العالم الآنمسار جلجامش

الوالي التركي في وزارة التربيّة في دمشق!!

تعديل المناهج: أبعد من حذف رموز النظام السابق.

يمكن القول إنَّ المناهج السورية تغيرت بشكل كبير حوالي 6 مرات رئيسية على مدى العقود الماضية، وغالباً كانت هذه التغييرات مرتبطة بالتغيرات السياسية والظروف الاجتماعية. وربما كان من الضروري تطوير وتغيير المناهج الدراسية في سوريا لتواكب العصر وتحاكي دورة العلم (الأبستمولوجيا) التي تشهد سرعة مذهلة حيث بلغت دورة التغيير بالعلوم الاساسية دورة واحد كل 18 ساعة، بعد أن كانت في بداية القرن الماضي كل 25 سنة لتتغير المفاهيم العلمية.

تغييرات سابقة
شهدت المناهج الدراسية في سوريا تغييرات متكررة على مر العقود، غالباً نتيجة لتغير الأنظمة السياسية أو التطورات الاجتماعية والسياسية في البلاد. فبعد استقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي (1946)، تم العمل على إنشاء مناهج وطنية تهدف إلى تعزيز الهوية الوطنية، مع التركيز على التاريخ والجغرافيا والثقافة العربية.
وفي السبعينيات (حقبة حافظ الأسد) تم تعديل المناهج لتتماشى مع التوجهات الأيديولوجية لحزب البعث. حيث أُضيفت مواد تُبرز أهمية القومية العربية وأيديولوجية البعث. وتم التركيز على سرد تاريخي يمجد النظام والدور السوري في الصراع العربي الإسرائيلي.
بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، أجريت بعض التعديلات على المناهج الدراسية، خاصة بين عامي 2003 و2010. شملت هذه التغييرات تحديثاً في المناهج العلمية (الرياضيات، العلوم) لتتماشى مع التطور التقني. فيما بقي التركيز على النظام البعثي والقومية العربية في المواد الاجتماعية.
ومع اندلاع الثورة عام 2011 شهدت المناهج تعديلات كبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة والمعارضة. وخلال عامي 2020 و2021 أجريت تغييرات في الكتب المدرسية، شملت مواد التاريخ والتربية الوطنية، مع إضافة مواد تُعزز “الوحدة الوطنية” وفق رؤية الحكومة.

عمل سياسي
(بالإضافة إلى كون التعليم عملاً معرفياً، فإنّه أيضاً عملٌ سياسيّ. هذا هو السّبب في عدم وجود مناهج تدريس محايدة. لكنّ تلك المناهج المبسترة، تحمل بذور فنائها وزوال الحكم والحاكم في آنٍ معاً، لأنّه في ظلّ تعليمٍ قمعيّ، يصبح حلم المظلوم أن يصير ظالماً). هذا ما يقوله پاولو فريري مؤسّس منهجيّة التّربية النّقديّة.
من هنا يجب قراءة التعميم الصادر عن وزارة التربية في ظل الإدارة الجديدة لسوريا والمتضمن تعديلات خطيرة على المناهج الدراسية، تؤكد بوضوح أن هدف التنظيمات السلفيّة الجهاديّة في سوريا، من خلال تعديل المناهج التّربويّة، هو خلق جيلٍ جديدٍ من الأتباع المخلصين، الذين سيعملون على إدامة إيديولوجيتها وسيطرتها على المنطقة.
ولم يعد خافياً أن البصمات التركية بعقليتها العثمانية تصبغ وتلون كل القرارات الجديدة في سوريا، وأن سرعة حبك القرارات وإصدارها بشكل ممنهج قبل مرور شهر على سقوط الاسد، يدل على أن التحضيرات لهذه الخطوات كانت تُعد مسبقاً ولم تأت خلال هذه الفترة القصيرة، فالمطلوب تثبيت واقع لسلطة أمر واقع، وفرض افكار ومعتقدات وقوانين على البلد المنتشي بسقوط النظام.

رموز العهد السابق
لم يتوقف أحد عند إلغاء التربية القومية “الوطنية” لما تضمنته عبر عقود من الزمن من حشو ولغو واستطراد وشعارات جوفاء، وتسويق لأفكار حزب البعث ومحو الهوية السورية الحقيقية، ولم يكترث أحد لحذف الصور المتعلقة برموز النظام السابق وحزب البعث، فهذه حقبة يعتبرها غالبية السوريين مرحلة سوداء ومضت.

التاريخ
من كتاب الثالث الثانوي العلمي: حذف فقرة “رأى جور العثمانيين” وفقرة “في ظل سلطة عثمانية غاشمة”.
وهنا إعادة لصياغة تسمية جديدة لاحتلال عثماني رزح على أناس سوريا والسوريين اربعة قرون، وتلميع أفعاله الإجرامية كما حدث في كتاب الثالث الثانوي الأدبي عندما حُذفت جملة ” إعدام قادة الحركة الوطنية في السادس من أيار عام 1916″ ونسف عيد للشهداء يحتفل به السوريون منذ عقود بنفس تاريخ إعدام هؤلاء القادة الوطنيين، كل ذلك لتجنب جرح مشاعر “الوالي التركي ” في دمشق. وبالتالي عبارة الحكم العثماني بدلاً من الاحتلال العثماني.
واستمر النسف التاريخي فنحى منحى خطيراً طال رموزاً تاريخية وحضارية في تاريخ سوريا القديم، فتم اعتبار الملكة زنوبيا شخصية خيالية لا تمت للواقع بصلة، وفي كتاب الصف السابع تم حذف صورة مسلة الإله مردوك، وحذف قصة الإله ميلكارت، وحذف هبه الله اللغة الهيروغليفية.
وفي كتاب الصف الثامن حذفت كلمة معبودة من السطر التالي ” تنوعت أدوار المرأة العربية في العصور التاريخية القديمة فكانت أماً ومعبودة وحاكمة وشاعرة”.
وفي كتاب الصف الأول الثانوي الأدبي حذفت فقرة مدونة حمورابي، وحذفت الإلهة ارتارغيس، وحذفت كلمة إله من نص الوثيقة، وحذفت فقرة “لا تسخر من إله لم تتبتل إليه”.

الحذف مستمر
حُذفت قصائد كاملة وأبيات شعرية من بعض القصائد، وحُذفت صورة نصب الجندي المجهول، وتم تغيير عبارة عطاء الطبيعة لتكون عطاء الله في كتاب العلوم للصف الأول الابتدائي، فيما حُذف درس أصل الحياة وتطورها على الأرض من كتاب العلوم للصف الثامن، وكذلك فقرة تطور الدماغ بالكامل من كتاب العلوم للثالث الثانوي العلمي، وحُذف درس الفكر الفلسفي الصيني من كتاب الفلسفة للأول الثانوي الأدبي.
ولكي يكون الجيل القادم بعيداً عن أية أفكار مخالفة للدين والعقيدة، فلا ضير من حذف ما يتعلق باليانصيب أو حجر النرد وورق اللعب فكل ذلك “رجس من عمل الشيطان”، واستبدال فقرة” يحكمه قانون العدل” لتكون “شرع الله”، واستبدال مبدأ الأخوة الإنسانية لتكون “الأخوة الإيمانية” ، والالتزام بالشرع والقانون “حذف القانون”، واستبدال لأصحاب الديانات السماوية لتكون اتباع الشرائع السماوية.
وفي كتاب التربية الاسلامية للصف الأول الابتدائي تغيير عبارة الصراط المستقيم طريق الخير إلى طريق الإسلام، وتغيير المغضوب عليهم الضالين إلى ابتعدوا عن طريق الخير بــــــ “اليهود والنصارى”، وفي كتاب الصف الثالث الابتدائي استبدال من العبادات ما لا يصح إلا بالنظافة لتكون “بالطهارة”، واستبدال الشجاع يدافع عن تراب الوطن لتكون في “سبيل الله”، وتغيير الشهداء ضحوا للحفاظ على تراب الوطن لتكون “ضحوا في سبيل الله”.

نقاط على السطور
-إنَّ تغيير صفة الاحتلال العثماني لسوريا وتجميل الصورة بهذه الفجاجة، وحذف تاريخ مثل زنوبيا وما ماثلها من حقب تاريخية هو ببساطة سعي واضح لبناء جيل جاهل بالتاريخ، أو تدجينه تاريخياً ليستمر تزوير وتشويه التاريخ لعقود أخرى كما جرى سابقاً في المناهج الدراسية السابقة خلال حكم البعث.
– من المستغرب حذف كلمة “القانون” واستبدالها بكلمة الشرع، وهذا التغيير الغريب لا يلغي أن القانون الوضعي موجود في كل مناحي الحياة ” القانون المدني والقانون الدولي وقانون السير والمخدرات والجنسية والضرائب والقانون الاداري والحقوق العينية والتبعية والتنفيذ والتجارة”، وبلا أي رادع يتم الاستغناء عن مؤلفات الحقوقيين والقانونيين الذين أثروا حياتنا بنور الحق والقانون والعدالة، والأنكى من ذلك كأنها دعوة للتوقف عن معاصرة الحياة وتطورها المتسارع بقوانين تنظم العلاقات في جميع مناحي الحياة.
– إنَّ من يسعى لتطوير المناهج الدراسية أو تعديلها أو تغييرها يفترض أن يكون ذلك خطوة للأمام، وليس بحذف صورة أو كلمة أو جملة من هنا وهناك بشكل يعكس منهجاً ايديولوجياً إلغائياً، فهناك معايير مهمة بهذا الخصوص مثل الصدق، والبحث العلمي، والحداثة، والتطور، والفائدة، والكفاءة.
– وتبقى نقطة متعلقة بصلاحيات حكومة تسيير أعمال، وهل من مهامها إحداث تغييرات كبيرة في قطاع هام جداً وهو قطاع التربية والتعليم، فهناك الكثير من الخطوات الدستورية التي يجب أن تشهدها سوريا قبل الاستعجال لفرض أمر واقع وتثبيت نقاط تغيير واستباق كل ما قد يحدث، فعلى ما يبدو أن الإدارة الجديدة في دمشق في عجلة من أمرها لتغيير ملامح سوريا قبل أن يطال هذه الادارة ذاتها التغيير.

جداول التعديلات (اضغط على الجدول لتكبيره)

ملكون ملكون

أديب وكاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق