مسار جلجامش

الأمّة في الدولة المعاصرة

جدليّة الجغرافيا والسياسة

تنسج الدول علاقاتها فيما بينها اليوم باعتبارها دول أمم من حيث المبدأ والشكل، فالدولة لم تعد تُعرّف باسم الملك أو الاسرة التي كانت تحكمها كما كان عليه الامر فيما مضى عندما كانت الدولة، دولة حمورابي… ودولة لويس الرابع عشر… أو دولة الأمويين والعباسيين… صارت الدولة المعاصرة تُعرّف باسم أراضيها وشعبها، وعلى هذا التماهي المستحدث، بين الدولة والأرض والشعب انبنت فكرة الأمة المعاصرة ومبدأ القومية الملازم لها، وصيغ نموذج جديد للدولة هو الدولة الأمّة أو الدولة القومية.

في أسس النموذج

تشير دلائل أكثر من أن تحصى إلى أننا نتعامل جميعاً مع الواقع السياسي في العالم، على أنه قائم اصلاً على وحدات من الدول تعتبر نفسها في الوقت عينه أنها وحدات من الأمم. من هذه الدلائل أن القرن العشرين شهد تشكل منظمتين عالميتين هما «عصبة الأمم المتحدة» في النصف الأول منه و «منظمة الأمم المتحدة»، في النصف الثاني والتي لا تزال مستمرة من دون وجود ما يؤشر إلى زوالها في المدى المنظور، وفي كلتيهما، «الأمم»، هنا ليست في واقع الأمر سوى «الدول» في المنظمتين المذكورتين، كما لو أن تسميتهما توحي بوجوب انتفاء الحاجة إلى التمييز بين الأمة من جهة والدولة من جهة أخرى، ما يعني أن العالم المعاصر يعتبر أن الدولة هي الأمة والأمة هي الدولة أو بالأحرى هكذا ينبغي أن يكون قياساً على شكل النموذج الجديد للدولة المعاصرة والذي يختلف عن أشكال الدولة التاريخية (الدولة المدينة…الامبراطورية… الدينية… الملكية المطلقة…)

يتميز إذن، نموذج الدولة / الأمة بالمواءمة بين الدولة والأمة حتى التماهي الذي شكل الجوهر السياسي للحداثة الأوروبية التي راحت تعم العالم على مدى القرنين

Ratzel, Friedrich
Geograph

الماضيين. هذا ويعود إلى الثورة الفرنسية الفضل في إدخال البعد السياسي إلى مصطلح الأمة )nation) ومن ثم شيوعه مع المبدأ القومي (national(الملازم له في قاموس السياسة العالمية المعاصرة. وذلك في إشارة إلى كيان سياسي مستقل في دولة واحدة موحدة يجمع أفرادها وفئاتها رابطة اجتماعية اقتصادية وثقافية…هي الرابطة القومية التي تمكّن الشعب أو المجتمع من امتلاك زمام أموره بواسطة دولته محققاً سيادته على ذاته وعلى أراضيه، كما على السلطة المنبثقة منه بفعل إرادة أفراده، بما هم جميعاً أسياد، أحرار ومتساوون في الحقوق والواجبات. وعلى هذا الأساس الديموقراطي الحديث اختلفت الأفكار الجديدة المتعلقة بالانتماء إلى الدولة والأمة عن الأفكار السابقة ذات الصلة بالتبعية للملوك والأسر الحاكمة أو ممثلي الإرادة الإلهية ولمن دونهم مرتبة من كبار القوم ومن أولياء وإقطاعيين ورجال دين… ويُعزى ذلك إلى ما أنتجته تيارات العقلانية والثورات العلمية من مناخ ثقافي وتنويري راح يعزز حضوره وفاعليته في أوروبا منذ القرن الثامن عشر.

كانت الخطوة الاولى في المنهج القومي التشكيك في السلطة المستمدة من السماء، أي من الذات الالهية كمصدر لسيادة الدولة، فأصبح المطروح أن تنتقل السلطة والسيادة من التاج الملكي إلى الشعب ومن ممثل الله إلى الإنسان، من السماء إلى الأرض، ولم يطل الأمر حتى شهدت أوروبا ومن ثم العالم، تلك التحولات السياسية العميقة والحافلة بشتى أنواع الأحداث والصراعات من ثورية ثم استعمارية فتحررية ووطنية، أدت في نهاية الأمر إلى تعميم شكل نموذج الدولة / الأمة طوعاً أو جبراً على سكان الكرة الأرضية.

على أن الدول اليوم في العالم وإن تمثلت جميعها في «منظمة الأمم المتحدة»، غير أنها تتفاوت في مواقعها من النموذج المذكور، تقترب منه هنا وتبتعد عنه هناك. ففي العالم المتقدم يبدو النموذج على درجة عالية من التحقق، ففي فرنسا والولايات المتحدة وايطاليا… الدولة هي الأمة والأمة هي الدولة بالنسبة للمواطنين. والدولة هنا تحظى بثقة شعبها أفراداً وجماعات، بخلاف ما يجري في العالم المتخلف حيث تتمايز الدولة عن الأمة لدى المواطنين فتنقطع الدولة عن أمتها وتنتفي الثقة بين الحكومة وشعبها، فلا تجد السلطة آذاك إلاّ الاستبداد سبيلاً للإمساك بالأمور، وإن عجزت تتفكك الدولة ويتفكك مجتمعها. كما وأنه ما تزال تشكيلات سياسية تتمثل في «منظمة الامم المتحدة» على أنها دول أمم بينما هي مشيخات… أو تنظيمات قبلية… أو مدن… أو تيوقراطيات…؟

ولكن ما هي هذه الأمة التي انبنى أو ينبغي أن تنبني عليها الدولة المعاصرة؟

تعدد المقاربات

عرف مصطلح الأمّة عدة دلالات في التاريخ منها الدينية، الإجتماعية، والثقافية الانتروبولوجية… وحتى الحيوانية (سورة الأنعام في القرآن آية ٣٨) إلاّ أننا هنا نركز على دلالاتها الحديثة في القاموس السياسي المعاصر. في هذا الإطار، شهد موضوع الأمّة (والقومية) على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين نظريات متعددة ومختلفة، تنطلق من تعريفات للأمّة تأخذ اتجاهات تتعارض وتتقاطع فيما بينها، إلاّ أن هذه الاتجاهات على تعددها يمكن أن نوزعها على مجموعتين: الاتجاهات «الموضوعية» من جهة والاتجاهات «الذاتية» من جهة أخرى إذا جاز التعبير.

تنطلق الاتجاهات «الموضوعية»، من أن الأمة تتألف من أفراد يجمعهم نوع أو أكثر من انواع الروابط التي تعلو عليهم ويستجيبون طوعاً لها في الوقت عينه

فيدال دو لابلاش

. وأنواع هذه الروابط تتوزع وتتفرق على مجالات متعددة: ثقافية، دينية، لغوية، تاريخية جغرافية… سلالية… اقتصادية اجتماعية، تجري على رقعة معيّنة من الأرض. غير أن المعنيين بتحديد الأمة والتعريف بها، يختلفون على ترتيب هذه الروابط أو تلك من حيث الأهمية. فقد يذهب اتجاه من الاتجاهات «الموضوعية» على سبيل المثال لا الحصر إلى التركيز على رابطة اللغة أو الدين أو الاثنين معاً (القومية العربية)، وستذهب اتجاهات «موضوعية» نحو السلالة – العرق (القومية النازية)، بينما تركز أخرى على المزيج السلالي الثقافي في وحدة الاقليم الجغرافي ثم على دوره في تشكيل مجتمع الأمة الأتم واحتضانه (أنطون سعادة). كما تذهب اتجاهات «موضوعية» مختلفة إلى إعلاء شأن التاريخ المشترك والتقاليد والتراث على غيرها من العوامل… إلى ما هنالك من نظريات تنطلق من أن الأمة واقع اجتماعي ينتمي إليه الفرد الإنساني مثلما ينتمي إلى أمه وأبيه. وكما أن الفرد عند ولادته لا يختار أمه وأبيه، فهو في الوقت نفسه لا يختار أمته. وعلى هذه الروابط التي تؤدي إلى تجانس وتماثل أفراد هذه المجموعة البشرية أو تلك وتميّزها عن غيرها، تتكون إرادة عامة تجمعهم في أمة خاصة بهم حيث يتعاونون فيما بينهم على صيانة مستقبلهم وتحقيق أهدافهم وتنمية مصالحهم المشتركة.

أما الاتجاهات «الذاتية» فهي تعتبر أن الأمة تتحقق على المستوى الروحي لهذه الجماعة أو تلك من الجماعات البشرية، فهي تتألف من أفراد أحرار، ارتضوا وأرادوا العيش معاً على مساحة من الأرض، تجمعهم حاجات ومصالح مشتركة يسعون إلى تأمينها، وبالتالي فإن حياة الأمة واستمرارها تستدعي مجهوداً دائماً من أبنائها يؤكد على إرادتهم الحرة في الانتماء إليها، وذلك من خلال ما يشبه «الاستفتاء اليومي» كما يقول ارنست رنان (1823-1892)، لمجاوزة الحواجز الاجتماعية والثقافية بين فئات الأمة بهدف الإبقاء على الالتفاف حول مشروع مشترك.

على أن جميع هذه النظريات «موضوعية» كانت أو «ذاتية» لم تكن لتتمكن من امتلاك حسم الجدل بشأن الأمة، فالتعريفات بالأمة التي تتقدم بها النظريات «الموضوعية» قد تنسحب على القبيلة أو العشيرة أو الإتنية، وعلى العديد من المتحدات الاجتماعية التي تعالجها مناهج السوسيولوجيا والانتروبولوجيا والجغرافيا، فضلا ًعن أن كل رابط من الروابط الجامعة لدى أفراد الأمة في هذه النظريات يبقى عرضة للأخذ والرد بما يؤدي الى الخلافات التي تمتلئ بها الأدبيات السياسية ذات الصلة بالأمة والقومية.

وفي النظريات «الذاتية» تبدو الإرادة الجامعة لأفراد الأمة وكأنها من دون أساس فعلي وواضح، وفي حال الشروع في الكشف عن مقومات هذه الإرادة، فلا بد اذّاك من أن يقع الخلاف المشهود في النظريات «الموضوعية»، ثم إن النظريات «الذاتية» تعتبر الأمة واقعاً اجتماعياً في غاية الهشاشة لأنه بحاجة الى ذاك الاستفتاء اليومي للإبقاء عليه، مما يعني أنه واقع اجتماعي معرّض للعودة عنه لسبب أو لأخر بما يؤدي إلى تقويضه وانهائه كما لو أن وجود الامة ليس سوى وجود عابر في حياة الفرد والجماعة.

موقع الدولة من تحديد الأمة

إن صياغة مجمل التعريفات الواردة أعلاه، لم تتطرق على نحو مباشر إلى موقع الدولة من الأمة، غير أنها تستبطنها حكماً لأن كل واحدة منها ترمي إلى تحقيق مشروع سياسي جلي محدد وخاص بكل جماعة من الجماعات البشرية التي تتبنى هذا التعريف أو ذاك من التعريفات «الموضوعية» أو «الذاتية».

والحال لقد تكاثرت الدراسات والمناظرات حول الأمة والقومية على مدى القرنين الماضيين، واجتهد مفكرون وناشطون كثر، يحاولون استخراج مختلف الدلالات والمعاني منهما أو صياغة القوانين المعرفية والمنهجية الضابطة لكليهما، علّهم يتمكنون من التوصل إلى ما يشبه التعميم العلمي بشأن الأمة ولازمتها القومية في العصر الحديث. غير أن الحصاد لم يكن ليرتقي الى المستوى الوضعي التقعيدي )nomothétique)، ولا الى المستوى البنيوي التنميطي (systémique(أي مستوى القوانين العلمية كالتي تتميز بها العلوم الصلبة مثل الفيزياء أو الكيمياء…

ذلك أن الامم بما هي موضوع للدراسة، تبقى في الواقع من الحالات المفردة (spécifique ,idiographique، بمعنى أن كل جماعة من الجماعات البشرية على اختلاف خصائصها، وتاريخها وجغرافيتها مرشحة لأن تكون أمة، إذا تمكن أفرادها من تحقيق أو أرادوا تحقيق دولة يثقون بها ويجمعون على أنها تمثل وجدانهم وشخصيتهم الاجتماعية السياسية، وعليه فإن خصائص الأمة عير قابلة للتكرار، وبالتالي غير قابلة للانسحاب على أمم أُخرى.

 صحيح أننا نعيش في مرحلة تاريخية يؤدي فيها نموذج الدولة – الأمة دوراً محورياً، على الرغم مما يتعرض له من اشكالات على مختلف المستويات، إلا أنه ليس من خصائص ثقافية، لغوية، دينية، تاريخية، جغرافية… تتيح تحديد الأمة أو تعريفها على نحو علمي تعميمي يحظى بالإجماع كما في العلوم الصلبة.

وعليه فإذا كان لا بد من تعريف للأمة، في الواقع السياسي المعاصر، فإن التعريف الممكن يبقى وقفاً على استخدامه كمنطلق منهجي للبحث في مسألة الأمة وما

أنطون سعادة

يتعلق بها من مفاهيم أُخرى مثل القومية والدولة والوطن، وهو تعريف تنبني صياغته في المرحلة التاريخية الراهنة على اساس جيوبوليتيكي، وذلك وفق المقولة الآتية: الأمة هي الجماعة التي تنتج أو تحمل مشروع إنتاج دولة متماهية معها على أرض محددة متماهية هي الأُخرى مع الجماعة والدولة في آن.

يعني ذلك، أن الجماعة تبقى إذن مشروع أمة، حتى تتمكن من إقامة دولتها، على أرض محددة، إذاك تتحول الجماعة من أمة بالقوة كما كان يقول الفلاسفة القدماء الى أمة بالفعل، أو من أمة مفترضة إلى أمة متحققة في الواقع الجغرافي السياسي، كبرت الجماعة أو صغرت، اتسعت رقعة الأرض أو ضاقت، وكيفما كانت خصائص هذه الجماعة أو خصائص أراضيها الطبيعية أو الجغرافية العامة.

وعليه، لا تكتمل مواصفات الأمة الحية إلا متى تمكنت بإرادة أبنائها من بناء دولتها على أرض محددة، تغدو اذاك أرضاً قومية لتشكل القاعدة الجغرافية للوطن السيد الحر والمستقل.

ملاحظة ختامية

شهد العالم العربي أحزاباً وحركات قومية وحدوية متعددة المقاييس (إسلامية، عربية وسورية) وأخرى انفصالية (كردية، امازيغية…) اشتبكت فيما بينها وتحاججت حول الأمة والقومية على مدى عقود طويلة، غير أن السمة الأساسية لما تمظهر في هذا الإطار تمثّل بالتركيز على التفاضل بشأن حجم الاراضي المعنية بالدعوة إلى هذه الوحدة أو تلك (أو انفصال هذه الاراضي أو تلك)، إلى درجة التخلي عن البحث في الوسائل والسبل الواجب اعتمادها لبناء الدولة المعبرة عن إرادة ومصلحة الجماعات المعنية بالدعاوات القومية. كما لو أن الهدف الأوحد هو الوحدة أو الانفصال على أن يأتي لاحقاً الاهتمام ببنية الدولة وشكلها. (يستثنى في هذا الإطار انطون سعادة وذلك بناء على شواهد عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر هجومه العنيف على وحدة الهلال الخصيب بصيغته الهاشمية، أو رفضه المساومة على فصل الدين عن الدولة الموعودة… وغيرها مما لا مجال هنا للبحث فيها).

—————————————————

هامش: استند هذا المقال، بشكل رئيسي، إلى كتاب: جدلية الجغرافيا والسياسة، من راتزل وفيدال دو لابلاش إلى أنطون سعادة وجمال حمدان، الصادر عن دار الفرات للنشر والتوزيع في العام 2019، للكاتب نفسه، الدكتور معين حداد.

—————————————————-

تنويه: تم نشر هذا المقال باتفاق خاص بين سيرجيل والكاتب، وهو منشور أيضاً في جريدة الديار اللبنانيّة.

الدكتور معين حداد

أستاذ جامعي ومفكر في حقل الجيوبوليتيك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق