إذا كُنّا نَعيشُ بَعيداً عَن سورية، فإنَّ نَكهة قَهوَتِها العربيَّة الأصيلة، ما تزال تعبق في أمسياتنا المُضَمَّخَةِ بِأحزانِنا وَبِقصصها وَمآثِرِ روادِها وَأبطالِها، السَّرمديَّة وَنحنُ ما نزالُ قادرين عَلى البَحثِ فيها، وَإعادة تِلاوتها على مسامع التّاريخ.. وَضمائر السّوريين.
في الساّعة الثّامنة والنّصف من مساء يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثّاني سنة 1987، ومن على إحدى تلال وادي البقاع اللّبناني، وبعد تأدية تحية الفدائيين لقيادتهم، انطلق أربعة فرسان عرب (اثنان من فلسطين، وواحد من تونس، والأخير من سورية) على متن طائرات شراعيّة، وقد امتطوا صهوة ريح بوصلتها فلسطين المحتلة، ومحرّكها الواجب والعمل الفدائي.. فكانت عمليّة “قبية” التي ذاع صيتها في صباح اليوم التّالي، وكأنّها الأيقونة المفقودة على صدر أمّة كانت جراحها مفتوحة، وهي مازالت كذلك إلى يومنا هذا، لا بل إنها تقيحت وبدأت تتقيأ الألم نزفاً لا ينتهي.
حكاية الأبطال الأربعة، والّذين من باب المفارقة التّاريخيّة المدهشة، لم ينجح منهم في بلوغ الهدف وتنفيذ العمليّة كما كان مخططاً لها، إلّا الفدائي السّوري خالد أكر، والذي تمكن من الفتك بستَّة مسلحين صهاينة (مما يعرف بالقوات الخاصّة) في نقطة الهدف. حكاية لم تبدأ هناك في قبية ولكنّها كانت قد تم رسمها أيضاً في الجمهوريّة العربيّة السّوريّة، وعلى يد أبطال الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامة.
لم يكن خالد محمد أكر ابن مدينة حلب وحده السّوري بطلاً للعمليّة، ولكن الأهم ربّما كان هو العقل المُدبّر، والقلب المدرب للفدائيين، المهندس السّوري مروان لوستان.
فمن هو مروان لوستان، وما هي انجازاته المسجّلة في الذّاكرة السّوريّة؟!
لوستان مهندس وضابط سوري من مواليد 1935 درس هندسة الطيران في بولونيا (بولندا) وعرف عنه نزعته للابتكار والاختراع، وكان قد عمل لفترات على تطوير أفكار لطائرات في مشغلين أحدهما في مدينة جرمانا والآخر في حي القابون في العاصمة السّوريّة دمشق. وكانت أولى محطّات نبوغه وتفوقه في خمسينات القرن الماضي، عندما فاز ببطولة الألعاب الجويّة واستلم كأسها من الرئيس السّوري شكري القوتلي آنذاك.

إنَّ أهمَّ ما في موهبة الإنسان والمواطن ليست هي بحد ذاتها، بقدر ما هو استثمارها على الصّعيد الإنساني والوطني، وهذا ربّما أكثر ما يهمنا في مسيرة لوستان، وهو بالتّأكيد أهم ما يعبر عن شخصيته. فهو كان قد قدّم بنفسه للراحل أحمد جبريل مؤسس وقائد الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامة، سنة 1980 أي قبل سبع سنوات من عمليّة قبية الفدائيّة، مقترحاً لاستخدام تقنية الطّيران الشّراعي في تنفيذ عمليات مقاوِمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما نقلته قيادة الجبهة للرئيس السّوري الراحل حافظ الأسد، حيث تبنّت القيادة السّورية المقترح، وبالفعل بدأت على إعداده وتجهيز المستلزمات اللّوجستيّة والبشريّة، حيث تم شراء المعدّات، ومن ثمَّ ابتُكر سيناريو تدريب “عمال سوريين من نقابات العمال، على الطيران الشراعي ضمن أنشطة اتحاد العمال” وتم اصدار جوازات سفر سوريّة لكلِّ المقاومين العرب الذين انخرطوا في التَّدريب على العمليّة، التي كان ختامها تدريب وإشراف المهندس مروان لوستان على تفاصيلها النّهائيّة، وأسلوب تنفيذها.
فهل كان ذلك كل ما نعرِفُه عن لوستان؟! الجواب بالطَّبع لا، لا بل إنَّ الأهم والأكثر دسامة في قِصَّته المُلهِمَة، كان قد تحقَّق قبل ذلك بعقد ونيِّف، عندما عَمِلَ على تصميم جسور العبور الّتي عبرَتْ عليها الدّبابات السّوريَّة الخندق الذي كان مركز خط ألون في الجولان السَّوري، بداية حرب تشرين عام 1973 وحتّى أنَّ تلك الجسور سميت بـ “جسور لوستان” واستحقَّ البطل السّوري “وسام الاستحقاق من الدّرجة المُمتازة” الذي قدَّمته له الرئاسة السّوريّة آنذاك. فهل انتهى الدّور التّاريخي للوستان عند هذه النقطة؟! الجواب مجدداً، وبالطَّبع لا، فهو كان أيضاً مَن صمم الجسور العائمة على الضَّفة الأخرى من حرب 73 في مصر، حيث عبرت قوات الجيشين المصريين الثّاني والثّالث قناة السّويس واقتحمت خط بارليف، ودخلت الأراضي العربيّة في سيناء، بلمسات من مهندس سوري عبقريٍّ، استحقَّ عليها أيضاً “وسام الجمهوريّة المصريّة” الذي منحه إياه الرّئيس المصري أنور السّادات.
إنَّ من يعرف الراحل لوستان (رحل عام 2012) ويعرف عائلته، يمكنه أن يفهم تلك التّركيبة الثّقافيّة الوطنيّة وَالإنسانيّة الّتي حملها، أو عاش فيها وبسببها مُلتزِماً ومؤثِّراً وبطلاً بكل معاني الكلمة. فما قام به على مر سنين حياته هو نهج يُمكِن بسهولة تتبعه في عائلته التي تنبض بذلك حتى اليوم.. لقد اختتم لوستان حياته أيضاٍ بملحمة من الصّبر والمُكابرة على الشّلل استمرّت لسنوات طويلة قبل رحيله الحزين (تعرض لحادث أقعده منذ العام 1998). ولكنَّنا وَحَتّى نختم هذا المقال بشكل صحيح، لا بد لنا من التنويه بأنَّ عنوان المقال ليس دقيقاً تماماً، فالذّاكرة السّوريّة ليست حيَّة بالضَّبط، وهي تتعرض للاستباحة أو التّشويه، ولا يُمكن الحفاظ عليها إلّا إذا كان السّوريون أنفسهم سيقومون بحمايتها وإعادة إحيائها، خاصّة في مواجهة السّرديَّة القهريّة التي تَتِمُّ محاولة فرضها اليوم.