والبابلية والآرامية بلهجاتها المتعددة…. وهذا على مدى آلاف من السنين، حين كانوا يضعون أسس مدنية العالم. وقد شهدت هذه الفترة انتصاراً عالمياً للغة الآرامية، فكانت لغة التجارة الدولية في ذلك الوقت كما شهدت ظهور الأبجدية (ألف – باء)، التي هي أول ثورة ثقافية في العالم.
الأدب السوري منذ بداية الحضارة السورية غني بالشعر المتضمن أساطير السوريين ومعارفهم وتاريخهم، كما تضمن هذا الأدب المسرح حيث عرف من الأدب المسرحي السوري في العهد السومري مسرحية السيد والعبد التي مثلت على مسرح المعهد العالي للتمثيل في دمشق، بينما المسرح اليوناني الذي جاء بعد ذلك بكثير بقي موضوعه محصوراً في الأدب الميثولوجي.
ومنذ انتصار الاسكندر على العالم القديم أصبح المثقفون السوريون يكتبون إنتاجهم باللغة اليونانية واستمر هذا الأمر في الفترة الرومانية والبيزنطية وذلك لارتباط المثقف بالدولة . لكن اللغة الآرامية بقيت لغة الشعب في سورية وانتصرت إحدى لهجاتها وهي السريانية (نسبة إلى سورية) التي عمت سوريا كلها.
لقد كانت الآرامية لغة السيد المسيح وكانت السريانية لغة الشعب السوري والكنيسة المسيحية ولظروف سياسية أخرى أخذ قسم من شعبنا باللغة الكردية ولا يزال هذا القسم يتكلم بها إلى اليوم.
مصير التراث السوري
الآن: ما هو مصير هذا التراث الأدبي واللغوي الغني والمتنوع بعد أن شملت الدولة العربية الإسلامية سوريا؟
هل انتهت صلة السوريين بهذا التراث الأدبي واللغوي؟ وما هو السبب في أنهم أصبحوا يرون أن أدبهم استمرار للأدب الجاهلي والإسلامي؟
نعم، لقد انتهت صلة السوريين بتلك الآداب بفعل أخذهم باللغة العربية واعتناقهم الإسلام فأصبحوا ينظرون إلى اللغة العربية وآدابها إلى أنها لغة مقدسة بفعل تقديسهم للنص القرآني (كلام الله). وأصبحوا ينظرون إلى آدابهم ولغتهم على أنها من آداب الفترة الجاهلية وأصبح التعامل معها أو الاطلاع عليها مكروهاً، ومع أن السريان والآشور والكلدان بقوا يتكلمون السريانية غير أن العلاقة بتلك الآداب اقتصرت على قلة من السوريين، وانحصرت آداب اللغة السريانية على الآداب الكنسية وانقطعت صلة السوريين باللغة اليونانية، ولم يزل السوريون الذين يعتبرون أنفسهم عرباً ينظرون إلى اللغة الكردية بتعالي ويعتبرون الذين يتكلمون بها شعباً مختلفاً (غير عربي) .
لقد نقل السوريون كثيراً من المعارف والعلوم التي لديهم إلى اللغة العربية، وخاصة في الفترة العباسية، وهي الفترة التي يقال أنها قمة الحضارة العربية الإسلامية، ورغم ذلك لا يُذكر طبيب هارون الرشيد السرياني من آل بختيشوع (الأسرة الطبيبة التي كانت تدرس الطب في مدينة جندياسابور)، لا يُذكر هذا العالم من علماء بلادنا في المنهج الدراسي، بينما يُذكر ابن سينا – دون التقليل من أهميته – الفارسي الجنسية! لماذا؟
في أوروبة وخصوصاً في عصر النهضة، من لم يدرس ما تركه الأديب والمفكر السوري لوكيان السميساطي يعتبر غير مثقفاً! المفارقة تتمثل هنا في أن المراجع العربية تعتبره يونانياً!! ولا وجود له في مراجعنا الثقافية، وأغلب أدباءنا ومثقفينا لا يعرفون عنه شيئاً!
لماذا مؤسساتنا التربوية والتعليمية والثقافية لاتزال مصرة على إبعادنا عن تراثنا؟ هل تظن هذه المؤسسات أنها تؤسس لنهضة حقيقية، مع تجاهلها لتاريخ ثقافي من هذا المستوى؟
إن إصرار المؤسسات التعليمية على إبعادنا عن تراثنا جعل الشعراء في بلادنا يقلّدون أدباء الغرب باستخدام الرموز والقيم والإيحاءات المأخوذة من تراث بلادهم، كالشعراء التموزيين مثل السياب وحاوي، وقد جاءت الترجمات للأدب السوري القديم متأخرة ولم تدخل دراسته أو الاشارة إليه في المنهاج الدراسي.
أدت الفتوحات العربية إلى تغيير السوريين للغتهم من السريانية واليونانية إلى العربية، وكان من نتائج هذا التغيير انقطاع الخط النفسي السوري الموجود في أدب السوريين وتراثهم والمعبر عن المعاني النفسية الأصيلة للمزيج السلالي السوري وتفاعله لفترة طويلة مع البيئة السورية.
إن الإصرار على تدريس اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم، مع تغييب الأدب السوري السابق للفتح العربي، هو إصرار على ربط السوريين بالقيم الاجتماعية الصحراوية المخالفة للقيم الاجتماعية لبيئتهم وللمعاني النفسية لمزيجهم السلالي السوري، ظناً أن ذلك يؤدي إلى أسلمة السوريين وتعريبهم، لكن هذا المنهج يؤدي إلى ما يخالف غرضه، لأن ربط السوريين بخطهم النفسي الأصيل يؤدي إلى إنتاج أدب سوري عظيم يغني اللغة العربية التي يتكلم بها غالبية السوريين، وهو بالتأكيد سيكون أعظم من الأدب الناتج عن تغييب السوريين عن خطهم النفسي وأدبهم وتراثهم، وربط السوريين بخطهم النفسي يؤدي إلى فهم السوريين للدين الإسلامي الذي يدين به أغلبهم فهماً أرقى بكثير من فهمهم له حالياً.
اقتراحات في منهجية المراجع التعليمية
إن المنهج الدراسي للغة العربية القائم اليوم فيه تضارب بين الخط النفسي العربي الذي يصرون على تأصيله وبين المعاني الجوهرية للنفسية السورية. وأدى هذا الأمر ويؤدي إلى عقم فكري وإبداعي لدى السوريين وإلى استمرار ظهور تنافر في الاتجاهات الفكرية والسياسية والدينية في سوريا.
لا بدَّ من إعادة الصلة بين حاضرنا وعقلنا وبين تراثنا احتراماً لأنفسنا وشخصيتنا القومية وتاريخنا، ولنكون قادرين على بناء نهضة حقيقية لبلادنا. ونقدم في هذا الشأن الأفكار التالية:
1 – أن يقوم المنهج الدراسي على تعريف الطالب على التراث السوري من خلال تدريسه نصوصاً معربة من التراث السوري السابق للفترة العربية الإسلامية، كما يدرس الأدب السوري في الفترة العربية وبذلك يكون الطالب قد تعلّم آداب أمته بدل أن يدرس آداب لغته.
2 – إقامة دراسات جامعية تبحث بتأثير الحضارة السورية في اللغة العربية وآدابها قبل و بعد الإسلام.
3 – إقامة دراسات جامعية تبين وتميز سمات الأدب السوري باللغة العربية، وأوجه اختلافها عن سمات أدب الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي والعلاقة بين هذه السمات والثقافة السورية قبل الاسلام.
4 – دراسة تأثير وتأثر الأدب السوري بأدب الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي.
5 – وضع نصوص مترجمة من اللغات الحية الى اللغة العربية في منهاج الدراسة.
6- السماح بقيام مدارس و معاهد تعلم اللغات الحية في المناطق ذات الأكثرية التي تتكلم بها .
التيار الفكري العربي يعتبر أن العروبة هي حضارة و ليست عرقاً، و أننا نسبق الجزيرة العربية حضارياً آلاف السنين، ونحن نشاركه هذا الرأي، الأمر الذي يفرض على مؤسساتنا التربوية تعديل مناهجها، وتوعية الجيل الجديد إلى آداب أمته سورية قبل الفتح العربي الإسلامي ودور السوريين في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية وإقامة الصلة الصحيحة بين تراثنا القديم وأبناء سورية اليوم وبذلك يتم تصحيح خلل منهجي في مراجعنا التعليمية، مسؤول عن تغييب حقائق تاريخية حاسمة في تشكيل الشخصية القومية ومتانتها وقدرتها على تشكيل الأساس الذي يستند عليه وجودنا المعاصر.
انه مقال قيّم جدا يعيدنا من غربتنا عن امتنا وتاريخها الروحي والثقافي فالأمة التي لا تستمد روحها من تاريخها ومواهبها سيأتي من يملأ هذا الفراغ عنها.