إطار تاريخي عام
أنطاكية: بالعربية. في السريانية: ܐܢܛܝܘܟܝܐ، باليونانية Αντιόχεια. عاصمة سوريا التاريخية والثقافية، تحمل في طيات تاريخها هوية سوريا وشخصيتها الثقافية العريقة. كونت عبر الزمن تقاليدها الراسخة سواء في الأدب والفن الكلاسيكي أو في الطقس الديني السوري، كانت كمركز ثقافي انعكاساً لكل مظاهر التحضر التي صاغتها ثقافة التعدد السورية في العهد الهلنستي كثقافة عالمية جامعة.
قدمت المدينة في سيرورتها أمثلة وشواهد كثيرة عن الفن الكلاسيكي، عن الطقوس الدينية، الرموز التاريخية والفنية المختلفة للثقافة السورية في تلك الحقبة. هي أول عاصمة لسوريا بالمعنى الحقيقي الواقعي، أي سوريا بالمفهوم الذي نعرفه اليوم، فلقد شغلت مركز عاصمة سوريا في العصور الكلاسيكية أي؛ الألف عام الممتدة بين الاجتياح الإغريقي بقيادة الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد والاجتياح الإسلامي في القرن السابع الميلادي.
تأسست المدينة فعلياً على يد جنرال الإسكندر المقدوني وقائده المقرب سلوقس نيكاتور في 300 ق.م. يقال أيضاً أن الإسكندر نفسه اختار الموقع على الضفة الشرقية لنهر العاصي في لواء الإسكندرون السوري وعلى بعد 30 كم من البحر المتوسط غرباً.
تتموضع المدينة في موقع مختار بدقة على عادة الإغريق باختيار مواقع المدن؛ في أماكن صحية واستراتيجية تتيح لنهضة حقيقية في المدن التي أسسوها فيما
بعد. العاصمة السورية أنطاكية كانت كذلك؛ فلقد اختير موقعها بعناية فائقة على الضفة الشرقية لنهر العاصي Orontes، إلى الجنوب من خليج Issos (الإسكندرونة)، محدودة من الشرق بجبل سيليبيوس Silipius الذي يعتبر تابعاً لكتلة جبال اللاذقية، من الجنوب تطل على جبل اللاذقية الكبيرالأقرع )كاسيوس(، بينما في الشمال الشرقي تصل حدودها حتى سهل العمق الخصيب حيث يروي المنطقة إضافة إلى نهر العاصي، نهري عفرين و الأسود. تقع المدينة على طرف الجبل بين السهل والبحر محدودة من الشمال بجبال الأمانوس التي ترتفع حتى 1000 م.
كانت في التاريخ التجاري السوري مدينة مهمة كموقع، لعبت دوراً بارزاً كعقدة وصل تجاري بين مدينة حلب وموانئ سوريا التاريخية الشهيرة كاللاذقية وسلوقية بيرية، وبين العالم السوري في الجنوب وآسيا الصغرى والعالم الإغريقي في الشمال.
تعتبر أنطاكية من أهم مدن سوريا التاريخية، تحمل في إرثها محطات كبيرة من التاريخ السوري؛ فلقد كانت في العصر الهلنستي عاصمة الإمبراطورية الاغريقية السورية التي وصلت من البحر المتوسط غرباً وحتى الهند شرقاً، عرفت بالإمبراطورية السلوقية وعاصمتها أنطاكية، مقر الحكام السلوقيين، الذين عرفوا بالملوك السوريين وسميت حروبهم مع الممالك الإغريقية الأخرى كالبطالمة، بالحروب السورية وهي الحروب التي قادها أولاد سلوقس نيكاتور مع البطالمة في مصر خلال الحقبة الهلنستية.
تجدر الإشارة إلى أن سوريا سميت لأول مرة بهذا الاسم من قبل الإغريق في تلك الحقبة، كانت اللفظة تشير إلى المنطقة الممتدة من جبال طوروس شمالاً وحتى مصر جنوباً ومن نهر الفرات وبادية الشام شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً. كانت هذه المنطقة التي عناها الإغريق باللفظة سوريا، والاسم بصيغته الحالية ورد لأول مرة في الأدبيات الإغريقية عبر هيرودوت بصيغة Συρία اليونانية (هيرودوت. الكتاب :3 الفقرة :91 ) كانت تضم بحسب هيرودوت >>كل فينيقية وسوريا الفلسطينية و جزيرة قبرص > <
في العهد الروماني مع اضمحلال القوة السلوقية وقدوم القائد الروماني بومبي في 64 قبل الميلاد، كان من الواضح أن الرومان سيولون عناية فائقة للعاصمة السلوقية أنطاكية، أكبر مدن سوريا في الشمال الغربي، لذلك تطورت كثيراً في عهدهم لأهميتها العسكرية والإدارية وللدور التجاري الاقتصادي المهم الذي لعبته في العصر الروماني، حتى أصبحت من أهم مدن العالم الروماني بعد روما والإسكندرية و بيرغامو.
في العصر البيزنطي أو كما يسمى في سوريا العصر الروماني المتأخر؛ كانت أنطاكية عاصمة المسيحية السورية والكرسي الرسولي الأهم ، إلى الآن هي عاصمة المسيحية السورية حنيناً وواقعاً، لا زالت الكنيسة حتى اليوم في دمشق تحمل لقب كنيسة أنطاكية وبطاركتها لقب بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، في صدى يعكس مدى أهمية أنطاكية في الذاكرة الجمعية السورية كعاصمة تضم أو تجمع شمل سائر المشرق. كانت البطريركية قد انتقلت إلى العاصمة السورية دمشق بعد الاحتلال العثماني للمدينة في القرن الخامس عشر ولا تزال حتى اليوم في مقرها في الشارع المستقيم في دمشق القديمة.
سقطت في القرن السابع الميلادي بيد العرب المسلمين، لتضمحل أهميتها في التاريخ خلال السيطرة الإسلامية ولتقضي أيامها بلعب درو حصن متنازع عليه من قبل البيزنطيين والمسلمين ومن قبل المسلمين والصليبيين فيما بعد. في العصر العثماني همشت المدينة حتى وصلت إلى بلدة بائسة أو شبه مهجورة.
بعد الحرب العالمية الأولى استولت فرنسا على أنطاكية ووضعتها مع لواء الإسكندرون تحت حمايتها، ثم تخلت عنها في عام 1939 للدولة التركية، ولا زالت تحت الاحتلال التركي حتى اليوم، وقد عملت تركيا في ستينيات القرن الماضي على تغيير اسم المنطقة لتصبح مقاطعة هاتاي.
مشكلات البحث التاريخي
المشكلة التي تواجهنا في دراسة مدن الساحل السوري في الحقبة الكلاسيكية هي؛ في عدم رؤية أية آثار واضحة في هذه المدن، مع أنها من أهم المدن في العصور الكلاسيكية، فمدينة كاللاذقية كانت من أهم المدن في تلك العصور، لا نستطيع اليوم رؤية آثار كلاسيكية واضحة فيها باستثناء قوس النصر أو بقايا أعمدة معبد باخوس إله الخمر، وذلك عائد إلى سلسلة من الزلازل التي أصابت منطقة الشريط الساحلي في سوريا في نهاية القرن السابع الميلادي ولمرات متتالية. أيضاً لدينا سلسلة أخرى من الزلازل التي ابتلعت أنطاكية واللاذقية حدثت في العهد العثماني على ثلاث مرات متتالية أضرت كثيرًا بالمدينتين وقضت على الكثير من الآثار القائمة.
هنالك أيضاً السبب المتعلق باعتداءات المخططات التنظيمية للحكومات المتعاقبة على حرم المدينة وعدم احترام الآثار، بل العمل في أحيان كثيرة على إزالتها وتشويهها بالمخالفات. كذلك عاصمتنا التاريخية أنطاكية، لديها نفس المشكلة، مع اختلاف قليل أنقذها في موضوع وجود الكثير من آثارها في ضاحية دفنه القريبة منها، بعيداً عن اعتداءات المدينة الحديثة. فيما يخص الموضوع نفسه نقرأ وصفاً للحالة على لسان الباحث غلافيل دووني يقول فيه؛ أنه لو صدف منذ قرنين من الزمن ومر أحد من الأجانب الذين يجهلون تاريخ البلدة السورية أنطاكية، ما كان ليجد سوى القليل مما يوحي بأن في هذه البلدة الهاجعة والعشوائية القذرة نوعاً ما بشقيها التركي والعربي، ترقد بقايا واحدة من أشهر وأجمل مدن العالم اليوناني الروماني، بل كان سيجد فقط خرائب أسوار المدينة القديمة، حصن الفرنجة، القنوات العتيقة التي تجلب المياه من دفنه، أساسات ميدان سباق الخيل، صخرة الجبل العظيمة المنحوتة على شكل رأس إنسان وتمثال نصفي، ثم الجسر الحجري العظيم. هذه هي الأشياء الوحيدة التي بقيت قابلة للملاحظة قبل إعادة البحث والتنقيب في أنطاكية.
باحثون ومحققون في تاريخ أنطاكية
بدأت الزيارات للمدينة في العصور الحديثة على يد الرحالة الفرنسي فرانسوا كاساز الذي زار أنطاكية بحدود 1785 م وأجرى دراسة عن المدينة وعمل على الرفع الطبوغرافي ووضع رسومات عن المدينة أثرت على أجيال من الرحالة من بعده كأسماء مثل Pitro Della Valle ، الأسقف بوكوك المتعلم Carsten Niebuhr ، السيدة Hester Stanhop ، الباحث أرنست رينان، و قد صبغت الكآبة و التأثر لحال المدينة السورية أبحاث هؤلاء الباحثين، فالقطيعة المعرفية التي أحدثت في المدينة الإغريقية، أثرت في روح البحث عنها، فعدم استمرار الحضارة الكلاسيكية في مدينة كأنطاكية، كانت بالنسبة لهم بمثابة تجريد مدن العالم الإغريقي الروماني المهمة كروما وأثينا من تاريخها الكلاسيكي.
على الرغم من الخراب الذي تعرضت له أنطاكية على مر الزمان و الحروب التي ألحقت الدمار بها، إلا أن تاريخها لم يغب عن الإرث الأدبي الإنساني، لأن سيرة أنطاكية حفظت في الآثار الأدبية اليونانية-اللاتينية والسريانية – و كانت في المتناول، رغم أن أغلب المدينة لازال مدفوناً إلا أن تاريخها ما زال منشودًا يشهد على الوجود المادي لها، فمن المؤلفات التاريخية، ومن مؤلفات السيرة الذاتية للعصور الكلاسيكية، ومن الخطب العامة، ومن عروض التاريخ المتسلسل حسب الأحداث، من المراسلات الشخصية ومن مدونات القوانين ومراسيم المجالس الكنسية -من كل تلك الكتابات المتنوعة عن العالم القديم، يستطيع المرء أن يستعيد بعض تألق أنطاكية القديمة.
من أول الرواد في هذا المجال كان العالم كارل أوتفريد ميللر (1797.. 1840) كبير علماء اللغة الألمانية، الذي في دراسته الأولى في جامعة غوتينجن – في أيامه كان التجول في سوريا ما زال غير مأمون إلى حد كبير -اشتغل في بحثه معتمدًا على المصادر القديمة وعلى رواية الرحالة، وأنتج الكتاب الأول الحديث عن أنطاكية تحت اسم (أنطاكيو العصور القديمة 1839) كان إنجازًا متقناً وحظي بالتفوق طوال قرن تال. رغم المعلومات الجديدة التي أمكن إضافتها على الكتاب فيما بعد، فإن القليل منه كان بحاجة إلى تصحيح. بعد كتاب ميللر توالت الكتب عن أنطاكية ككتاب الجنرال ليووالاس الذي صدر عن القصر الحكومي في سانتا، اعتمد فيه على كتاب ميللر كمصدر لوصف طبوغرافية أنطاكية القديمة، توالت الكتب والأبحاث بعد ميللر وليوولااس وصدرت الكثير من الدراسات، كان من أهمها دراسة الباحث في جامعة هارفرد غلافيل دووني الذي وضع كتاب (تاريخ أنطاكية في سوريا من عهد سلوقس إلى الفتح العربي) اعتمد فيه غلافيل دووني كثيراً على تاريخ المؤرخ ليبانيوس الأنطاكي المرجع الأدبي الهام في أنطاكية، لكون الباحث غلافيل دووني كان قبل كل شيء أستاذًاً للأدب البيزنطي في جامعة هارفرد.
النسخة المحفوظة في أكاديمية ميللر اللاتينية، أظهرت أنطاكية كواحدة من المدن التي وصلت فيها الحضارة المدينية القديمة إلى ذروتها. كانت هذه الحضارة نتاج حيوية العصور القديمة وتنوعها، فتبلور أدب جديد صاغته المدينة وصدرته على دفعتين استقبالاً وإرسالاً بين إرث الغرب الكلاسيكي وإرث الشرق الروحي. لعبت أنطاكية فيه دورًا كبيراً وكان لها رسالتها الخاصة في العصور الهلنستية وليدة التمازج الشرقي الغربي، فقدمت أنطاكية هذه الثقافة في شقين؛
الأول: نقل ثقافة الإغريق إلى سوريا، في أعقاب فتوحات الإسكندر الكبير وعلى المقلب الآخر نقل روحيات سوريا للإغريق لتتهلين الحضارة بسبب التمازج الحاصل؛ نتيجة انفتاح اليونان على حضارة سوريا وانفتاح سوريا على حضارة اليونان.
الثاني: لعبت فيه أنطاكية درواً عالمياً كمركز مسيحي نشط حيث المسيحية والتقاليد الإغريقية كل في حينه، تناغمت لتشكل تحداراً هلينياً مسيحياً أدى بدوره إلى إثمار جديد في منشأة قسطنطين الكبير الجديدة، القسطنطينية، التي باعتبارها مركز الثقافة البيزنطية حفظت الإرث المسيحي الإغريقي كي تنقله إلى الغرب إبان عصر النهضة الأوروبية.
من الإله زيوس إلى هانيبال: أنطاكية التاريخية
من يقلب تاريخ أنطاكية في المصادر التاريخية يرى مدى ارتباط المدينة بالتاريخ من أول أيام تأسيسها حتى أفول نجمها، وعمق الذاكرة الثقافية التي أنجبتها، عبر ارتباطها بالكثير من الأسماء الشهيرة في التاريخ الإنساني، فلقد صنع تاريخ أنطاكية بحسب المراجع التاريخية من ارتباطها بعدد من الشخصيات العالمية؛ سواء الأسطورية منها أو الواقعية في غنى حضاري واضح؛ ففي البدء كانت محمية من الإله زيوس ومعبدها الرئيسي مكرس له في الفترة الهلنستية، أيضاُ كانت محمية من آلهة يونانية أخرى كأبولو وأفروديت. محمية أيضاً من قبل القديسين المسيحيين في الفترة المسيحية، فكانت الكرسي الرسولي لبطرس وبولس ولجالية المسيحيين السوريين الهاربين من القدس. هذا فيما يخص الأساطير والدين والغيب. أما فيما يخص الشخصيات الواقعية المادية نقرأ بأنه؛ اختار موقع المدينة الإسكندر الأكبر، لكنه لم يكن لديه الوقت، بسبب التفرغ لفتوحاته في سوريا، لم يستطع بناء المدينة في الموقع الذي أحبه، ليقوم بالتأسيس لها وبنائها فيما بعد صديقه وخليفته في سوريا سلوقس نيكاتور في 300 ق.م.
نقرأ أيضاً أن ملكها أنطيوخوس إيبيفانوس Ἀντίοχος Ἐπιφανὴς ذائع الصيت صاحب لقب الرب الظاهر، الذي ظنه بعضهم مجنوناً، بسبب ادعائه الألوهة وبعضهم كان يرى فيه جنون العبقرية، نظم واحداً من أكثر المهرجانات بهرجة في العالم القديم، يسير بموكب يشتمل على ثمانمائة شاب يرتدون تيجاناً ذهبية وستمائة غلام ملكي يحملون أوعية ذهبية، ومئتي امرأة جميلة يرششن الحشد بزيوت عطرية من أوعية ذهبية، في احتفال باهر ذاع صيته في مدن العالم آنذاك لتصل المدينة في عهده إلى قمة العظمة والأبهة بين مدن العالم القديم، مما يعكس غناها في تلك الفترة.
ها نيبال القرطاجي أعظم جنرالات العالم القديم، زار المدينة السورية أيضاً وطلب مساعدة السوريين الأنطاكيين في حربه ضد الرومان.
في أنطاكية قاوم القائد الروماني كاسيوس Casiusالحصار الفارسي ونجح في صد الاجتياح الفارسي. الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر أيضاً مر في المدينة التي دعمته أثناء الحرب الأهلية الرومانية ونتيجة المساعدة وهب المدينة أبنية رائعة فيما بعد انفراده بالحكم.
في البقاع الجميلة من المدينة أقام وتنقل كل من العاشقين أنطونيو وكيلوباترا. أيضاً هي أنطاكية التي أقام فيها كل من القديس بولس والقديس بارناباس مواعظهما في شوارعها، وفيها كان يتمشى حواريو المسيح براحة وفيها لأول مرة أطلق عليهم لقب مسيحيين. فيها خطط القديس بولس لجولاته التبشيرية، فيها نصب بطرس كأول مطران في تاريخ المسيحية. مطران أنطاكية في العصور المسيحية الأولى أغناطيوس اعتبر شهيداَ هاماً في تاريخ المسيحية المبكر بعد قصة إعدامه في روما عبر رميه في ميدان الحيوانات المفترسة في الكولوسيوم أثناء عصور اضطهاد المسيحية. في أنطاكية نجا كل من هادريان وتراجان أباطرة روما العظام من أسوأ الزلازل المدمرة والتي تعرضت له أنطاكية في ذلك العصر بقفزهما من نافذة القصر، حيث تدبر تراجان أمر نجاته باختلاق قصة سلامته، حسب الأسطورة بواسطة كائن خارق سحبه من نافدة حجرة النوم التي كان فيها. في أنطاكية السورية واجهت روما حلم سلالة تدمر بقيادة زنوبيا بالاستقلال وبناء حلم الدولة السورية، وفيها وقعت المعركة الطاحنة بين الرومان والتدمريين حيث تحطمت قوة تدمر نهائياً، ثم فرت الملكة ليلاً من المدينة، لكن ألقي القبض عليها، لتسجن في منطقة ميدان سباق الخيل في أنطاكية، كآخر منطقة تودع فيها الملكة زنوبيا سوريا في آخر محطاتها السورية، لتظهر فيما بعد كأسيرة في روما.
في أنطاكية بنى الإمبراطور قسطنطين الكبير الكنيسة العظيمة في التاريخ البيزنطي، مثمنة الأضلاع المسماة كنيسة (بيت الذهب)، كواحدة من أعظم الكنائس في العالم المسيحي. في ضاحيتها أنشأ أول دير بمخطط الصليب اليوناني، فكان دير بابيلاس قرب أنطاكية أول مثال عن الكنائس التي تحمل مخطط يجسد شكل الصليب اليوناني. الإمبراطور الوثني جوليان الملقب بالمرتد؛ ألقى قصيدة في المدينة يهجو فيها ناس المدينة، مجاراة لسخريتهم من لحية فيلسوفه. أما القديس يوحنا الملقب فم الذهب Ιωάννης ο Χρυσόστομος فلقد ألقى خطابة الشهير في الكاتدرائية واعظاً الناس لتهدئة التمرد والعصيان الشهير من قبل السوريين والأنطاكيين أثناء حكم الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير وصلى صلاة الميت لراحة نفوس السوريين الذين سقطوا في النزاع.
في أنطاكية ألقت الإمبراطورة المثقفة أودوسيا أثناء عبورها فيها في رحلة حج إلى القدس محاضرة مديح في جمال وتنظيم المدينة، وأقام الأنطاكيون تمثالاً يخلد ذكرها. في أنطاكية أيضاً دفن القديس سمعان العمودي، أعظم قديسي الأعمدة في الشمال السوري، الذي عاش ثلاثين عاماً فوق عمود يرتفع ستين قدماً في الجبال المحيطة شرق أنطاكية (دير سمعان). تحمل أنطاكية السورية في طيات صفحاتها إرثاً تاريخياً حميماً من الصعب توفره في مدن أخرى.
عاصمة سورية وعصورها الكلاسيكية
العهد الهلنستي (330..64 ق.م):
بدأ العهد الهلنستي في سوريا مع دخول الإسكندر المقدوني عام 330 ق.م، وبعد فتوحاته العالمية وتوطيد أرجاء حكمه في العالم، توفي فجأة في عام 323 ق.م، ليتم تقاسم الإمبراطورية من قبل قواده الكبار فكانت مقدونيا و بلاد اليونان من نصيب أنتيغونوس الأول Ἀντίγονος ὁ Μονόφθαλμος الملقب مونوفثالموس ( الأعور)، و كانت سوريا و العراق و فارس من نصيب سلوقس نيكاتور Σέλευκος Νικάτωρ (المعظم)، ومصر وإفريقية من نصيب بطليموس Πτολεμαίος Σωτήρ. فيما يخص سوريا؛ كان الحظ حليفها مع سلوقس الإغريقي صاحب العقل المنفتح والأقرب إلى عقلية وفكرة البناء وتأسيس المدن المتأصلة لدى سيده الإسكندر، فأطلق سلوقس عملية إعمار كبيرة انتهت بتأسيس وبناء مدن جديدة كما كان حلم الإسكندر بخلق مراكز سكانية ثقافية جديدة، تكون قطب رحى لحضارة إنسانية وعالمية منفتحة، على نفس الخطوات سار سلوقس نيكاتور في سوريا فأسس مدن؛ أنطاكيا، اللاذقية، سلوقية بيرية، أفاميا، والتي عرفت بـ Tetrapoils المدن الأربعة التي شكلت قلب الحكم الهلنستي في سوريا.
نلاحظ في تأسيس هذه المدن، أن سلوقس أطلق الاسم الأول لعائلته عليها، فكانت تسبق أسماء هذه المدن كلمة سلوقية، كنوع من التركيز على عائلة المؤسس الحقيقي لها، فحملت أسماء اشخاص من عائلته كأنطاكية التي سميت على اسم والده أنطيوخوس، واللاذقية التي سميت تيمناً باسم والدته لاوديكي، وأفاميا التي سميت على شرف زوجته، أيضاً نرى تركيزه على التناظر الكلاسيكي في بناء هذه المدن الأربعة كنظام رباعي متناغم؛ مدينة داخلية متناظرة مع مدينة مرفأ على المتوسط؛ نرى التناظر في ثنائية أنطاكية…سلوقية بيرية…. وثنائية أفاميا …اللاذقية، في متوالية متطابقة. فمن ينظر إلى مخطط أنطاكية الهندسي الإغريقي ومخطط اللاذقية يعرف أن نفس المهندس قام بوضعهما للتنفيذ.
في عالم الإغريق، عندما كان يتطلب الأمر تأسيس مدينة جديدة، كان الاهتمام الأكبر ينصب على اختيار الموقع الجيد والصحي، هو ما حدث عندما اختار سلوقس نيكاتور تأسيس المدينة عام 300 ق.م. فبعد اختيار الموقع على الطرف الجنوبي لسهل العمق والضفة الشرقية لنهر العاصي وعلى أطراف الجبال التي ذكرناها سابقاً. بدأ سلوقس بتشييد مدينته أنطاكية في الموقع المذكور، وإطلاق اسم أنطيوخوس والده عليها لتخليد ذكره. تذكر التقاليد أن سلوقس قبل تأسيس المدينة صعد إلى جبل كاسيوس برفقة القديس أمفيون وقدم قربانًا للإله زيوس وطلب منه أن يرشده إلى تحديد الموقع الملائم، فكان حسب الأسطورة أن ظهر النسر رمز الإله زيوس وقام بالتقاط جزء من القربان والإلقاء به في الموقع الذي شيدت فيه المدينة حسب الأسطورة، تذكر هذه القصة أو الأسطورة عند المؤرخ الأنطاكي ليبانيوس على كونها مخصصة للإسكندر الأكبر على أنه هو من قام بتقديم القربان واختيار الموقع، باستثناء قصة ليبانيوس فجميع القصص تشير إلى سلوقس نيكاتور كمختار ومؤسس للمدينة. هذه المرويات مشهورة في عالم الإغريق لإضفاء الشرعية على صحة الاختيار أو إضفاء القدسية على الأماكن فيما بعد عبر الرضا الإلهي والأمثلة كثيرة.
قام سلوقس نيكاتور فيما بعد ببناء المدينة، وفقاً للنظام الشبكي (الشطرنجي)، الذي غلب على تخطيط المدن الإغريقية في تلك الحقبة، وحدد اتجاهاتها بدقة بالغة لتستفيد إلى أقصى حد من أشعة الشمس شتاءً ومن الظلال ومن نسيم البحر صيفاً، أخذت شكل مستطيل طوله ضعفي عرضه حيث بلغ طوله ميلين وعرضه ميل واحد، يحيط بها سور على شكل شبه منحرف، له خمسة أبواب و360 برجاً بشكل نصف دائري. كانت كعادة المدن الإغريقية مخترقة من شارع رئيسي من الشرق إلى الغرب، مرصوفة بأغلبية مناطقها بحجارة مربعة، وقد بنيت على مراحل حتى وصلت إلى أربعة أحياء عند اكتمالها، لذلك كان يطلق عليها أحياناً المدينة الرباعية، لتمييزها أيضاً عن مدن سورية أخرى كانت تحمل لقب أنطاكية كحماه مثلاً التي كانت تحمل اسم أنطاكية إبيفانيا، فيما أنطاكية تلقب بالمدينة الرباعية أو أنطاكية دفنه الاسم الأكثر شهرة في تاريخها.
تزايد عدد سكان المدينة منذ إنشائها بسرعة كبيرة جعلت الجميع يعتقدون أنها كانت عاصمة سلوقس نيكاتور نفسه، مع أنها لم تكن كذلك، بل كانت سلوقية بيرية، على البحر عاصمته، إلا أن تطورها السريع بعده والصراع السلوقي البطلمي جعل خلفاء سلوقس نيكاتور يتخذونها كعاصمة لهم، لتصبح خلال حكمهم ومن بعدهم، من أهم مدن سوريا وأيضاً عاصمة لسوريا الرومانية والبيزنطية؛ أي عاصمة لمدة ألف عام من زمن السلوقيين في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد وحتى نهاية العهد البيزنطي في القرن السابع الميلادي.
كان نهر العاصي في تلك الفترة يشكل جزيرة صغيرة في الجزء الشمالي منها، بعد تطور المدينة أصبحت سلوقية بيرية المنشأة على مصب نهر العاصي على المتوسط في منطقة خليج السويدية مرفأ لمدينة أنطاكية، التي كان يخرج منها باتجاه البحر عبر جسر يتجه نجو الضفة اليمني لنهر العاصي، لا تزال بعض أجزاء الجسر القديم ترى حتى اليوم. يقول المؤرخ الأنطاكي الشهير ليبانيوس في كتابه الذي يؤرخ للنصف الثاني من القرن الرابع بعد الميلاد؛ بأن المدينة تطورت تطوراً كبيراً جداً في العهد الهلنستي، لم يقتصر ذلك على المدينة داخل الأسوار، بل تجاوزها إلى الخارج، فلقد عثرت التنقيبات الأثرية على الكثير من الفيلات والحمامات الفخمة في ضواحي المدينة وخصوصاً دفنه التي يذكر ليبانيوس أن سلوقس كان قد أعجب بموقعها قبل تأسيس أنطاكية في المكان الحالي، لكنه لم يستطع تأسيس المدينة فيه لصغر المساحة.
ضمت أنطاكية عدداً كبيراً من المعابد الهامة للإله زيوس ولآلهة أخرى كأبولو وأفروديت كما ضمت مسرحاً كبيراً ومتحفاً في الهواء الطلق، وحمامات فخمة. الأثر الثقافي الأهم فيها كان دور كتبها أو مكتبتها الضخمة التي كانت ذائعة الصيت في العصر الهلنستي بلغت المرتبة الثالثة في العالم بعد مكتبة الإسكندرية ومكتبة بيرغامو. ضمت المدينة أيضاً مجلساً للشورى وملعباً رياضياً ضخماً كان يستقبل الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات، كذلك شيدت فيها القناطر التي كانت تستجلب الماء من ضاحية دفنه لتأمين احتياجاتها. شيد الملوك السلوقيون أيضاً قلعة فوق جبل سيليبيوس وأضافوا الكثير من المنشآت الرسمية والعامة لها، حتى بلغ اتساعها ميلاً آخر خارج الأسوار، مما اضطر الرومان فيما بعد إلى إنشاء سور آخر أكثر اتساعاً من السور السلوقي.
في تلك الفترة أيضاً بلغت دفنه متنزه أنطاكية وضاحيتها الأهم شهرة كبيرة وصلت حد الأساطير بسبب جمال تنظيمها وكثرة حدائقها. تكونت مدينة سلوقس ديمغرافياً من حيين أحدهما للمستوطنين الإغريق، وآخر يضم السكان المحليين السوريين، كان لكل من هذين الحيين سوره الخاص. اكتشفت الحفريات الأثرية بقايا أجزاء السورين وتم قياس مساحة كل حي عبرهما، فبلغ حي المستوطنين الإغريق 370 أكراً وحي السكان المحليين حوالي 185 أكراً وبذلك يكون مجموع مساحة الحيين 555 أكراً وهو أقل من الميل المربع الذي يساوي (640 أكراً).
كانت أنطاكية مليئة بالتماثيل، كتمثال آلهة الحظ الشهيرة أو جالبة الحظ للمدينة المسماة تايش، التي كلف سلوقس النحات إيوتيشيدز من سيسيون تلميذ النحات الشهير ليسبيوس بأن ينحت تمثالاً لحظ أنطاكية السعيد فجاءت منحوتته على الشكل الشهير المجسد لآلهة دعيت تايش كانت رمزاً لأنطاكية فيما بعد وهي الآلهة الحامية والحارسة للملك السلوقي، بتلك الصفة كانت تايش حامية للمدينة أيضاً، قدر لهذا التمثال المسمى إيوتيشيدز أن يصبح نموذجاً لباقي تماثيل الآلهة تايش في الشرق المتهلين، كان قد صنع من البرونز، يجسد مشهداً يظهر الآلهة جالسة على صخرة تمثل جبل سيليبيوس، تستند بيدها اليسرى على الصخرة وتمسك بيدها اليمنى حزمة رمزية من سنابل القمح، وعلى رأسها تاج مبرج يمثل سور المدينة، وتحت قدميها صورة سباح يرمز إلى نهر العاصي تحاول حرفه بقدميها لتجبره على أن يصب في المتوسط. النسخة الأشهر والأقرب للتمثال موجودة حالياُ في الفاتيكان.
أيضاً كان النسر رمز زيوس منحوتاً في الحجر في الكثير من أجزاء المدينة، إضافة إلى تماثيل زيوس وأبولو، كان فيها نصباً تذكارياً يجسد القديس أمفيون الذي ساعد سلوقس في تقديم الأضاحي لزيوس على الجبل. كان النسر أيضاً مجسداً لشعار المدينة على النقود في العصر السلوقي وفي العهد الروماني من بعده، بالإضافة إلى تايش شعار المدينة الذي كان يصور دوماً على النقود المسكوكة في أنطاكية.
لا تتكلم المراجع التاريخية كثيراً عن فترة موت سلوقس 291 – 290 ق.م ومتى تبوأت المدينة مركز العاصمة، لكنها من المؤكد أنها كانت عاصمة السلوقيين ومركز حكمهم وإدارتهم في عهد أنطيوخوس الأول Antiochus I Soter الملقب سوتر؛ أي المنقذ أو المخلص، كان الإبن الأكبر لسلوقس نيكاتور، حكم الملوك السلوقيين تحت اسم سلوقس أو أنطيوخوس كسلالة ملكية إغريقية من عام 300 حتى 64 ق.م عام الهزيمة أمام روما.
عاشت سوريا في العهد السلوقي سلسلة طويلة من المعارك السلوقية البطلمية التي اندلعت بعد وفاة سلوقس، حيث دخل الملوك السوريون السلوقيون من خلفائه في حرب طاحنة على النفوذ مع البطالمة في مصر في حلقة من الصراع على سوريا المجوفة أو ما كان يعرف بالحدود الفاصلة بين الطرفين في الجنوب، كان كلا الطرفين يسعى للسيطرة على منطقة الحدود بين الإمبراطوريتين، كانت جولة الحروب تلك قد سميت في التاريخ بالحروب السورية، من أشهرها وأعظمها معركة حصلت في عهد الملك أنطيوخوس الثالث 223.. 287 قبل الميلاد و سميت في التاريخ الحرب السورية الرابعة، التقى فيها الطرفان في معركة رفح 217 قبل الميلاد خسرها أنطيوخوس الثالث، لكنه عاد وانتصر في الحرب السورية الخامسة عام 200 ق.م في معركة بانيون Panion الحاسمة قرب منابع نهر الأردن، فاستولى على سوريا المجوفة وكافة الأراضي حتى الحدود مع مصر، هكذا استطاع السيطرة على كامل سوريا وبلغت عظمة الإمبراطورية ذروة اتساعها وقمة مجدها، لكن أنطيوخوس الثالث دخل فيما بعد في صراع مرير مع الرومان الذين كانوا في قمة قوتهم وتمددهم فخسر معهم في معركة ماغنيزيه عام 190 قبل الميلاد، التي جردته من ممتلكاته في آسيا الصغرى وبحر إيجة وفرضت عليه دفع جزية عظيمة للرومان. كان ذلك نهاية عهد القوة السلوقية، عندما قرر ابنه أنطيوخوس الرابع العودة إلى أيام عظمة الإمبراطورية (164.175ق.م) حاول النهوض بالمملكة ومد نفوده حتى مصر، استطاع السيطرة على أراضي البطالمة وحصار الإسكندرية، لكن أجبره الرومان فيما بعد على فك الحصار عنها. كانت هذه آخر أيام المملكة السلوقية، فلقد بدأ تيغران ملك الأرمن بالتوسع في سوريا عام 83 ق.م. أيضًا بدأ الأنباط والمكابيون في الجنوب بالتوسع شمالاً باتجاه أراضي المملكة، إضافة إلى الصراعات على العرش السلوقي، كل ذلك أدى لاضمحلال المملكة فيما بعد، لتنتهي علي يد الرومان في عام 64 قبل الميلاد، ليبدأ العصر الروماني في سوريا.
حملت فترة حكم السلوقيين الطابع الاغريقي في كل تفاصيلها الإدارية والسياسية، شجع الملوك السلوقيون العلم والأدب والفلسفة في عهدهم، فلقد انتشرت اللغة الإغريقية، بوصفها لغة البلاط والإدارة والثقافة، على نطاق واسع، وخاصة بين أفراد الطبقات العليا السورية من سكان المدن المتهلينة، والذين كانوا يتكلمون اللغتين الإغريقية والآرامية. وقد أنجبت سورية عدداً كبيراً من الشعراء والعلماء والمؤرخين والفلاسفة الذين كتبوا باللغة الإغريقية، التي كانت لغة العلم والثقافة في العالم الهلنستي. من أشهرهم بوسيدونيوس الآفامي 135-51 ق.م الذي كان أعظم عالم موسوعي في عصره ومن كبار المؤرخين والفلاسفة الرواقيين. أيضاً لدينا الشاعر الأنطاكي الشهير آراتوس الذي كان مقرباً من البلاط السلوقي.
كانت أنطاكية بلا شك العمود الفقري للإمبراطورية السلوقية في الغرب، فكانت رأس الإمبراطورية السياسي وعاصمتها التجارية، وأفاميا قاعدتها الحربية الأولى، في حين كانت سلوقية دجلة عاصمة جناحها الشرقي. ارتبطت كل هذه المراكز السياسية والحربية والتجارية بطرق مناسبة وآمنة، أضاف إليها السلوقيون شبكة واسعة من الطرق. وبدا حرصهم على تشجيع واستمرار العلاقات التجارية لمملكتهم مع الشرق ومع الجزيرة العربية وعالم البحر المتوسط، كما ازدهرت الزراعة وازداد إنتاج الحبوب والثمار والخضراوات، نتيجة تحسين الأساليب الزراعية واتساع الأسواق والطلب المتزايد لسكان المدن على المنتجات الزراعية، دخلت زراعات وأصناف جديدة إلى سوريا، وازدهرت صناعة الخمور وزيت الزيتون، خصوصاً في أنطاكية وشقيقتها اللاذقية حيث وصلتا إلى إنتاج غني من زيت الزيتون وإلى مرحلة ممتازة في صناعة الخمر، فلقد كانت اللاذقية تحتل المرتبة الأولى في صناعة الخمر في العصور الكلاسيكية، لتحتل أنطاكية المرتبة الثانية، وصلت الشهرة بالمدينتين إلى مرحلة متطورة مع إنتاج خمور نادرة من الكرمة البرية المتوفرة في جبال المدينتين. أيضاً ذاع صيتهما في إنتاج عطور الزنبق الذي سمي في تلك الفترة بالزنبق السوري. حافظت أنطاكية في العهد الهلنستي خلال ثلاثة قرون متلاحقة على شهرتها في كثير من الصناعات النسيجية والصوفية والأقمشة الأرجوانية وصناعة الزجاج والخزف والصناعات المعدنية وصياغة الحلي والأحجار الكريمة، كذلك كانت عقدة تجارية مهمة بين حلب والمتوسط وبين سوريا وآسيا الصغرى.
العهد الروماني البيزنطي (64. ق م-63. م):
في أواخر عهد المملكة السلوقية، دب الضعف فيها، خصوصاً بعد خسارة السلوقيين أمام الرومان في معركة ماغنيزيه 190 ق.م، تدهورت الأمور أكثر بعد معاهدة أفاميا التي كانت إحدى نتائج الخسارة السلوقية، فعدا عن دفع ضريبة باهظة للرومان، كان عليهم أن يقبلوا بوجود مراقب روماني للفرق العسكرية السلوقية ومقره مدينة اللاذقية، كانت مهمته فوق كل شيء متركزة حول مراقبة فرقة الفيلة السلوقية في أفاميا. زادت ضغوطاتهم كثيراً على المملكة في ذلك الوقت، فبعد أن تعقدت الأمور في الشرق وأصبحت تشكل خطراً عليهم، خصوصاً توسع تيغران ملك الأرمن واحتلاله سوريا، زحف القائد الروماني بومبيوس بجيوشه باتجاه الشرق وهزم تيغران ملك الأرمن في آسيا الصغرى، بعد هزيمة تيغران وميثريداتيس قام بالزحف نحو المملكة السلوقية والإجهاز عليها بعد أن كانت قد تقلصت سلطتها حتى شملت سوريا فقط في ذلك العهد. قام بعدها بإعلانها ولاية رومانية في عام 64 قبل الميلاد باسم Provincila Syri، بعد أن استتب الأمر للرومان في سوريا، قام بومبيوس بالإنسحاب منها بعد أن عهد للقائد إيميليوس إسكاريوس Scaurus بإدراتها وترك تحت تصرفه فرقيتين عسكريتين.
لمكانة ولأهمية سوريا في الشرق بات من يتولى أمرها في العصر الجمهوري الروماني حاكم برتبة قنصل سابق Proconsul يتمتع بسلطات إدارية وعسكرية واسعة، غدت بذلك من أرفع المناصب في الجمهورية الرومانية ووجهة القادة والأباطرة للوصول إلى الحكم. كان غابينيوس A.Gabinius أول حاكم روماني رسمي لسوريا في 57.55 ق.م اتخذ من أنطاكية عاصمة للولاية السورية بشكل رسمي و حارب متعهدي الضرائب الجشعين فيها، كما جرد حاكمها من لقب ملك ليغدو الكاهن الأكبر للمدينة كلقب. خلفه في عام 55 قبل الميلاد القائد كراسوس Crassus أحد وجوه الحكم الثلاثي في روما مع كل من بومبيوس ويوليوس قيصر.
عانت سورية بعد ذلك من ويلات الحروب الأهلية الرومانية التي قامت بين بومبيوس ويوليوس قيصر، ثم بين أنصار قيصر وقتلته، حيث جاء إلى أنطاكية زعماء الحزب الجمهوري بقيادة كاسيوس Cassiu، ليجند القوات الرومانية في الشرق، فاعترضه دولابلا Dolabella، أحد أنصار قيصر، الذي اعتصم في اللاذقية، فحاصره كاسيوس فيها، واحتلها وانتقم من أهلها. وبعد معركة فيليبي (42ق.م) تسلم ماركوس أنطونيوس أمور الشرق بما في ذلك سورية، وقد استغل الفرثيون تلك الأحداث للقيام بهجوم اجتاحوا فيه معظم أراضي سورية (40-38ق.م) إلى أن تمكن الرومان من طردهم. من وقائع تلك الحقبة محاولة أنطونيوس الاستيلاء على تدمر وثرواتها، التي أخفقت، وقيامه بحملتين على الفرثيين انطلاقاً من سورية متخذاً من أنطاكية مركزاً له.
مع انتصار أوكتافيان /أوغسطس على أنطونيوس وكليوباترة في معركة أكتيوم (31ق.م) وتأسيس النظام الإمبراطوري الروماني، بدأ عهد جديد في إدارة سورية، التي صارت منذ عام 27 ق.م على رأس الولايات التابعة للإمبراطور الروماني بوصفه حاكمها الأعلى، الذي يعين مندوباً عنه (Legatus Augusti) بمرتبة قنصل، والياً عليها يحكم في عاصمتها أنطاكية لمدة ثلاث إلى خمس سنوات في العادة.
شهدت سورية والإمبراطورية الرومانية في عهد الأباطرة بالتبني (الأنطونينيين)، أو الأباطرة الصالحين (96-180م) عصراً من أزهى عصورها، شهد عدداً من الأحداث المهمة في تاريخها. فالإمبراطور ترايانوس (تراجان)، الذي بدأ سيرته قائداً لإحدى الفرق العسكرية المرابطة في سورية في ولاية والده عليها في أنطاكية (76-96م) اشتهر بحروبه التوسعية الاستعمارية في داكية (رومانية اليوم) والشرق، وبسعيه للسيطرة على الطرق التجارية الرئيسة التي تصل العالم الروماني بالشرق براً وبحراً.
شهدت سورية ازدهاراً كبيراً في عهد خلفه هادريان Hadrianus، الذي كان والياً عليها قبل تسلمه العرش والمناداة به إمبراطوراً على أرضها، لذلك كان شديد الاهتمام بها، فأتم رصف الشوارع الرئيسية وزار معظم المدن السورية وخصها بهباته و خصوصاً العاصمة أنطاكية التي منحت لقب ميتربوليس Metropolis أي من أمهات المدن في الإمبراطورية.
تتالت الأحداث بعد مقتل الإمبراطور كومودوس (192م) فقد نشب صراع على السلطة بين كبار قادة الجيوش الرومانية، وأعلن حاكم سورية آنذاك بسكينيوس نيجر Pescenius Niger نفسه إمبراطوراً، واتخذ من أنطاكية مقراً لقيادته، فلقي تأييداً كبيراً، وتطوع كثير من شبانها في جيشه. لكن سبتيميوس سفيروس كان قد نجح في الوصول إلى العرش في روما، وبدأ بينهما صراع انتهى عام 194م بهزيمة نيجر ثم مقتله. كان أول إجراء قام به القائد المنتصر في أنطاكية هو تقسيم سورية إلى ولايتين: سورية المجوفة وسورية الفينيقية، وذلك للحيلولة دون طموح ولاتها وجيوشها إلى عرش الإمبراطورية. كما قام سفيروس بالانتقام من أنطاكية، بسبب ولائها لخصمه المهزوم، فنزع عنها لقب ميتربوليس Metropolis وعاصمة سورية وجعلها «قرية <
مع صعود ديوقليسيان عرش روما انتهى عصر الفوضى العسكرية، وبدأ عصر جديد تميز بإصلاحات سياسية وإدارية وعسكرية واقتصادية شاملة غيرت من طبيعة الدولة الرومانية. اهتم هذا الإمبراطور بالدفاع عن سورية وتقوية حدودها ضد الفرس الساسانيين، فصار خط الحدود الدفاعي يمتد من جبل سنجار في أعالي الجزيرة عبر الفرات إلى تدمر وبصرى والبتراء وصولاً إلى البحر الأحمر (Strata Diocletiana)، كما زاد من عدد القوات والجيوش لحمايتها من الأخطار. وفي نطاق إصلاحاته الإدارية قسمت سورية إلى عدة ولايات وصارت جزءاً من دوقية الشرق الكبرى وعاصمتها أنطاكية، كما تم الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية وزاد إشراف السلطة الإمبراطورية على الإدارة والاقتصاد. وقد أدى هذا التنظيم الإداري والعسكري إلى تمتع سورية وأنطاكية بعهد من السلم والهدوء.
شهد هذا العصر المتأخر انطلاق الديانة المسيحية وانتشارها بعد حملات الاضطهاد والملاحقة وتحول سكان المدن والأرياف في سورية إلى المسيحية بأعداد كبيرة فاقت مثيلاتها في بقية أنحاء الإمبراطورية. وبعد اعتراف الإمبراطور قسطنطين عام 313م بحرية العبادة للمسيحيين، بدأ عهد جديد من العلاقة بين الدين والدولة الرومانية. وفي عام 325.م دعا الإمبراطور إلى مجمع كنسي كبير في نيقية Nicaea من أجل توحيد العقيدة المسيحية، بعد أن بدأت تنشأ الهرطقات والطوائف المختلفة، ثم أُنشئت القسطنطينية عاصمة شرقية للإمبراطورية عام 330 م ومدينةً مسيحية في طابعها. وما إن جاءت نهاية القرن الرابع حتى صارت المسيحية الديانة الوحيدة المعترف بها وأغلقت المعابد الوثنية واختفت كل مظاهرها وولدت الإمبراطورية البيزنطية.
العهد البيزنطي 324..636 م:
العصر البيزنطي هو العصر الذي بدأ مع الإمبراطور قسطنطين الأول واعتناقه المسيحية وتحول ديانة الرومان إلى المسيحية والانتقال إلى المرحلة الأهم في تأسيس عاصمة إمبراطورية جديدة في الشرق كانت القسطنطينية، كخطوة كبيرة على طريق مسحنة الإمبراطورية. في هذا العصر ثبتت مدينة أنطاكية دورها الاستراتيجي كعاصمة لسوريا، كان على الأباطرة البيزنطيين دوماً الاهتمام بها كعاصمة سياسية و دينية و اعتبارها ميتروبوليس Metropolis أي من أمهات المدن في الإمبراطورية الرومانية المسكونية أي العالمية، مما يدل على أهمية المدينة بين مدن العصر البيزنطي. بدأ الاهتمام بها في هذا العصر عبر الإمبراطور قسطنطين الكبير I Costantinus الذي عمل في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي على تأسيس كنيسة بيت الذهب في المدينة، التي كانت من أفخم كنائس تلك الحقبة، لضخامتها وحجم تكاليفها، لم يكتمل بناؤها في عهده، لينتهي في عهد ابنه الإمبراطور كونستانتيوس. بين فترة حكمي الإمبراطور زينونZeno 474..491 ميلادي و الإمبراطور أنستاسيوسAnstasius 491..518 ميلادي، عاشت المدينة ازدهار و استقلالاً اقتصادياً كبيراً، وفرته لها منطقة الهضبة الكلسية شرق أنطاكية المعروفة بمنطقة المدن المنسية شعبياً، و بيلوس علمياً Belus والتي هي عبارة عن مجمع استيطاني زراعي يضم حوالي 700 قرية أو بلدة؛ كانت قرى زراعية رفيعة المستوى العمراني، هذا المستوى الراقي واضح في تطور أساليب الإنتاج الزراعية، هذا التطور قاد إلى نهضة اقتصادية حقيقية في المنطقة، عن طريق تجارة المحاصيل التي وفرتها الزراعة لمنتجات كانت مرغوبة ورائجة بشكل كبير في العصر البيزنطي، لاسيما زيت الزيتون و خمر الكرمة، بالإضافة إلى بعض محاصيل الحبوب، هذه الوفرة في الإنتاج أدت إلى غنى وبذخ انعكس على تطور وغنى العمارة؛ يرى بوضوح في مدينة أنطاكية و في القرى الزراعية البيزنطية نفسها في شمال سوريا، التي تعطي أمثلة معمارية مهمة وخاصة عن العمارة المحلية في تلك الحقبة.
على الرغم من الازدهار الاقتصادي الذي عاشته المدينة بين حكمي الإمبراطورين زينون و أنستاسيوس، إلا أن أنطاكية شهدت فيما بعد الكثير من المشاكل السياسية، خصوصاً في عهد الإمبراطور جوستين Jiustinus 518..527 ميلادي، حيث عاشت فترة اضطهاد ديني لليعاقبة المونوفيزيين، مما أدى إلى الكثير من الاضطرابات والفوضى، وعمت المدينة حركة احتجاجات كبيرة ضد الإمبراطور جوستين، ذهب ضحيتها الكثير من السوريين، لتتعرض أخيراً في عام 527 لزلزال مدمر أتى على العديد من الأبنية الهامة الرسمية والعامة.
في نهاية عام 527 مع وصول الإمبراطور جوستينيان الكبير Justiniaus I عمل الإمبراطور على دعم المدينة وأعاد بناء الأحياء المتضررة، وزودها بجسور جديدة وبسور جديد، أيضاً قام بترميم أغلب المباني المتضررة وعمل على استرضاء اليعاقبة ومسيحيي المدينة، لتعود أنطاكية إلى الازدهار في عهده بعد فترة طويلة من الاضطرابات.
في عام 531 ميلادي، قام الفرس الساسانيون باجتياح كبير للأراضي السورية واستطاعوا دخول أغلب مدنها ووصلوا إلى العاصمة أنطاكية، حيث قاموا بحصارها، لكن المقاومة البيزنطية الشرسة بقيادة بليزاريوس قائد جيوش الإمبراطور جستنيان، استطاعت رد الهجوم ليعقد صلحاً طويلاً بين الطرفين فيما بعد. في عام 540 قام الإمبراطور الفارسي كسرى الأول Cosroe I بخرق الصلح والهجوم على سوريا و اجتياحها حتى وصل إلى مدينة أنطاكية واستطاع دخولها وقام بنفي بعض سكانها من السوريين إلى عاصمة الفرس. في عام 542 استطاع البيزنطيون استرجاعها من الفرس ومن ثم توقيع صلح دام لفترة طويلة. في سنة 611 ميلادي عاد الفرس لاحتلال سوريا واستطاع القائد الفارسي شهربازار دخول المدينة. في عام 621 استطاع الإمبراطور هرقل طرد الفرس من أنطاكية لتبدأ عميلة مقاومة وتحرير طويلة للتواجد الفارسي في سوريا، استمرت بين عامي 622 و 628 استطاع خلالها الإمبراطور هرقل استرداد مدن سوريا بما فيها أنطاكية والقدس وأعاد خشبة الصليب المقدس الذي نهبه الفرس من القدس إلى مكانه.
انطاكية المسيحية
كانت هذه الأحداث أهم ما عاشته أنطاكية على الصعيد السياسي والإستراتيجي، لكن أهميتها في التراث الإنساني العالمي لذلك العصر تأتي من قصتها الروحية مع المسيحية.
لمدينة أنطاكية مع المسيحية قصة خاصة، بدأت مع انطلاق الديانة على يد تلاميذ المسيح في السنين الميلادية الأولى، لتتبلور فيما بعد بصبغة عالمية في العهد البيزنطي، قصة المجموعة المسيحية الأولى في المدينة، تعتبر واحدة من الدواعي الرئيسية لتمييز المدينة. في نشوء الجماعة المسيحية الأولى لعبت أنطاكية دور صلة وصل بين العصور القديمة والعالم الحديث كجسر ثقافي. قبل انتشار المسيحية المبكر في المدينة، وبسبب شهرتها العالمية وأهميتها التجارية في العالم القديم توفر لها أن تكون هدفاً لأعداد كبيرة من الأجانب، عبرهم كانت ملتقى لأفكار ولثقافات متنوعة من ديانات محلية مختلفة إلى ديانات وافدة، فبالإضافة لعبادة زيوس وأبولو وبقية آلهة البانثيون اليونانية الأصيلة في المدينة، كان لدينا جماعة يهودية مهمة، تعمل على عملية الوعظ الأخلاقي باستمرار بين سكان المدينة، أيضاً كانت عبادة البعل السورية منتشرة، بالإضافة إلى انتشار الغنوصية الذي يعتبر كأحد تأثيرات العصور الهلنستية البارزة في ذلك الزمن، هذه الأرضية المنفتحة كانت المهد لتقبل الدين المسيحي الوافد. بدأت القصة عندما استشرى الاضطهاد في القدس ضد المسيحيين ليبلغ الذروة مع إعدام أحد قادة الجماعة المسيحية في المدينة ستيفن Stephen بعد الحادثة، فر عدد من أتباع المسيح الأوائل من المدينة وتوجهوا إلى فينيقية Phoenice وقبرص وأنطاكية.
في أنطاكية بدأ من ناحية ثانية في ذلك الوقت بعض اللاجئين الناطقين باليونانية وهم من أصول يهودية أي يهود متهلينين، بدأوا بالتبشير بالدين المسيحي في المدينة و مع غير اليهود أيضاً، اهتدى للدين الجديد في تلك الفترة نيكولاوس Nicolaus أحد رجال أنطاكية من غير السلالة اليهودية، اهتدى مبكراً إلى الدين الجديد وأصبح أحد شمامسة القدس السبعة. مساعي وجهود اليهود المتهلينين في التبشير، لقيت انتشاراً واسعاً في المدينة. كان معظم المهتدين إلى الدين الجديد في أنطاكية من غير اليهود، هو بحد ذاته إنجاز سوري يحسب لعاصمة سوريا أنطاكية لنواحي عديدة؛ أولها أن المسيحية مع المدينة انتقلت من دين شبه عرقي بالمعنى الروحي اليهودي محصور ضمن الطائفة اليهودية إلى دين عام لكل الأمم والشعوب، مما أعطاه فيما بعد طابع دين عالمي. كان نجاح التبشير بالدين الجديد لافتاً في عاصمة سوريا؛ لأسباب عائدة لتمدن المدينة عبر انفتاحها الكبير على الآخر كونها مدينة تجارية، عالمية، وذات طابع ثقافي هلنستي عريق. بالإضافة إلى أن السبب العملي لنجاح البعثة التبشيرية الأولى في أنطاكية عائد بالدرجة الأولى إلى كون المدينة، كعاصمة سوريا، محكومة من قبل موفد روماني رسمي، وتتمتع بدرجة معقولة من النظام الشعبي المنضبط، والفرص للعنف الغوغائي كانت قليلة، نسبة لما حدث في القدس، التي كانت تابعة لوكلاء اليهودية المحليين مباشرة، الموظفين الذين كانوا وضيعين ليس بالمنزلة الاجتماعية و حسب، بل بعدائهم الشرس للمسيحية و لعدم قدرتهم على تمثيل دور سكان عاصمة سوريا ذات الثقافة العالية أنطاكية.
عندما علم القادة في القدس بالعمل المدهش الذي كان متواصلاً في عاصمة سوريا، أرسلوا بارناباس Barnabas أحد مواليد قبرص مثله مثل المبشرين المبكرين في أنطاكية، أرسلوه كي يعاين العمل و يرفع تقريره عن وضع التبشير في المدينة وعن نسبة النجاحات فيه، و باعتبار بارناباس قبرصي فسيشعر إلى حد بعيد كأنه في وطنه أنطاكية، كون قبرص في تلك الفترة جزءً من العالم السوري ثقافياُ و اقتصادياً. قام ناس المدينة بتمييز بارناباس باعتباره من جماعة الجوار المألوفة لهم، و لكونه موفد جماعة القدس مباشرة، لقد حقق بارناباس خلال عمله اهتداءات إضافية، عندما رأى بارناباس هذا التقدم في التبشير، ذهب إلى طرسوس Tarsus حيث كان يعيش الرسول بولس Paul في بلدته، حيث طلب منه أن يأتي معه إلى أنطاكية، ليساعد في العمل، الإثنان بارناباس وبولس بقيا في المدينة مدة عام يعلمان ويعظان، العديد من الناس إهتدوا على يديهما، كان التقليد المحلي يفرض عليهما أن يعظا في شارع في المدينة سمي سينغون Singon أو سياغون Siagon الذي كان معناه عظمة الفك يوجد في المركز بجانب البانثيون في المدينة.
تشير المصادر بتوقع تقريبي أن هذه الأحداث حصلت بين عامي 38 و40 ميلادي. ثمرة هذا العمل كانت نشوء جماعة مختلفة عن المجموعة الأصلية لأتباع المسيح في القدس، وقد تجسد التحول الجديد بظهور مصطلح جديد: المسيحيون Christians في بداية العام 40 ميلادي. ظهور الكلمة الجديدة أقر من قبل المؤلفين الرومان في المدينة عندما وجدوا أنه من الضروري أن يكون هناك اسم رسمي للطائفة الجديدة، التي بدأت تتميز عن اليهودية في أنطاكية بالذات. كان يجب أن يعطى الاسم للطائفة في مدينة كأنطاكية حيث الفرق الدينية موجودة ومن كل الأصناف. لا نمتلك دليلاً على حجم الجماعة المسيحية في أنطاكية في ذلك الوقت، لكن المراجع التاريخية تذكر أسماء العديد من الشخصيات المسيحية التي كانت تعمل على التبشير هناك، كان يوجد بينهم رسل ومعلمون معينون كبارناباس، سيمون نيجر Symoeon Niger ، لوقا من قونية Lucius of Cyrene ، مانان Manan، و بولس الرسول و غيرهم. على يد هذه المجموعة تم التنظيم والتخطيط للحملات التبشيرية المنظمة لبولس وزملائه فيما بعد وقد وفرت الجماعة الوسائط التي بدأت بها الرحلات.
تشير المصادر أيضاً إلى أن الجالية المسيحية في أنطاكية ضمت في صفوفها الكثير من الأثرياء، نقرأ أنه في عام 46 ميلادي أرسلت المدينة معونة لجماعة القدس الدينية بمساعي بولس وبارناباس، ذلك للتخفيف من آثار المحنة التي سببتها المجاعة في تلك الفترة. كان واضحاً أن بارناباس وبولس في نفس الزيارة للقدس قد ناقشا مع جماعة القدس مسألة مجموعة الطقوس اليهودية و تطبيقها في حال اهتداء غير اليهود وكانت الطقوس مثار جدل بين المهتدين الجدد من الهيلينيين، ذلك في عدة نواحي خلافية طقسية منها الختان وقانون تحديد الأطعمة المسموحة وتقاسم الوجبات بين المسيحيين اليهود وغير اليهود، كان الرأي الذي أكد عليه بولس؛ هو أنه لن يكون هناك تطبيق عملي للقانون على غير اليهود ويجب أن يعفى المهتدون الجدد من شعيرة الختان، حصل بولس و بارناباس من جيمس James، و بطرس Peter، و يوحنا John، و كانوا القادة للجماعة المسيحية في القدس، على إتفاقية تسمح بأن يكون المبشر من غير اليهود غير ملزم بتطبيق الطقوس، بعد ذلك ولتقديم الإمارات الواضحة وللتأكيد على وحدة أتباع المسيح، قام بطرس بزيارة لأنطاكية وقد وافق على التوسع بالأكل مع المسيحيين من غير اليهود.
من جهة أخرى أرسل جيمس قائد الجماعة في القدس كل من يهوذا Judas يهوذا الإسخريوطي و سيلاس Silas كمبعوثين إلى أنطاكية لا يعرف السبب الرئيسي، لكن يرجح أن يكون ارتباطاً بالاتفاقية السابقة أو لأسباب أخرى تخص تنظيم الجماعة في المدينة و قد كان هؤلاء ممثلين لوجهة النظر التقليدية المقدسية في استمرار الطقوس، تشير التقاليد المسيحية إلى أنه في تلك الفترة عاد الموضوع الخلافي للظهور عبر بطرس و بارناباس اللذان أظهرا بالحجة أن المواليد اليهود لا يمكن أن يتجاهلوا الطقوس و بذلك انفصلا عن بولس في تلك الفترة.
بعد ذلك بدأت الحملات التبشيرية، لا يعرف على وجه التحديد الزمن الذي بدأت فيه على وجه الدقة، لكن من المرجح أنها كانت قد بدأت في عام 47 ميلادي، في هذه المرة لم يرتحل بولس مع بارناباس بل مع سيلاس، في الرحلة التالية اصطحب معه مرقس Mark. كانت هذه الحملات من أول أفضال تنظيم الجماعة الدينية في أنطاكية على المسيحية كدين، فعبر الانطلاق من المدينة للتبشير في العالم باعتبارها مركزًا للمسيحية، أعطت المدينة دفعاً كبيراً للدين المسيحي، سواء في طرق التبشير ومدنيتها أو عبر استخدام الأدبيات الهلنستية و المنطق الإغريقي في نشر الدين الذي أصبح على يد تلاميذ المدينة يحظى بنسبة مرتفعة من القدرة على القبول و الإقناع لدى المهتدين الجدد.
مع هذا التقدم الذي أحرزته أنطاكية على صعيد المسيحية في وقت مبكر من تاريخها أي النصف الأول من القرن الأول الميلادي، خلق فيما بعد موضوع المنافسة مع العواصم الأخرى في الإمبراطورية، أو ما يسمى بقضية ترتيب الكرسي الرسولي الأول بين مدن الامبراطورية المهمة كروما و القسطنطينية أو القدس و الإسكندرية. يبدو تاريخياً أن أنطاكية كانت المخولة لأن تحل في المركز الثاني بعد القدس في الأقدمية وأن تنال الدرجة الأولى في موضوع النشاط التبشيري وتفوقه على الكراسي الرسولية الأخرى في الإمبراطورية.
قضية أخرى تشغل منطق الترتيب التاريخي للأحداث الدينية في أنطاكية؛ هي مشكلة ظهور بطرس كرأس للجماعة الدينية في المدينة بعد عام 48 للميلاد وتسميته كأول مطران للمسيحية في كرسي أنطاكية، المشكلة تنشأ من التقليد الروماني الذي يذكر أن بطرس توفي بعد أن أمضى في روما خمسة وعشرين عاماً كمطران وفيما بعد يذكر تاريخ وفاته في 65 ميلادي، هنا المشكلة المطروحة في هذا التقليد التاريخي هي إن كان تاريخاً حقيقياً ؟ السؤال كيف من الممكن تصور أن بطرس كان نشيطاً وعلى رأس كرسي أنطاكية وبنفس الوقت في روما، لم يكن الزمن ليسمح له أيضاً بالتواجد في القدس التي تذكر التقاليد بأنه كان أحد قادة الجماعة فيها مع جيمس ويوحنا، من ثم تذكر وجوده في أنطاكية وأيضاً روما في فترات متقاربة أو واحدة تقريباً…؟
بمقاربة الحدث موضوعياً، ليس من الصعب علينا أن نفهم كيف وصل بطرس إلى هذه المرتبة في المدينة، ففي طريقه إلى روما، كان بطرس من أول الرسل الذين زاروا أنطاكية، من الممكن أن يكون قد عمل على تأسيس الكنيسة هناك والدعوة قبل غيره من الرسل، أو نستطيع تصور أن نشاط التبشير قد دفع بطرس لزيارة المدينة والاطلاع على العمل هناك، و نظراً لمكانته بين الرسل قامت الجماعة في المدينة بجعله صاحب المرتبة الأولى، نعرف أهمية بطرس دوماً في الترتيب الكنسي وفقاً لكل الروايات؛ كان الأول بين الإثني عشر تلميذاً، لذلك ليس صعباً تخيل كيف حاز على لقب مؤسس الكرسي في المدينة وكيف رسم كأول مطران.
ترسخت بعد ذلك في الأدبيات المسيحية، أن كرسي روما تأسست من قبل بطرس وبولس وكرسي أنطاكية تأسس من قبل بطرس، وكرسي القدس من قبل جيمس صديق السيد وكرسي الإسكندرية من قبل مرقس. هنا يجب أن نشير إلى حقيقة أن بطرس إن كان قد زار أنطاكية، يمكن أن تكون الحادثة بنفسها كافية لتكون سبب استنتاج أنه رسمياً أسس الكنيسة في أنطاكية وفعلاً نظرت الكنيسة في أنطاكية إلى بطرس وتعاليمه بمهابة خاصة وضعته على رأس هرم الكنيسة في المدينة نظراً لمكانته وقربه من المسيح.
بعد بطرس ترسخ التقليد الكنسي في المدينة، تشير التقاليد غير الدقيقة إلى أن أحد وجهاء المدينة ويدعي ثيوفيليوس Theophlius وهب بيته الكبير في أنطاكية ليستخدم مقاماً للكرسي الرسولي وككنيسة للممارسة طقوس الدين. من ثم نقرأ أنه بعد المطران الأول بطرس تربع على الكرسي أفوديوس Evodius رئيساً للجماعة، يبدو من اسمه أنه كان غير يهودي، جسد أفوديوس رأس الإكليروس بشكل رسمي في المدينة، التي يبدو أنها شهدت في عهده كثافة في عدد المؤمنين حيث نزح إليها الكثير من مسيحيي القدس، للهرب من الأحداث الدامية للاضطهاد الديني الذي بدأ من قبل الكاهن الروماني الأكبر للمدينة الروماني أنانوس Ananusو الذي ذهب ضحيته قائد الجماعة في القدس جيمس صديق المسيح، كانت الحادثة سبباً رئيسياً آخر للتوجه من قبل المؤمنين إلى أنطاكية، لا شك أن الجماعة التي فرت من القدس حملت معها أيضاً المزيد من كتبها وأقوال المسيح وطقوسها وتقاليدها وكرستها بغنى في أنطاكية بعد أن كانت نضجت في القدس مما أعطى دفعاً للمسيحية في أنطاكية.
بسبب هزالة المصادر فإنه من المستحيل إعادة بناء أية قصة متواصلة بشأن تاريخ الجماعة المسيحية في أنطاكية، على مدى السنوات الأخيرة من القرن الأول الميلادي، من ناحية ثانية فقد جرت أحداث مهمة مؤثرة في مستقبل المسيحية، عبر انتشار بدع و طقوس دينية في أنطاكية و المنطقة كان أخطرها على المسيحية في تلك الفترة النيكولية التي دخلت فكر المنطقة من خلال العمل على تسوية بين المسيحية والعرف الاجتماعي السائد من خلال التطبيع والتوفيق بين الطقوس الوثنية السائدة مع الطقوس العضوية في الجماعة المسيحية، كانت حسب المصادر بداية على يد نيكولاس Nicolausالذي كان أحد المبشرين الكبار منذ البدايات في أنطاكية، نسبت البدعة له وسميت باسمه النيكولية، لا يعرف إن كان هو مخترع أدبياتها أم أنها ألصقت به زوراً لإضفاء قوة شرعية عليها، لكن من المؤكد أنها كانت اختباراً كبيراً للمسيحية في تلك الفترة.
محطة أخرى كان على المسيحية في تلك الفترة مواجهتها و تخطيها الغنوصية التي اجتاحت فكر المنطقة حتى وصلت إلى العاصمة السورية أنطاكية عن طريق تعاليم سيمون ماغوس السامري Simon Magus of Samoria الذي عمل على نشر الفكر الغنوصي في فترة وجود الرسل وعمل على ترسيخ الكثير من أفكار الغنوصية في الشرق. توالى ظهور أساتذة ومعلمي الغنوصية في تلك الفترة في أنطاكية نقرأ في المراجع التاريخية أسماء كثيرة منهم بعد سيمون السامري، كالمعلم ميناندر السامري Menender of Samoria و ساتورنيلوس Satornilus المواطن الأنطاكي خليفة ميناندر على رأس الغنوصية الأنطاكية.
بعد هذه الفترة نعود في بداية القرن الثاني لنقرأ في المصادر من جديد عن تواجد المطران أغناطيوس في عام 115 ميلادي كرأس للكنيسة في أنطاكية، كان المطران أغناطيوس Ignatius معروفاً بإيمانه التقليدي ومشهوراً لناحية كتابة رسائله السبعة التي تدور مواضيعها عن الحماسة الدينية في المدينة في ختام عصر الرسل. يروي المؤرخ يوحنا مالالاس Malalas رواية تصف لنا النهاية المفجعة للمطران لأغناطيوس في أيام حكم تراجان والخلاف الذي نشب مع الجماعة المسيحية في المدينة التي اتهمها تراجان بتصرفات غير لائقة في مخاطبته، كالعادة في تلك العصور دفع رأس الجماعة الدينية المطران أغناطيوس الثمن وأرسل إلى الكولوسيوم في روما حيث ألقي للحيوانات المفترسة، لم تعد جثته للدفن في المدينة إلا في أيام الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني Theodosius II حيث أعيد جثمانه و دفن في المقبرة الشهيرة في أنطاكية خارج باب دفنه. ليس لدينا معلومات كثيرة عن الذين خلفوا أغناطيوس في تلك الفترة، لكن لدينا تعداد لعدة أسماء منها؛ هيرون Heron ميلادي 116 م، كورنيللوس Corneluis 128 م، إيروس Eros 142 م، ثيوفيليوس Theophilius 196 م، كان ثيوفيليوس سوري المولد اهتدى إلى الدين المسيحي في سن متقدم، كان أيضاُ متأثراً جداً بالطقوس الدينية اليهودية، لديه عمل كتابي في الدفاع عن الإيمان، كتابه كان ذو أهمية بالغة لناحية المحاولة الأولى لصياغة نظرية في التثقيف اللاهوتي، التي غابت ثلاثة أجيال عن أنطاكية لتعود إلى الظهور مجدداً مع بولس السمسياطي الذي حاول أن يوفق بين العناصر اليهودية والوثنية والمسيحية دون أن يضر بالمسيحية. خلف ثيوفيليوس في رئاسة الكرسي الأنطاكي ماكسيمينوس Maximinus 188..198 م، خلفة على الكرسي سرابيون Serapion 198..199 م، ثم اسكليبادس Asclepiades 199.. 217 م، تلاه فيلتوس Philetus 217.. 230 م، ثم زابنوس Zabennus مطران المدينة في عهد الإمبراطور سيفروس إسكندر Severus Alxander 222..235 م. كان الأباطرة السوريون الذين وصلوا إلى الحكم في روما مع أفراد أسرتهم يهتمون كثيراً بالشؤون الدينية، فلقد عمل الإمبراطور إيلاغابال Elagabalus 218..222 م، على أن يشرع ديناً توفيقياً جديداً يمكنه احتواء المسيحية وكان ابن عمه الإمبراطور الإسكندر سيفروس متسامحاً جداُ مع المسيحيين وقد قرب الكثير منهم إلى بلاطه. أما أمه جوليا ماميا Julia Mamaea من جهتها امتلكت ثقافة واسعة وعقلاً فلسفياً مثلها مثل النساء الأخريات في أسرتها ومع أنها ليست مسيحية، لكنها كانت متعمقة في الدين المسيحي، كانت تعيش في أنطاكية بين 231..233 م، أرسلت إلى قيصرية في فلسطين في طلب أورجين Origen المعلم الواسع الشهرة كي يأتي و يعظ في الدين المسيحي في المدينة. يقول المؤرخ أوسيبيوس Eusebius بأن أورجين لبى دعوة الإمبراطورة، فجاء إلى أنطاكية وألقى العظات فيها على مسامع الإمبراطورة وحاشيتها وفي المدينة أمام العامة أيضاً، هذا التوجه من قبل الإمبراطورة كان له بالغ التأثير على ولدها الإمبراطور وأعطى دفعاً كبيراً للمسيحيين والمسيحية في المدينة.
في نفس تلك الفترة تميزت الجماعة بالعمل التعليمي الكبير الذي قاده الكاهن المثقف جمينوس Gominus. بعد جومينوس و في عهد الإمبراطور غورديانوس Gordians 238..269 م، أصبح بابيلاس Babylas مطران أنطاكية ورأس الكنيسة في المدينة، كانت نهاية المطران بابيلاس مفجعة فلقد انتهى في السجن في فترة اضطهاد المسيحيين من قبل الإمبراطور دسيوس Decius 249..251 م، في التاريخ الأثري اشتهر بابيلاس أيضاً لارتباطه بالدير الذي يحمل اسمه في أنطاكية والذي صمم على شكل صليب يوناني وهو من أول النماذج المعروفة في تاريخ العمارة الكنسية عن هذا النوع من الكنائس في العالم ولقد أعيد اكتشافه بالقرب من أنطاكية على الضفة اليمني لنهر العاصي.
بعد موت بابيلاس خلفه المطران فابيوس Fabius. في الفترة التالية عاشت المدينة أحداث إضطهاد في زمن الإمبراطور فاليريان Valerian 253..260 م، الذي إتخذ من المدينة مركزاً لمواجهة الفرس واستقر فيها في تلك الفترة، لم تكن علاقته بمسيحيي المدينة جيدة وشهدت فترة تواجده اضطهاداً كبيراً ضد المؤمنين في المدينة وأدى الهجوم الفارسي الصاعق على المدينة في تلك الفترة إلى أسر وسبي سكان المدينة ومن بينهم الإمبراطور نفسه، ومعه أيضاً مطران المدينة في ذلك الوقت دمتريانوس Demetrianus الذي نقل مع الجماعة المسيحية إلى فارس وقام بتنظيم أمور الجماعة هناك، في تلك الفترة كان يمارس الإشراف الوقائي على الكنيسة كاهن طرسوس Tarsus. في 260 م وصل خبر وفاة دمتريانوس في فارس فانتخب بولس السمسياطي مطراناً للمدينة، كان وصول السمسياطي إلى رئاسة الكنيسة دفعاً كبيراً للكنيسة والترتيب الكنسي في المدينة، خصوصاً تبلور منصبها كمنصب سياسي ديني رفيع المستوى، فأصبح بطريرك أنطاكية شخصية مبجلة وذات مكانة اجتماعية بارزة. لاهوتياً كان بولس شخصية ذات دلالة في الثقافة السورية، فقد مهدت تعاليمه التي أكدت وحدة الرب والطبيعة الإنسانية للمسيح، مهدت السبيل للآريوسية واشترعت ناموساً جديداُ في المدرسة اللاهوتية في أنطاكية، كان أقرب إلى العقلانية الأرسطية. كان بولس السمسياطي مستشاراً لزنوبيا وقد اتهم معها بأنهما يروجان لفكر يرضي اليهود في سوريا عن طريق القول بأن المسيح ليس إلهاً، بل هو مجرد إنسان مرتبط مع الألوهة بالتبني، لكن بالبحث يتضح أن هذا ليس صحيحاً وأن فكرة الرفض أو الخضوع لألوهية المسيح نشأت في وقت مبكر جداً في أنطاكية، فحتى في زمن بولس الرسول في أنطاكية كانت هذه العقيدة تلقى تأييداً كبيراً وفي القرن التالي لرئاسة بولس السمسياطي للكنيسة، أصبحت أنطاكية عاصمة سوريا قلعة للآريوسية التي تتبنى هذا الفكر.
أثار بولس بآرائه جدلاً كبيراً في اللاهوت المسيحي، حتى وصل إلى مرحلة بدا التقاضي فيها ضرورياً، فدعا أسقف طرسوس هيلينيوس Helenius إلى مجمع كنسي إنعقد في أنطاكية عام 264 م، كان من أول المجمعات التي نعرفها بهذه الصيغة في تاريخ الأدبيات المسيحية بعد مجمعات القدس، استطاع بولس في المجمع بثقافته العالية أن يكتم عقائده ويقنع الحضور بأنه سيعدل عن مذهبه، في السنوات التي تلت، كبر الجدل بشأن مذهبه الذي رفض التخلي عنه، فتداعت مجموعة من المطارنة لمناقشة الموضوع في مجلس شورى انعقد في 268 م، في هذه المرة كان الهجوم ناجحاً على بولس فلقد قاده مالكيون Malchion القسيس الذي ترأس مدرسة علم البلاغة في أنطاكية، امتلك مالكيون كل حذاقة الثقافة وعلم الجدل، فاستطاع إجبار بولس على ترك إخفاء معتقداته الحقيقية، الأمر الذي كان قد أنقذه في المجمع الأول وبالتالي انكشفت طبيعة معتقداته أمام المجمع، الذي أصدر أمراً بحرمانه كنسياً وانتخب المجمع عوضاً عنه دومنوس Domnus ابن المطران الأسبق دمتريانوس. رفض بولس قرارات المجمع وتابع مهامه في رأس المطرانية بدعم من أصدقائه المقربين ومن حكومة تدمر، وبذلك أصبح لأنطاكية مطرانين أحدهما أرثوذوكسي والأخر الذي كان بولس. تكررت هذه الحالة في القرن الرابع الميلادي عندما شهدت المدينة اضطرابات الاضطهاد ضد الفكر الآريوسي. استمر بولس في منصبه بدعم من زنوبيا وحكومة التدمريين حتى التاريخ الذي هزمت فيه الملكة أمام أورليان، حيث تم طرد بولس السمسياطي من المدينة، يصف المؤرخ الكنسي أوسيبيوس الحادثة “بأكبر إهانة”.
هكذا نرى كيف صاغت أنطاكية تاريخاُ مسيحياُ كاملاً، قبل غيرها من المدن، لتكتسب أهمية عالمية في تاريخ المسيحية، لا تزال تحتفظ بها حتى اليوم. كان ذلك قبل أن تكون المسيحية ديناً معترفاً به في الإمبراطورية، مع ذلك شكلت المدينة كل هذا التاريخ الروحي، وأنجبت أسماء رمزية وكانت مركزاً أضحوياً لشهداء عظام على طريق التبشير والمقاومة الروحية للاضطهادات.
بعد بولس السمسياطي تابعت المدينة تقديم سيرتها على طريق فرض عالمية الدين المسيحي فقدمت الكثير من الشهداء، من الأسماء الشهيرة لدينا؛ المطران سايرل Syril 303 م، الذي اعتقل في زمن الاضطهاد الحاصل في عهد الإمبراطور ديوكلتسيان وحكم عليه بالأشغال الشاقة في مقالع رخام بانونيا وتوفي هناك بعد ثلاثة سنين. الشهيد الآخر من أنطاكية كان الشماس رومانوس Romanus الذي قطع لسانه عقوبة له على عظاته الشهيرة وقد اعتبر أحد قديسي المدينة بعد وفاته. من الشهداء في المدينة في ذلك الوقت تيرانو Tyrannio مطران تاير و زنوبيوس Zonobius القسيس. ومن الشهداء الأكثر شهرة كان لوسيان Lucian الذي توفي في نيكوميديا Nicomedia بعد التعذيب الشديد، اشتهر لوسيان بكونه المطران الذي أشرف على تحرير النص الأصلي للكتاب المقدس عبر تنقيحه وتقديمه جاهزاً ليوضع كنسخة معتمدة في بطريركية أنطاكية عاصمة سوريا والمشرق وفي عاصمة الإمبراطورية القسطنطينية، كان لوسيان أيضاُ أحد واضعي أسس مدرسة اللاهوت في أنطاكية بتدريسه للطقوس الدينية وللفلسفة اليونانية الأرسطية، فكانت المدرسة الأنطاكية على يده قد ترسخت و تبلورت، لتنافس كل كراسي الإمبراطورية الأخرى، خصوصاً الإسكندرية في وقت لاحق.
حصل كل هذا في أنطاكية عاصمة سوريا قبل أن تشرعن الديانة المسيحية بعد سنين قليلة من هذه الأحداث على يد الإمبراطور قسطنطين و ليكينوس في إعلان ميلانو الشهير 313 م وهذا ما يعكس أهمية عاصمة سوريا بكل هذا الغنى اللاهوتي في ذلك الوقت. أنجبت المدينة فيما بعد أسماء عريقة، فكانت محطة لشخصيات لاهوتية عريقة في العصر البيزنطي؛ أمثال يوحنا فم الذهب، نسطوريوس، ديودور الطرسوسي، ثيودرويطس القورشي، سايروس الأنطاكي، بطرس القصار، يعقوب البرادعي، أوطيخا وكثر من أمثالهم على طريق اللاهوت السوري، كل اسم من هذه الشخصيات كان قصة تاريخية طويلة من اللاهوت السوري، الذي أصبح بطقوسه جزءً من قصة اللاهوت العالمي المسيحي على امتداد عصوره.
دخل العرب المسلمون أنطاكية في عام 637 م، لتنتهي الحقبة الكلاسيكية في سوريا بنهاية العصر البيزنطي، بعد دخول المسلمين للمدينة فرت الأرستقراطية الأنطاكية باتجاه العاصمة القسطنطينية، بينما فر سكان العاصمة السورية إلى الجبال المجاورة، انهارت الدفاعات البيزنطية أمام الهجوم الإسلامي وترك الإمبراطور هرقل المدينة و توجه نحو القسطنطينية، لتلقى عاصمة التاريخ السوري حتفها و لتدخل طي النسيان.
تعقيب:
دفعت أنطاكية عاصمة سوريا التاريخية والثقافية الثمن مرتين؛ مرة مع الاجتياح الإسلامي للمنطقة في القرن السابع، لتخسر جزءً كبيراً من ثقافتها السورية العالمية، والمرة الثانية كانت مع سقوط القسطنطينية في يد الأتراك عام 1453، لتفقد المنطقة بكل ما فيها الإرث الكلاسيكي المختزن وليتحول إلى الغرب. بينما دفعت أنطاكية عاصمة سوريا ثمن موقعها على الحدود بين المسلمين والبيزنطيين لدهور عديدة ولتتحمل اليوم تبعة وقوعها على الحدود مرة أخرى، لكن هذه المرة لتسقط بيد الأتراك الذين سيطروا على المنطقة مؤخراً.
ينسى السوريّون أن أنطاكية كانت عاصمة بلادهم، بل عاصمتهم الثقافية الحقيقية. لا أحد منهم يطلب أو يفكر في أن يخصص يوم في العام للاحتفال بأنطاكية كعاصمة للثقافة السورية الجامعة. يريدونها أن تدخل طي النسيان في نوع من التنكر الثقافي للإرث السوري.
ليست أنطاكية عاصمة للثقافة العربية، لكنها عاصمة للثقافة السورية. ليست أنطاكية عاصمة للأمويين أو للياسمين، لكنها عاصمة للتراث الإنساني. لم تحمل مدينة سورية لقب عاصمة سوريا بطريقة طويلة ولألف عام متصلة كأنطاكية.
إن سورية الثقافية هي فكرة جميلة لم تكن في يوم من الأيام حقيقية واقعية، لكن يجب الحفاظ على هذه الفكرة الثقافية الجميلة المسماة سوريا المتنوعة في الذهن، حتى يتوفر لها جيل سوري إنساني يستطيع جعلها واقعاً قائماً على الأرض.
تذكير: لا تقع أنطاكية في جنوب تركيا، بل تقع في شمال غرب سوريا.
Bibliography:
Downey 1963: G.Downey, Ancient Antioch, Princeton 1963.
Downey 1961: G. Downey, The history of Antioch in Syria from Seleucos to the Arab conquest, Princeton 1961.
Downey 1934: G. Downey, The Church at Daphne, in Elderkin, Princeton 1934.
Downey 1938: G. Downey, The shrines of St. Babylas at Antioch and Daphne, in R. Stillwell pp.45-48, Harvard 1938.
Donadeo 1991: M. Donadeo, L’anno liturgico bizantino, Brescia 1991.
Drijvers 1984: H.J.W. Drijvers, East of Antioch, London 1984.
Ferluga 1974: J. Ferluga, Bisanzio società e stato, Firenze 1974.
Fedalto 1991: G. Feledato, Le chiese d’oriente, Milano 1991.
Saetti 2000: L’enciclopedia dell’antichità classica.
ΕΥΣΕΒΙΟΥ ΚΑΙΣΑΡΕΙΑΣ: ΕΚΚΛΗΣΙΑΣΤΙΚΗ ΙΣΤΟΡΙΑ, Eusebius Caesariensis Historia ecclesiastica, National Library of Russia, Mosca 1986.
مقال مهم جدا حول تاريخ انطاكيا ، وتكمن أهميته في الإلمام بهذا التاريخ.
حبذا لو أشرتم إلى اتحاد الشقيقات الأربع ( انطاكيا ، سلوكيا، أباميا ولاوديسيا ) في عهد سلوكس نيكاتور.
صدقت أستاذ سجيع الغالي , أنطاكيا هي أصل التاريخ السوري