مسار جلجامش

“الفرهود” وتهجير اليهود العراقيين

قراءة جديدة في الخلفيات!

شغلتْ قضيّةُ تهجير اليهود العراقيّين إلى الكيان الصهيونيّ، وعلاقتُها بما عُرف بأحداث “الفرهود“[1] التي تعرّض لها اليهودُ في بغداد في حزيران (يونيو) 1941، حيّزًا كبيرًا من الجدل والحوار السياسيّ والفكريّ لسنواتٍ عديدةٍ مضت. ولكنّها حظيتْ بأهمّيّةٍ متجدّدةٍ في ضوءِ ما كُشف النقابُ عنه أخيرًا من حقائقَ وأسرارٍ قديمةٍ وجديدة.

المعلوم أنّ تلك الأحداثَ المؤسفة والمدانة وقعتْ في تلك السنة ردَّ فعلٍ على سحق قوّات الاحتلال البريطانيّة للانقلاب العسكريّ الذي قاده السياسي رشيد عالي الكيلاني ورفاقُه العقداءُ الأربعة، الذين أُعدِموا بعد سنواتٍ قليلة، وبعد احتلال البريطانيّين لبغداد للمرّة الثانية من أجل إعادة الحكم الملكيّ الهاشميّ. وثمّة مصادرُ كثيرةٌ – منها إسرائيليّة – تتحدّث عن دور المنظّمة الصهيونيّة العالميّة، وسليلِها لاحقًا جهاز الموساد، في العمليّات الإرهابيّة التي استهدفت اليهودَ العراقيّين، بهدف دفعهم إلى الهجرة الجماعيّة إلى فلسطين المحتلّة. فقد قام عملاءُ الصهاينة بزرع القنابل في محلّات اليهود وكُنُسِهم وأماكنِ وجودهم، وأحدثوا حالةً من الرعب والاضطراب. وقد سهَّلت السلطاتُ الملكيّةُ الهاشميّة الحاكمة في العراق قطفَ ثمار هذه العمليّات التخريبيّة بالموافقة الفوريّة على طلبات الهجرة، بحيث وُضع يهودُ العراق أمام خيارٍ واحد، هو الهجرةُ إلى الكيان الصهيونيّ وإسقاطُ جنسيّتهم العراقيّة!

من جديدِ هذه المصادرِ الإسرائيليّة كتابٌ بعنوان: عالمٌ بأكمله: قصّةُ رجل موساد، من تأليف الكاتب الصهيونيّ نحيك نفوت، نائبِ رئيسِ الموساد الأسبق. في هذا الكتاب معلوماتٌ كثيرةٌ عن دور الأحزاب الكرديّة العراقيّة في تهجير يهودِ العراق إلى الكيانِ الصهيونيّ أواخرَ ستينيّات القرن الماضي.[2] يكتب نفوت: “لقد زوَّدْنا أصدقاءَنا الأكرد بعناوينِ العائلات اليهوديّة في بغداد ومدنٍ عراقيّةٍ أخرى، حيث وصل الأكرادُ لهذه العائلات وأبلغوها بضرورة الاستعداد للمغادرة.” ويُكمل قائلًا إنّ الأكراد قاموا “بنقل العائلات اليهوديّة في جِيبات [سيّارات جِيب] إلى الحدود العراقيّة-الإيرانيّة، ومن ثمّ إلى داخل إيران، ومنها إلى إسرائيل.”[3]

كما أشار نفوت إلى دوره شخصيًّا في “تعزيز العلاقات الأمنيّة والاستخباريّة والاقتصاديّة بين إسرائيل وإيران تحت حكم الشاه.”

***

أمّا الباحث في جامعة أكسفورد د. عباس شبلاق، فيذهب في كتابه، هجرة أمْ تهجير: ظروفُ وملابساتُ هجرة يهود العراق، إلى درجة القول بوجود تنسيقٍ بين الحكومة الملكيّة العراقية والكيانِ الصهيونيّ بهذا الخصوص. فهو يكتب مثلًا:

“حدث تطوّران كان لهما تأثيرٌ عميقٌ في التشجيع على حدوث هجرةٍ جماعيّةٍ لليهود العراقيّين: أوّلُهما، في 7 أيار – مايو 1950، حين عُقدت اتفاقيّةٌ لنقل اليهود بين توفيق السويدي، رئيسِ الحكومةِ العراقيّة آنذاك، وبين شلومو هليل، المبعوثِ الإسرائيليّ وأحدِ عملاء جهاز الموساد، وُضعتْ بموجبها عمليّةُ إجلاء اليهود في أيدي السلطات الإسرائيليّة؛ ثانيهما، بدأتْ سلسلةٌ من التفجيرات استهدفتْ أماكنَ يهوديّةً عامّةً في الوقت نفسِه الذي كان هليل يفاوض في بغداد بشأن صفقةِ إجلائهم. وأعلنت الحكومةُ العراقيّة في 26 يونيو 1951 عن اكتشاف خليّةِ تجسّسٍ في بغداد يديرها أجنبيّان ألقي القبضُ عليهما، وهما يهودا تاجر، ومواطنٌ بريطانيّ يدعى روبرت رودني كان عميلًا للموساد. وقد حقّقتْ تلك التفجيراتُ الغرضَ الذي توخّاه مَن كان وراءها. فبعد أوّل اعتداءٍ بالقنابل، أخذ الآلافُ من اليهود يصطفّون أمام مكاتب التسجيل للهجرة. وفي 5 يونيو 1951 وصل كلُّ أولئك الذين سُجّلوا، وعددُهم 105000 نسمة إلى إسرائيل. وبحسب الإحصاءات الإسرائيليّة، فإنّ 124646 يهوديًّا من مواليد العراق قدِموا خلال الفترة منذ تاريخ إقامة إسرائيل في 15 مايو 1948 وأواخر سنة 1953.”[4]

أمّا الكاتبة الإسرائيليّة والأستاذة في جامعة نيويورك إيلا شوحَط، فقد تساءلتْ في دراسةٍ مطوّلة: “حتى لو أنّ أعدادًا متزايدةً من اليهود في بلدانٍ كالعراق عبّرتْ عن رغبتها بالذهاب إلى إسرائيل، فإنّ السؤالَ هو: لماذا، وبشكلٍ مفاجئ، وبعد ألف عامٍ من غياب مثلِ هذه الرغبة، يريد هؤلاء تركَ حيواتِهم في العراق والمغادرةَ بين عشيّةٍ وضُحاها؟”[5] وتضع شوحَط عدّةَ أسبابٍ لهجرة (أو تهجير) اليهود العراقيّين، يهمّنا أن نتوقّف عند التالية منها:

– الجهود التي بذلتْها الحركةُ الصهيونيّةُ السرّيّة في العراق.

– محاولات هذه الحركة “دقَّ إسفينٍ بين اليهود والمسلمين” في هذا البلد.

– اعتقال الشيوعيّين العراقيّين، وبينهم يهود، ممّن كانوا مناهضين للفكرة الصهيونيّة.

– الاتفاقات السرّيّة بين بعض القيادات الحكوميّة العراقيّة والإسرائيليّة على إجلاء اليهود إلى “إسرائيل.”

وتسجِّل شوحَط إدانتَها لمحاولات الصهاينة دمجَ “المسألة العربيّة-اليهوديّة بالمحرقة؛ ومثالٌ على ذلك الحملةُ التي أُطلقتْ لإدخال الفرهود ضمن برامج متحف المحرقة التذكاريّ في الولايات المتحدة.”[6] وتضيف أنّ إدانةَ العنف الذي مورِس ضدّ اليهود خلال الفرهود يجب ألّا يُستغلَّ “لمساواة العرب بالنازيّين، وتكريسِ السرديّة المزوّرة حول العداء الإسلاميّ الأبديّ للساميّة.” وتمضي شوحَط أبعدَ من ذلك، فتتّهم الخطابَ الأورومركزيّ بإسقاط تجربة إبادة اليهود في أوروبا على ما حدث في العراق، مسجّلةً “أنّه خلال أعمال الفرهود حمى بعضُ المسلمين جيرانَهم من اليهود،” وأنّ أقلّيّةً من اليهود بقيتْ رغم الفرهود وبعد التهجير الجماعيّ في وطنهم العراق.

ومن أسباب بقاءِ هؤلاء، في رأي شوحَط، “أنّهم اعتبروا أنفسَهم عراقيّين أوّلًا وأساسًا، و/أو لأنّهم اعتقدوا بأنّ هذه عاصفةٌ ستمرّ، و/أو لأنّهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم.”[7] وكمثالٍ على ذلك، تذْكر شوحَط عائلةَ كبير حاخاماتِ اليهود العراقيّين، الحاخام ساسون خضوري، إذ إنّ “أكثرَ أبنائه هاجروا إلى إسرائيل، فيما بقي بعضُهم الآخر في العراق،” وفي مقدّمتهم الحاخام خضوري نفسُه وابنُه شاؤول حتى وفاة الأوّل ببغداد سنة 1971. وقد أصدر الابن، حين هاجر إلى لندن سنة 1999، السيرةَ الذاتيّةَ لوالده الراحل، وفيها “فنّد بشدةٍ الصورةَ السلبيّةَ التي أُلصقتْ بالحاخام الذي طعنت السرديةُ الصهيونيّةُ بسمعته.” الكتاب، وعنوانُه راعٍ ورعيّتُه، نشرتْه في القدس هيئةُ الأكاديميّين اليهود من العراق. ومؤلّفُه يناقش، “بحرارةٍ شديدةٍ،” أنّ الحاخام كان، من دون أدنى شكّ، “زعيمًا كرّس حياتَه لأبناء طائفته،” وأنّه “خشيةً منه على مصلحة الطائفة، بل على وجودِها نفسِه،” آثر الدفاعَ عنها “وسط ضغوطٍ شديدةٍ وثمنٍ شخصيٍّ مرتفع…”[8]

مقارنةً بما كتبته شوحيط، تبدو محاولةُ الشيوعيّ العراقيّ “السابق” كاظم حبيب، لمقاربة حدث الفرهود المأساويّ وتحليله، غيرَ متوازنة، وسطحيّةً، ولا تخلو من تملّق الكيان الصهيونيّ ومؤسّساتِه الإعلاميّةِ والسياسيّة. ولهذا بادرتْ وزارةُ الخارجيّة الصهيونيّة إلى نشر فقراتٍ ضافيةٍ من دراسته، ضمن مقالةٍ إطرائيّةٍ بقلمه أيضًا، حول مذكّرات الأديب الإسرائيليّ من أصل عراقيّ شموئيل موريه، وذلك على موقعها الرسميّ بتاريخ 25 نيسان (أبريل) 2013، وما تزال المقالةُ منشورةً هناك حتى الآن.[9]

كما برَّأ حبيب أطرافًا أخرى من مسؤوليّةِ ما تعرّضَ له اليهودُ العراقيّون من قمعٍ وتهجيرٍ قسريّ؛ ومن هذه الأطراف الأحزابُ الكرديّةُ وزعاماتُها. والحقّ أنَّ عنوانَ دراسة حبيب يقول كلَّ شيء منذ البداية: فالعنوان “حركة شباط – مايس 1941 الانقلابيّة والفرهود ضدّ اليهود”[10] يَرْبط مباشرةً أحداثَ الفرهود المدانةَ بحركة أيّار 1941 العسكريّة التي قادها رشيد عالي الكيلاني ورفاقُه الأربعة ضدّ النفوذ البريطانيّ. وهذه تبرئةٌ مسبَّقةٌ، وغيرُ معلَّلة، لمصلحة الصهاينة وأطرافٍ أخرى، وتلطيخٌ لصفحة وطنيّين عراقيّين مناهضين للاحتلال البريطانيّ بتهمة النازيّة.

ثمّ ينتقل حبيب إلى أحداث الفرهود والأفعال الإجراميّة التي تخلّلتهْا، ويرصِّع ما كتبه بشهاداتٍ فرديّةٍ وغيرِ موثَّقة غالبًا بشكلٍ عمليٍّ ودقيق. ومن التفاصيل المهمّة التي يتوقّف عندها محاولةُ تفنيده لخروج مجموعاتٍ من اليهود في تظاهرة استقبالٍ وابتهاجٍ بعودة الوصيّ على العرش إلى الحكم بطائرةٍ بريطانيّةٍ حطّت في مطار “الوشاش” بعد القضاء على حكومة الكيلاني وانقلابِه؛ وهو ما قال بعضُ المؤرّخين والكتّاب – من بينهم طارق الناصري – إنّه استفزّ العراقيّين المؤيّدين للكيلاني والمناهضين للاحتلال البريطانيّ، فبدأ الاعتداءُ على اليهود. غير أنّ تفنيدَ حبيب ومَن نقل عنهم يفتقد إلى الرصانة. ومفادُ هذا التفنيد أنّ اليهود قد خرجوا احتفالًا بعيدهم، “عيدِ نزول التوراة عند اليهود، وليس لأغراض الاستفزاز والاحتفاء بعودة الوصيّ على العرش.” والمعلومة عن تصادُف عيد شفوعوت اليهوديّ مع هذه الأحداث صحيحة، ولكنْ هل يوجب الاحتفالُ بها الذهابَ الى المطار وإظهارَ البهجة في يومٍ اعتبره العراقيّون يومًا قاتماً وهزيمةً للاستقلاليّين أمام القوّات البريطانيّة التي أعادت الوصيَّ عبد الإله الى الحكم، واعتبروه بدايةَ مطاردة مناهضي بريطانيا، انتهاءً بإعدام العقداء الأربعة وفرارِ الكيلاني إلى المملكة السعوديّة لاجئًا؟

 ليس القصدُ من كلامي هنا تبريرَ أو تسويغَ حدثِ الفرهود في حدّ ذاته، وعمليّاتِ القتل المدانة ضدّ اليهود العراقيّين، حتى لو صحّ ما يُقال من خروج اليهود مبتهجين بعودة الوصيّ؛ فهذا التفصيل لا يبرِّر الجريمةَ التي حدثتْ.

ثمّ إنّ حبيب مرّ مرورَ الكرام على موقف القوات البريطانيّة في العراق من أحداث الفرهود، مقتبسًا معلوماتٍ شديدةَ الأهمّيّة عن كتّابٍ آخرين من دون أن يوليَ الموضوع أيَّ أهمّيّةٍ تحليليّة. فهو مثلًا يقتبس عن الدكتور داود سلمان قولَه إنّ القوّات البريطانيّة التزمتْ بتعليمات القائد العامُّ للقوّات المسلّحة للحلفاء، الجنرال ويغل، “ولذلك لم تحرِّكْ ساكنًا عندما حصل الاعتداء [الفرهود]، بل إنّها كانت سببًا في فسح المجال أمام العرب للاعتداء على اليهود.”[11] ويقتبس حبيب أيضًا عن الدكتور سلمان درويش معلومةً حول “محادثةٍ هاتفيّةٍ جرت بين ضابطٍ عراقيّ، وبين مُرافق السفير البريطانيّ كورنواليس، الكابتن المدعوّ هولت، الذي امتنع عن إيقاظ السفير وإبلاغِه بالمجزرة الجارية ضدّ اليهود في جانب الرصافة بقوله إنّ السفير يَعرف ما يجري من إطلاق نارٍ وسلبٍ ولكنّه يعتبر ذلك مسألةً داخليّةً لا يجوز للقوّات البريطانيّة التدخّلُ فيها.” ولكنّنا عبثًا نبحث عن أيّ تحليل أو وصفٍ أو إدانةٍ من حبيب لهذا الصنيع البريطانيّ المدان والتحريضيّ!

ومن ملفّ اليهود العراقيّين والمؤامرة الصهيونيّة التي حيكت ونُفّذتْ لتهجيرهم من وطنهم، ثمّة مقالةٌ مهمّةٌ نُشرتْ في موقع jewishrefugees  باللغة الإنكليزيّة بتاريخ 8 نيسان (أبريل) 2006. ومع أنّ هذه المقالة تخفِّف من مسؤوليّة الدولة الصهيونيّة بالقول إنّ الموساد وعملاءه لم يكونوا وحدهم مَن قام بتلك التفجيرات والعمليّات التي استهدفت اليهودَ بل شاركهم في ذلك عناصرُ إسلاميّةٌ عراقيّة، فإنّ المقالة تعترف ببعض الحقائق وتحتوي معلوماتٍ ثمينةً سنتوقّف عند أهمّها:

– تنقل المقالةُ عن وثائقَ بريطانيّةٍ صادرةٍ عن السفارة البريطانيّة في بغداد ما مفادُه “أنّ نشطاءَ الحركة الصهيونيّة أرادوا تسليطَ الضوء على الخطر المُحْدق بيهود العراق، من أجل حثّ دولة إسرائيل على تسريع وتيرة هجرتهم. في ذلك الوقت، كان هناك نقاشٌ جادٌّ في إسرائيل حول هذه القضيّة، وتمنّى البعضُ إبطاءَ معدّل الهجرة من العراق.”[12] ويقول كاتبُ المقالة: “تمّ اقتباسُ تقييم السفارة البريطانيّة في كتاب استير مئير من جامعة بن غوريون في النقب. كما قدّمت السفارةُ تفسيرًا محتملًا ثانيًا: كان الهدفُ من القنابل التأثيرَ في اليهود الأثرياء في العراق الذين يرغبون في البقاء هناك، لحملهم على تغيير رأيهم والقدومِ إلى إسرائيل أيضًا.”[13]

يخبرنا كاتبُ المقالة أنّ أرشيف منظّمة الهاغاناه الصهيونيّة الإرهابيّة يحتوي على العديد من “المراسلات بين عملاءِ الموساد في بغداد ومسؤوليهم في تل أبيب، وتتضمّن تقاريرَهم حول تفجير الكنيس اليهوديّ [كنيس مسعودة شيمتوف في بغداد]. الانطباعُ الذي ينشأ من تبادل البرقيّات هو أنّ عملاءَ الموساد في بغداد ورؤساءَهم في تل أبيب لم يعرفوا مَن المسؤول عن الهجوم.” لكنْ ينتقل الكاتبُ الى “منشورٍ حديثٍ يُلقي ضوءًا جديدًا على اللغز،” إذ كُشف عن هذه المعلومات من يهودا تاجر، “وهو عميلٌ إسرائيليٌّ عمل في بغداد، وقضى حوالي 10 سنوات في السجن هناك. بحسب تاجر، فإنّ تفجيرَ كنيس مسعودة ميشتوف لم يتمّ على يد إسرائيليّين، بل على يد عناصرَ من الإخوان المسلمين.”[14] بيْد أنّ هؤلاء، كما نعلم، لم يسجَّلْ لهم أيُّ وجودٍ أو فعاليّةٍ في عراق الخمسينيّات، إذ كان المشهدُ السياسيُّ العراقيّ مقسَّمًا بين التيّار الشيوعيّ الماركسيّ والتيار القوميّ العروبيّ والتيار الوطنيّ العراقويّ. وفي المقابل، أكّد كاتبُ المقال “أنّ ناشطًا واحدًا على الأقلّ من الحركة السرّيّة الصهيونيّة، هو يوسف بيت حلاحمي، نفّذ على ما يبدو عدّة هجماتٍ إرهابيّةٍ بعد اعتقال رفاقه، أملًا في أن يُثْبت للسلطات العراقيّة أنّ هؤلاء المعتقلين لم يكونوا متورّطين في هذه الأعمال. وهذه هي المرّة الأولى التي يؤكّد فيها أحدُ المتورّطين في هذه القصّة أنّ عناصرَ الحركة الصهيونيّة السرّيّة نفّذوا فعلًا تفجيراتٍ في بغداد.”[15]

لم تنجحْ محاولاتُ نفي مسؤولية الدولة الصهيونيّة والمنظّمة الصهيونيّة العالميّة وجهازِ الموساد عمّا لحق باليهود العراقيّين أو التخفيفِ من وطأته. ولم تمنعْ هذه المحاولاتُ بعضَ الضحايا اليهود العراقيّين من المطالبة بالتحقيق مع هذه الجهات التي أضرّت بهم، ودمّرتْ حياتَهم في بلادِهم، وجعلتهم مواطنين من الدرجة الثانية في الكيان الصهيونيّ العنصريّ. وطالب هؤلاء بالتعويض، رافضين تحميلَ الشعب الفلسطينيّ أيَّ مسؤوليّةٍ عمّا حصل لهم.

فقبل بضع سنوات اتَّهم يهودٌ عراقيّون اليمينَ الإسرائيليَّ بـ”طمس الحقائق التاريخيّة في ما يخصّ ظروفَ هجرتهم من العراق، ورفضوا حملةً للحكومة الإسرائيليّة تطالب بتعويضات عن أملاكهم،” وطالبوا “بالتحقيق في دور الموساد في هجرتهم.”[16]

وكانت “لجنةُ يهود العراق” في الكيان الصهيونيّ قد دعت إلى “فتح ملفّ الانفجار الذي استهدف كنيسَ مسعودة ببغداد بوضع متفجّراتٍ فيه، والتوصّل إلى الجهة التي تقف وراءه، وما إذا كانت هذه الجهةُ هي الموساد بهدف تسريع رحيلهم من العراق.”[17]

وأكّدت اللجنة أنّ اليهود العراقيّين “سيطالِبون بنصف التعويضات من الحكومة العراقيّة، وبالنصف الآخر من الحكومة الإسرائيليّة وليس من السلطة الفلسطينيّة.” وشددتْ على “رفضهم تعويضَهم من أملاك الفلسطينيين، أو الربطَ بين قضيّة أملاكهم التي تركوها في العراق بقضيّة اللاجئين الفلسطينيين.”[18]

وقال كوخافي شيمش، وهو محامٍ يسكن في القدس ولكنّه من مواليد العراق، لـ الشرق الأوسط، “إنّ اليمين الإسرائيليّ المتطرّف يَطمس حقائقَ تاريخيّةً مهمّةً في إطار خطّة المطالبة بحقوق اليهود من أصلٍ عربيّ، وإنّ يهودَ العراق هجَروا وطنَهم وقدِموا إلى إسرائيل وتركوا أملاكَهم هناك، ليس لأنّهم طُردوا؛ بل لأنّ هناك اتفاقًا أُبرِم بين حكومة إسرائيل بقيادة ديفيد بن غوريون وحكومةِ العراق برئاسة نوري السعيد.”[19]

وبهذا فإنّ الحقيقة، أيَّ حقيقةٍ إنسانيّة، سيبقى لها مسارُها الخاصّ، الشبيهُ بمسار نجمٍ بعيدٍ لا يَطمس ضوءَه السحابُ مهما طال الزمن، إذ سيأتي يومٌ ليشعَّ فيه من جديدٍ ويقولَ للأحياء كلَّ ما لديه. وسيأتي اليومُ الذي تُطرح فيه كلُّ الحقائقِ والقصصِ السرّيّةِ المتعلّقة بنشأة هذا الكيان العنصريّ الخرافيّ “إسرائيل،” الذي لا يعدو أن يكون جريمةً أخلاقيّةً مستمرّةً استمرارَ بقاء أكثر من نصف الشعب الفلسطينيّ في مخيّمات اللجوء خارج وطنه وداخله. ومن تلك القصص السرّيّة، القصةُ المؤلمةُ التي دفع ثمنها اليهودُ العراقيَون، الذين كانت كلُّ جريمتهم أنّهم أحبّوا وطنَهم الذي وُجدوا فيه منذ أكثرَ من ألفين وخمسمائة عام، ولكنّ الحركة الصهيونيّة العنصريّة كانت لها حساباتُها المختلفة.

هوامش:

[1] فرهد: كلمة في اللهجة العراقيّة تعني نهب، ولكنّ معناها المعجميّ العربيّ بعيدٌ عن معنى النهب في أغلب المعاجم.

[2] صالح النعامي، “قائد في الموساد: الأكراد ساعدوا بتهجير يهود العراق لإسرائيل،” موقع صحيفة عربي 24، عدد 25 نيسان (أبريل) 2015:

https://arabi21.com/story/826685/%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D9%88%D8%A7-%D8%A8%D8%AA%D9%87%D8%AC%D9%8A%D8%B1-%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84

[3] المصدر السابق.

[4] “يهود العراق بين الهجرة والتهجير،” جريدة الشرق الأوسط، عدد 31 أيّار (مايو) 2015:

https://aawsat.com/home/article/372596/%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%87%D8%AC%D9%8A%D8%B1

[5] إيلا شوحيط، “سبعون سنةً على رحيل يهود العراق،” نقلها من الإنجليزيّة: وفيق قانصوه، موقع مجلة orientxxi القسم العربيّ، عدد 22 تشرين الأوّل

: https://orientxxi.info/magazine/article4231

[6]  المصدر السابق.

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق.

[9] https://mfa.gov.il/MFAAR/Opinions/OpinionsOfArabWriters/Pages/Baghdad-my-love-book-wins-respect-of-Kazim-Habib.aspx?fbclid=IwAR3fWRait7OcpthDl4ItrR7p3ppvxmV6QLJUT0L13AVO8wCE-wKuUsW72jg

[10] كاظم حبيب، “حركة شباط-مايس 1941 الانقلابيّة والفرهود ضد اليهود،” موقع doxata.com، القسم العربيّ، 2 حزيران (يونيو) 2011. يقول الكاتب إنّ هذه الدراسة جزء من كتاب بعنوان: محنة يهود العراق:

http://www.doxata.com/aara_meqalat/5944.html?fbclid=IwAR2Sx3vffFDNPNOxQNYpXRy9ju1tYaIRd6nbF7Zr266GaHDxRs9sn12LJyU

[11] المصدر السابق.

[12] مقالة في موقع jewishrefugees باللغة الإنكليزيّة بتاريخ 8 نيسان (أبريل) 2006:

https://jewishrefugees.blogspot.com/2006/04/iraqi-muslims-threw-1951-synagogue.html?fbclid=IwAR1sW8b3hQP4MW_ckvxVRfsiS6rP7kYVSQAe6fWc4AxTQMv0vqC-YkPfZTM

[13] المصدر السابق.

[14] المصدر السابق.

[15] المصدر السابق.

[16] جريدة الشرق الأوسط، “يهود العراق يطالبون الحكومتيْن الإسرائيليّة والعراقيّة بتعويضات،” 17 سبتمبر 2012 :

https://archive.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=12347&article=695657&fbclid=IwAR1z-7X9vX1SWM7ZHJ4TQrKmUO93N3fj6SbCMXxDLik0ZCXWT-9cbZHqlEQ#.X-MM7dgzbIU

[17] المصدر السابق.

[18] المصدر السابق

[19] المصدر السابق.

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق