كان العراق، في عصوره الزاهرة، قاعدة العالم القديم كله، وكانت بغداد العاصمة الأكثر بهاء بين مدن الحضارة الإنسانية جمعاء. وأرض العراق هي أرض القداسة والأنبياء القدامى، إنها بلاد السومريين وحمورابي وسرغون وغلغامش وأساطير الخصب الجميلة وديانات الأسرار، إنها منبت الصابئة والكلدان وقصص ألف ليلة وليلة وعجائب بلاد الرافدين وغابات النخيل وحكايات العشق الذي يفور في العيون اللاهبة.
بغداد اليوم هي قلب العالم النازف الذي أدمته الهمجية الأميركية المدرعة. وهذه الحاضرة لم تكن يوماً مدينة من فولاذ وإسمنت وشرطة وعساكر، إنما هي مدينة الشعراء والزوراء والكرخ والرصافة وأسواق العطارين وتوابل زنجبار وبخور الهند وحكايات السندباد ونسائم الليالي المقمرة على ضفاف دجلة. إنها أور الكلدان والجنائن المعلّقة في بابل وأوابد نينوى ومراقد الأئمة ومشاهد الصحابة والخلفاء وتراب النجف وكرباء والكوفة والبصرة والموصل. ولهذا أرادوا أن يدمروا هذا البهاء كله مرة واحدة، وإنني لأخشى أن ينوح جواد سليم كثيراً على نُصُب الحرية في ساحة الحرية في قلب بغداد الدامية.
***
لم يكن بين العراق والشام، في أيّ عصر من عصور التاريخ، حدود وحواجز البتة. كانت الحدود مجرد علامات مؤقتة في حقبة سياسية نافرة. أما صُنّاع الحضارة في هذه البقعة العظمية فكانوا ينسجون حياتهم في بيئة واحدة ذات تنوع وتعدد وائتلاف. وما اسم سورية إلا اللفظ المشتق من “أشوريا” والسريان الذين أعطوا هذه البلاد اسمها، أو ربما أخذوا اسمهم منها، هم، أولاً وأخيراً، أصحاب اللسان الأرامي الغربي، بينما أشقاؤهم في بلاد ما بين النهرين، كانوا على اللسان الآرامي الشرقي.
ولا ريب عندي في أنّ حضارة واحدة كانت تلفّ هذه المنطقة بأكملها في بلاد ما بين النهرين والجزيرة الفراتية في شمال سورية اليوم، إلى ذلك السهل العظيم الممتد من أعالي حلب حتى ما بعد أريحا جنوباً. وهذه البيئة المتعددة والمتحدة معاً، تمازجت فيها شعوب وخصوصيات كثيرة، فتنوعت بتنوع الجغرافيا فكانت فيها البيئة الساحلية والبيئة الجبلية والبيئة السهلية، فضلاً عن البادية والتخوم المشتركة، وأنتجت شعباً واحداً متعدد الأصول وحضارة واحدة متنوعة ومصالح متشابكة.
لنتذكر كم أثرت أساطير الرافدين المدهشة في تكوين الديانات السورية القديمة. حتى اليهود، وهم أقوام رعوية عاشت على أطراف الحضارة ولم تسهم في أيّ حضارة، انتحلوا أساطير التكوين الجميلة ثم نسبوها إلى أنبيائهم، فسفر التكوين التوراتي هو نفسه أحد فصول ملحمة غلغامش، وسفر الشريعة منحول من قوانين حمورابي، وقصة الطوفان في العهد القديم هي الحكاية الأكثر شيوعاً في حضارة العراق القديم والواردة، بالتفصيل، في ملحمة غلغامش أيضاً. لنتذكر أن عبادات الخصب المقدسة في بلاد ما بين النهرين هي التي مهدت لظهور المسيحية في سورية، فالصابئة المغتسلة المندائية هي أم المسيحية، ويوحنا المعمدان نبي المسيحية المبجّل هو نبي صابئي بامتياز، ومجوس العراق هم الذين أعلنوا للعالم كله بشارة الولادة العظيمة في بيت لحم.
دمشق وبغداد والبحر
لم تكن بين فلسطين والشام والعراق حدود حقيقية قط، كانت الحدود مجرد علامات سياسية متبدلة باستمرار بتبدل الدول والإمارات. والعراق الحديث الذي نشأ في سنة 1921 جراء اتفاقية سايكس-بيكو ليس هو “أوروك” القديمة ولم تتطابق حدوده السياسية مع حدوده الحضارية، تماماً مثلما أن الدولة السورية الحديثة ليست هي سورية القديمة أبداً. وفي هذه البقعة الآرامية بشقيها الشرقي (العراق) والغربي (سورية) نشأت مدينتان كان لهما، على التوالي، شأن كبير في حضارة العالم القديم، إنهما دمشق وبغداد. كانت دمشق حاضرة بلاد الشام وعقدة التجارة في شرقي المتوسط كله. وكانت فتحتها البحرية تمتد من غزة جنوباً إلى الإسكندرون في الشمال. لهذا أرادوا تحطيمها في سنة 1916، فاقتطعوا منها فلسطين وساحلها للصهيونية، والإسكندرون لتركيا، ثم اقتطعوا ساحل لبنان وجواره كدولة طائفية، ولم يبقَ لدمشق إلا شريط ساحلي قصير فقط يمتد من شمالي طرابلس إلى رأس البسيط. واليوم يريدون تحطيم العراق مجدداً، فيعيدون تفصيله على إثنيات وقوميات وطوائف شتى، بعدما تمكنوا من عزله في سنة 1921 فصاعداً عندما جعلوا بينه وبين فلسطين، أي بينه وبين البحرالمتوسط، عازلاً جغرافياً هو الأردن الذي كان في الوقت نفسه، عازلاً بين الشام والحجاز. لقد أرادوا خنق نداء السندباد في العراق فأقفلوا البحر عليه من الشرق بالكويت، ومن الغرب بالأردن، ليجعلوا منه، مثل سورية تقريباً دولة شبه مقفلة شبه برية لا منفذ لها على البحار قط.
الجغرافيا البشرية والسياسية
غير أنّ الجغرافيا والجغرافيا البشرية أقوى من الإرادات السياسية المتعاكسة في كثير من الأحيان. ففي الوقت الذي كانت فيه الخطط متحفّزة لتهميش دمشق وبغداد، كانت حلب تعيد إحياء خطوط التاريخ ووصلها، فهذا الطريق الممتد من حلب إلى الموصل فبغداد والبصرة، طالما نشأت عند محطاته أواصر قوية من العلاقات البشرية والحضارية الراسخة. ولم تتمكن الحدود السياسية، ولا مرة، من أن ترسم حقاً حدوداً بشرية بين مدينة البوكمال السورية، أو بين دير الزور والرقة من هذا الجانب ومدينتي عانة وتكريت من الجهة المقابلة، أو بين عشائر الأنبار وعشائر جنوب سورية، فقد ظل الناس يتنقلون هنا وهناك بلا أيّ احترام لهذه الحدود الظالمة. وأبعد من هذا فقد انتشرت في ربوع الشام عائلات عراقية خالصة المنشأ، مثلما عاشت في العراق عائلات سورية ولبنانية وفلسطينية المنبت. ولم يكن من الغريب البتة أن يرتبط التاريخ السياسي المعاصر للعراق بالتاريخ السياسي للشام ارتباطاً وثيقاً جداً، فالجغرافيا السياسية واحدة، والمصير القومي واحد في نهاية المطاف.
أثر الشام في العراق
في تاريخنا القريب جرت عدة وقائع التهبت لها بغداد واضطربت حالها أيما اضطراب. ومهما يكن تفسير ما وقع، فالثابت هو أن ارتباط الشام بالعراق أمر لا جدال في عمقه ورسوخه. ففي سنة 1924 استقدمت إدارة المعارف التي كان يرأسها السيد ساطع الحصري (من حلب) كلاً من أنيس النصولي (لبنان)، عبدالله المشنوق (حماة)، درويش المقدادي (فلسطين) وجلال زريق (اللاذقية) للتدريس في دار المعلمين في بغداد. وفي سنة 1926 أصدر أنيس النصولي كتاباً بعنوان: “الدولة الأموية في بلاد الشام”. وقد أثار هذا الكتاب احتجاجات كثيرة في بعض الأوساط الشيعية، ولتهدئة الأمور عمدت السلطات إلى فصل أنيس النصولي من عمله ومنعته من التدريس. وهنا بادر رفاقه المدرسين وعدد من طلابه إلى الاحتجاج على هذا القرار ودافعوا عن حقه في حرية التفكير، وساروا في تظاهرة إلى وزارة المعارف، فما كان من وزارة المعارف إلا أن فصلت عدداً من الطلاب بينهم حسين جميل وعبد القادر إسماعيل. وقامت لهذه الحادثة ضجة لم تبترد إلاّ بعد وقت طويل.
أما نادي المثنّى بن حارثة الشيباني الذي كان له شأن كبير في الحياة السياسية العراقية، ولا سيما في ثورة رشيد عالي الكيلاني وفي تأسيس حزب الاستقلال، فإن
من أبرز مؤسسي هذا النادي درويش المقدادي من فلسطين. وفي هذا السياق نتذكر أن الحاج أمين الحسيني كان أحد زعماء ثورة رشيد عالي الكيلاني في سنة 1941، بل اتهم بتدبيرها. بينما العقداء الأربعة الذين أُعدموا تباعاً، وهم صلاح الدين الصبّاغ وفهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود حسن سلمان، فقد خدموا جميعهم في الجيش السوري قبل أن يلتحقوا بالجيش العراقي (الفيصلي). وللعلم فإنّ صلاح الدين الصبّاغ المولود في الموصل هو لبناني من صيدا.
العمل السرّي بين لبنان والعراق
ارتبطت حركات الاستقلال الوطني في العراق والشام وفلسطين برباط وثيق من العمل المشترك في وجهيه السرّي والعلني. ولعل مجموعة “الحركة العربية” التي كان يرأسها الدكتور قسطنطين زريق تقدم لنا دليلاً قاطعاً على الجهد المشترك والمتضافر للحركات السياسية الاستقلالية في هذين الإقليمين، ما يشير إلى وحدة المصير السياسي والقومي في هذه البقعة الواحدة. ففي سنة 1929 التقى في جنيف فريد زين الدين (سوري من أصل لبناني) ودرويش المقدادي (فلسطيني) ونافع شبلي (سوري) وأسسوا جمعية سرية عُرفت باسم “جمعية التحرير العربية”، وضمّت هذه الجمعية عدداً من قادة الرأي والكفاح في سورية ولبنان أمثال كاظم الصلح وتقي الدين الصلح وعادل عسيران ومحمد علي حمادة وعلي بزّي (من لبنان) وشوقي الدندشي (من سورية) . وكان الدكتور قسطنطين زريق أسس في تلك الفترة مجموعة أخرى باسم “الحركة العربية” من بين أعضائها فؤاد مفرّج وشفيق جحا وحليم أبو عز الدين وغيرهم. ثم اندمجت هاتان المجموعتان تحت اسم جديد هو “المجموعة القومية العربية” أو “جماعة الكتاب الأحمر”. والكتاب الأحمر هو دستور هذه المجموعة الذي كتبه قسطنطين زريق بنفسه. وبادرت هذه المجموعة، بجهد متضافر من أعضائها، إلى تأسيس النوادي الثقافية والاجتماعية والرياضية كواجهات علنية لنشاطها السرّي، ومن هذه الواجهات نادي المثنّى في بغداد الذي أسس في سنة 1935، فضلاً عن النادي الثقافي العربي في حلب الذي أسسه ظافر الرفاعي، والنادي العربي في دمشق الذي أسسه في سنة 1937 سعيد فتّاح الإمام.
كان العراق، منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعداً، في منزلة “بروسيا العرب”، فقد تعلّقت آمال الوحدويين بهذا البلد الناهض، ولا سيما بعد اندحار مشروع الملك فيصل في ميسلون في سنة 1920، وبعد سقوط دمشق في قبضة الانتداب الفرنسي. فغادر الكثيرون من الأحرار بلدانهم والتحقوا بالملك فيصل في بغداد أمثال تحسين قدري وزكي الأرسوزي وسليمان العيسى وساطع الحصري من سورية، ورستم حيدر من لبنان، ودرويش المقدادي من فلسطين وغيرهم بالطبع. وأسس درويش المقدادي ويونس السبعاوي وسعيد الحاج ثابت وهما من الأعضاء السريين في “الحركة العربية” منظمة القومي العربي وكتائب الشباب في العراق وكان نائبه في رئاستها واصف كمال (من فلسطين). أما “جمعية الضباط” التي أسسها صلاح الدين الصبّاغ وفهمي سعيد في سنة 1934 في العراق فنشأت بتأثير مباشر من أفكار قسطنطين زريق، وكان أبرز أهدافها “تحرير فلسطين وسورية وتوحيد البلاد العربية في دولة قومية عصرية قومية كبرى”. وقد لعبت هذه الجمعية دوراً فاعلاً في تدريب المجاهدين الفلسطينين وتجهيزهم بالسلاح والعتاد وتشجيع المتطوعين العراقيين على الالتحاق بصفوف الجهاد في فلسطين.
وفي أرض فلسطين تثوي اليوم جثامين 244 عراقياً سقطوا في حرب سنة 1948 بينهم 199 شهيداً من الجيش العراقي و45 شهيداً من الذين تطوعوا في
جيش الإنقاذ الذي كان يقوده فوزي القاوقجي. وفوق ذلك فإن حزب الاستقلال في العراق الذي أسسه كل من صدّيق شنشل ورستم حيدر وفائق السامرائي وإبراهيم الراوي ومحمد مهدي كبة هو بذرة شامية نافعة بذّرها قسطنطين زريق وأينعت في أرض العراق. وهؤلاء المؤسسون كانوا أعضاء في نادي المثنّى بن حارثة الشيباني وهو إحدى الواجهات العلنية لمنظمة “الحركة العربية” السرّية في بيروت. وللعلم، فإن هؤلاء الحركيين هم الذين خاضوا معارك ثورة أيار 1941 ضد الاحتلال الإنكليزي، وكان منهم ثلاثة وزراء من أصل تسعة في حكومة رشيد عالي الكيلاني. وبعد فشل الثورة أعدمت السلطات العراقية الموالية للانتداب البريطاني رئيس الحركة يونس السبعاوي والعقداء الأربعة وبضعة حركيين آخرين.
قصدتُ، من رواية هذه الوقائع، البرهان عن أن الحركة السياسية في الشام والعراق كانت متحدة ومتشابكة بأواصر شديدة الإحكام، وهذا ناجم، على الأرجح، عن وعي تام بوحدة المصير بين هذين البلدين، وعن الإدراك بأن وحدة المصير القومي ليست إلا التعبير الآخر عن وحدة الشعب، أكانت هذه الوحدة مستندة إلى وحدة الحياة في البيئة الواحدة، أم إلى المصالح المشتركة، أم إلى الجدور العائلية والمنشأ التاريخي.
عراقيون في لبنان
بين الشام والعراق تاريخ من الحراك البشري الذي لم يتوقف أبداً منذ عهد السومريين الأوائل، فقد كان نداء البحر يدفع سكان العراق إلى الارتحال غرباً. وكان البحر المتوسط يغري أحفاد سرغون بأن يغسلوا أقدامهم في مائه. ومثلما أستوطنت عائلات كثيرة من لبنان وسورية في العراق، ولا سيما في بغداد والنجف وكربلاء، فإن عائلات لبنانية كثيرة جداً هي من أصول عراقية خالصة. فالجد الأول للأسر التنورية الأولى التي قطنت بلدة تنورين في شمالي لبنان أمثال عائلات حرب ويونس وطربيه وداغر ويعقوب، يدعى خطّار، وقد جاء من بلاد ما بين النهرين إلى مدينة حلب، ثم انتقل إلى دمشق ومنها إلى يانوح فتنورين. حتى أنّ جبران خليل جبران هو من عائلة كلدانية عراقية تدعى جبرون. وهذه العائلة ارتحلت إلى الشام وغيّرت اسمها إلى جبران. والمؤرخ الكبير فيليب دي طرّازي يتحدر من عائلة موصلية هاجرت أولاً إلى حلب ثم نزل بعض أفرادها في بيروت. ومثله ميشال شيحا الذي جاءت عائلته بالأمس من العراق. ومن الصعب الإحاطة بالعائلات اللبنانية ذات الأصول العراقية لكثرتها، لكن يمكن أن نسرد بعضاً منها للدلالة فقط أمثال عائلة وحيد في جنوب لبنان ومنها الوزير السابق رضا وحيد، وآل الوادي في طرابلس وهم من عشائر الجبور في العراق ومنها جاء القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني محمود الواوي، وآل الهندي في زحلة أصلهم من العراق، وكذلك آل بزون في الجنوب ومنهم الكاتب والناقد أحمد بزون، وآل باخوس الآشوريون العراقيون ومنهم النائب اللبناني السابق أوغست باخوس، وآل حطيط من العمارة، وآل الحسنية في الشوف أصلهم من كربلاء، وآل حلاوي في صور والشوف من الحلّة، والحوماني من البصرة، وخزام من ديالي، وخزعل من الديوانية، وخفاجة من المنتفق، ورعيدي من بغداد، والرميثي من السماوة، ونعمان من شط العرب ومنهم الوزير السابق عصام نعمان، ومونس من إحدى جهات العراق ومنهم الأب يوسف مؤنس، ومرّوش من الديوانية، ومقلد من الموصل، والمنّي من بغداد ومن هذه العائلة الملحن نقولا المنّي، وطيبا من إحدى جهات العراق ومن هذه العائلة الفنان موسى طيبا. وتحّدرت من العراق عائلات أخرى كثيرة مثل: شهيّب وطبر وعبد الملك وعاصي وعضيمي والعقيلي وغريافي وقوصان وقبيسي وفيّاض وفليفل (ومن هذه العائلة الأخوين فليفل) وفخري وغيّاض وسابيلا وزوين وروضة (ومنها الفنانة معزز روضة) والدويهي ومغامس (ومنها الأديب جورج مغامس) وغير ذلك الكثير جداً من الأسر والعائلات.
***
في سنة 1921 أسس الملك فيصل الأول كياناً عراقياً واعداً قام على ركنين: الجيش والبرلمان. وفي سنة 1958 أطاح عبد الكريم قاسم البرلمان في انقلابه المشهور. وفي عهد الاحتلال الأميركي – البريطاني الذي بدأ في سنة 2003 يُخشى من تدمير الجيش العراقي تدميراً نهائياً وتحويله إلى مجرد قوات مسلحة لحفظ النظام العام. تدمير الجيش العراقي كان دائماً هدفاً اسرائيلياً بامتياز، لأن هذا الأمر يضمن لإسرائيل مزيداً من التفوق على الجوار العربي، أي على سورية بالتحديد، ويسهم أيضاً في تدهور القيمة الاستراتيجية للمنطقة العربية برمتها، ويشرّع أبواب العراق وشبابيكه لرياح الصراعات القومية والأثنية والطائفية. وفي ما يتجاوز مطالب الأكراد أو التركمان أو الشيعة أو اليزيدية، هذه المطالب التي تضطرم بالنار في العراق اليوم، فإن ما يحتاج إليه العراق بإلحاج ليس تلبية مطالب ورغبات على هذا القياس أو ذاك، مع اعترافنا بمشروعية بعضها، بل الانصراف إلى تأسيس حكم قوي لضبط الصراعات الهائلة المحتدمة فيه. وهذا الحكم يجب أن يستند إلى مؤسسات الدولة الديمقراطية وإلى العدالة، لا إلى الاستبداد والإلغاء. ومن غير حكم قوي في العراق يقوم على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، فإن العراق معرّض للتهتك ولنشوب حروب إثنية وطائفية كثيرة فيه. والطراز الأرقى لهذا الحكم ليس الفيدرالية بالتأكيد، بل النظام الدستوري الديمقراطي العلماني الذي يكون العقد الاجتماعي فيه بين الدولة ومواطنيها الأحرار المتساوين في جميع الحقوق والواجبات. وهذه الدولة تحترم، بقوة الدستور والقوانين، ثقافة جميع الأقليات، وتسعى إلى تنمية الثقافات المتعددة وازدهارها.
إن عدم الانخراط في مثل هذا الحل الدستوري الديمقراطي العلماني يعني أنّ كل جماعة من جماعات العراق المختلفة ستبقى متوجسة حيال غيرها: الشيعة يريدون حصتهم في السلطة، والسنّة يخافون على حصتهم الموروثة، والأكراد يريدون إدارة شؤونهم من غير مشاركة أحد، والتركمان يريدون نصيبهم من نفط كركوك في الوقت الذي يمنحون ولائهم لتركيا… إلخ. وفي معمعان هذا الاضطراب الخطير هناك من يجهد لرهن العراق وثرواته لخمسين سنة مقبلة، ويعمل على تأسيس “أونروا” جديدة للشعب العراقي.
***
المراجع
- فؤاد حسين الوكيل، “جماعة الأهالي في العراق”، بغداد: وزارة الثقافة، 1980
- عبد الأمير هادي العكام، “تاريخ حزب الاستقلال العراقي”، بغداد: وزارة الثقافة، 1980
- أنيس صايغ، “الدكتور قسطنطين زريق: الإنسان” في: “قسطنطين زريق: 65 عاماً من العطاء”، بيروت:د.ن.،1996.
- صقر أبو فخر، “ثلاثة رجال يتذكرون”، السفير، 17/11/2000.
- صقر أبو فخر، “قسطنطين زريق: لمحات من التاريخ السرّي لنضاله في لبنان وفلسطين والعراق”، مجلة “الطريق”، العدد 4، تموز-آب 2001.
—————————————————————————–
تنويه: مصدر المقال: مجلة فكر – العدد 80 كانون الثاني – أيار 2003