صَدَفَ عيد رأس السنة البابلية الآشورية الخصيبي “أكيتو” 6771 مع عيدِ قيامة المسيح، والتجربة الروحيَّة في الهلال الخصيب ارتبطت بحركة الطبيعة وتوالي فصولها.
أدوني كلمة آراميَّة تعني “رَبِّي”، حَوَّرَها اليونان بإضافة حرف السين في آخرها، كعادتهم في تسمية أفرادهم، فأصبح اسمُهُ أدونيس.
للشاعر أدونيس بنتان إحداهما تدعى أرواد، والثانية إسمها إنانا.
سألته مرة لماذا سمَّى أرواد، أجابني أنه مجرد إسم أعجبه. وأعرف بأن هذا ليس السبب الوحيد. ولم أسأله لماذا سمَّى إنانا لأني أعرف بأنه يستعين في شعره كثيراً بالأساطير القديمة ويربطها بالحاضر. وإنانا تجربة روحية ليست بعيدة عن فكر أدونيس. وقد قرأت كل الملاحم في الهلال الخصيب أكثر من مرة، وقراءاتي تدل على ما سيلي:
نعم إنانا هي كوكب الزهرة، أبوها “نانار” إله القمر، أخوها “أوتو” إله الشمس.
هي “بقرة السماء” لأنها تعطي الحياة.
هي عشتار الأكادية البابلية الآشورية، وهي عشتاروت الكنعانية في ملحمة إيل وبعل.
هي “عناة” الأوغاريتية في ملحمة كرت الكنعانيَّة.
شبيهاتها في الحضارات الأخرى، نعم، هن أفرودايت اليونانية وفينوس الرومانية.
ولكن كيف امتلكت إنانا كل هذه الصفات؟
إنَّ المشكلة التي شغلت الإنسان في هذا الكون هي الموت، وما الوسيلة لقهره وتحقيق الخلود للإنسان كي يعيش إلى الأبد، وكي يتلاحم مع القوة الإلهية الأعلى من الكون الهلامي الهيولي الذي كان سائداً في البدء، خُلِقَت:
السماءُ ويحكمها الإله “آنو”
الأرض ويحكمها “إنليل”
والعالم السفلي، عالم الأموات، وتحكمه الشيطانة “أريشكيجال”
والآلهة نوعان: الآلهة المتعالية وتتمثّل بـ (أنكي وأنليل وإيل). والآلهة الطبيعانية، التي تتمثل بـ”إنانا” وعشتار وعناة ودوموزي وبعل والمسيح.
منطقة الهلال الخصيب مرت بثلاث مراحل من التطور بعد فترة “جمدة نصر”: الفترة الزراعية، ثم فترة الإعمار التي بدأت بأورورك وسقوط أريدو وانتشرت في بناء المدن الأخرى في الهلال الخصيب، وأخيراً فترة الكتابة.
هذه الإلهة الجميلة “إنانا” تبدأ من الأسطورة الأولى. كانت بحاجة إلى الحكمة الإلهية فقررت أن تزور أنكي الإله المتعالي، إله الحكمة، المعبود من سكان “أريدو”. تقول الأسطورة:
“إنانا وضعت على رأسها “الشوجارا” تاج السهول،
ومضت إلى حظيرة الأغنام، مضت إلى الراعي
هناك أسندت ظهرها إلى شجرة التفاح (لاحظ شجرة التفاح وقارنها بقصة حواء وآدم)
وعندها برز فرجها متعة للراعي.
ويجلس معها “أنكي” في حفلة الشراب ويسكر، وخلال تبادل الأقداح والخمر، يلعب في رأسه الشراب فأعطاها شرائع الحكمة ونواميس الحياة الدنيوية كالزراعة والحِرْفَة والموسيقى والتعدين والعدالة، فتأخذها في سفينتِها لتعود إلى أورورك مدينتها، فتبدأ الحضارة الجديدة وتنتهي “أريدو”. وحين يستفيق أنكي من سكرته يندم ويرسل إليها أفاعي البحر ليُرجع النواميس الإلهية منها. غير أن إنانا تقضي على الأفاعي بمساعدة وزيرتها وتعود سالمة إلى أورورك. ولكن الآلهة المتعالية لا تنسى خدعة إنانا. وهذا سيستمر في أسطورة “شجرة الحبو”، وهي شجرة نمت وكبُرتْ على ضفة الفرات. إلى أن جاء يوم هبَّتْ فيه رياح الجنوب القوية (رياح صحراء الربع الخالي) فاقتلعت الشجرة ورمتها في الماء. وفيما كانت إنانا تهيمُ على وجهها، وقع بصرها على الشجرة فانتشلتها عائدة إلى بستانها الخصيب حيث غرستها، وراحت تعتني بها حتى يتسنّى لها أن تصنع منها عرشاً وسريراً. إلاّ أن الشجرة لم تنمُ ولم تكبر لأن الآلهة المتعالية كانت قد أرسلت إليها الشياطين الثلاثة التي عشَّشت في الشجرة، وهي:
طائر “الزو”،
“ليليث” شيطانة القفر والتصحر،
وأفعى” التنين” لا يؤثر فيها السحرُ ولا التعاويذ.
بكت إنانا واستنجدت بأخيها “أوتو” إله الشمس فلم يساعدها، فاستنجدت بالملك كلكامش ملك “أوروك” فاستجاب لطلبها. قتل التنين (تذكر مار جرجس)، وهرب طائرُ الزو، وولَّتْ ليليث إلى العالم المقفر المتصحر (رجعت إلى الربع الخالي وما زالت هناك). وكبُرَتْ الشجرة فقطعها كلكامش ليصنع لإنانا عرشاً وسريراً. ثم يأتي حبيبها تموز ليقيموا مجالس الشراب وليتم الزواج المقدس.
ما مغزى كل هذا الكلام؟
الفرج (ليس بمعناه الجنسي) يمثِّلُ الإخصاب، والإخصاب وسيلة الإنسانيَّة في الخلود.
شجرة الحبو هي قوة الخصب التي تمثلها النباتات.
العرش الذي تجلس عليه إنانا هو الطبيعة في بدايتها البكر.
والسرير هو رمز المجامعة. والمجامعة في الديانات الخصيبية (نسبة إلى الهلال الخصيب) ليست عملية جنس أو نكاح، إنها إلتحام الأرواح ببعضها، شبقها الأمومة والرغبة في استمرارية الحياة بالتكاثر وبولادة الأجيال الجديدة.
أما كلكامش فهو رمز الإنسان الباحث دائماً عن الخلود. ملحمة كلكامش ما كانت إلاّ رحلةً إلى عالم الخلود، فهو قد قَصَدَ غابة الأرز باحثاً عن سرِّ الخلود (شجر الأرز يعيش آلاف السنين). أما تموز أو دوموزي فهو المجدد للطبيعة البدائية التي تجلس عليها إنانا أو عشتار إلخ… هو دورة الحياة وتوالي الفصول، هو الحافظ على قوى الخصوبة والنمو، وهو بفعله هذا قاهرٌ للموت.
رحلة تموز إلى العالم السفلي لم تكن رحلة إلى الموت، رحلته كانت مرحلة في دورة الحياة وفي دورة الطبيعة المتجددة. هذه البذرة شبيهة بالبذرة التي تُطمرُ في الأرض، فتدًبً الحياة مجدداً لتعطي ورقاً وثماراً وبذوراً جديدة. هي نزول الله “إيل” من عالمه المتعالي إلى عالمنا السفلي، ليوارى في الأرض وليقوم في اليوم الثالث. تذكر صراخ المسيح على الصليب: “إيل إيل لِما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟”
غالباً ما كان هناك دفن جماعي يشملُ العائلة كلها، والأتباع وعازفي الموسيقى وجامعي الهدايا مع هداياهم لأنهم كانوا مؤمنين بالقيامة والحياة الجديدة.
كثيرون يعتبرون المسيحية ديانة خصيبية أو بعلية (من بعل، الأب هو إيل والإبن هو بعل) فبعد الحياة هناك “موت” وهناك قيامة.
والذي يموت هو الجسد لا الروح.
أما من ناحية الصلب، فلا أحد يعرف ما حدث لإنانا، إلاَّ أن مصيرها مستمرٌ في عشتار التي غالباً ما كانت “تموت” لتنزل إلى العالم السفلي لاصطحاب حبيبها تموز إلى عالم الحياة المتجددة.