العالم الآنمسار جلجامش

حروبنا المذهبيّة من الأمس إلى اليوم

من الوطن إلى الهاجر!

“التعصّب الديني الذميم أكل قلب الشرق وهرأ بنيته وأفسد نسيجه وسمّ دمه وصرعه كما تصرع الميكروبات السامّة جبّاراً عظيماً” ـــــــ الدكتور خليل سعادة

المكان نيويورك، والزمان 18 أيلول 1905، أمّا الحدث فهو اشتباكات دامية وإطلاق نار كثيف في حيّ بروكلين بين المهاجرين السوريين من الموارنة والأرثوذكس، واعتقال مطران الكنيسة الأرثوذكسية في بروكلين روفائيل هواويني وستة أشخاص آخرين شاركوه إطلاق النار على مهاجر ماروني أصيب بجراح يدعى عبده العشقوتي.

هذا ما ادّعته جريدة «الهدى» التي تحدّثت عن أن المطران كان برفقة حوالي عشرة أشخاص مسلحين بالمسدسات، وعندما شاهدوا العشقوتي صرخ المطران بمرافقيه: «هذا من أعدائنا اقتلوه، اقتلوه». وبغضّ النظر عن صحة ما روته «الهدى» التي كانت تناصر الموارنة، فإن الفتنة استمرت إلى ما يقارب العام وانتشرت في ولايات أميركية أخرى وسقط نتيجتها قتيل من آل إسطفان. والخلاف لم يكن، كما جرت العادة، بين دين وآخر، بل ضمن الدين الواحد. وعلّقت صحيفة «الصن» الأميركية على الحادث بالقول: “إنَّ السوريين حملوا التعصب معهم إلى هذه البلاد”.

وبموازاة تلك الاشتباكات، انقسمت الجالية والصحف العربية الصادرة في نيويورك إلى فريقين: الأول يؤيد الموارنة، وتنطق باسمه جريدة «الهدى» لصاحبها الماروني نعوم مكرزل، أمّا الفريق المؤيّد للأرثوذكس فكان لسان حاله جريدة «مرآة الغرب» لصاحبها الأرثوذكسي نجيب دياب.
تدخّل كل من أمين الريحاني وجبران خليل جبران ووجّها نداءات إلى المهاجرين تدعوهم إلى التسامح ونبذ التعصّب. وممّا جاء في نداء جبران، الذي نشرته جريدة «المهاجر» في 21 تشرين الأول سنة 1905 ما يأتي: “أستحلفكم يا أبناء سورية بمجد جدودكم العظام. أستحلفكم بالمجد المزمع أن يأتي إلى بلادكم أن تستبدلوا الخصومات بغصن الزيتون الجميل. أستحلفكم يا أبناء سورية بأرز لبنان. أستحلفكم بطيب مياه زحلة. أستحلفكم بماء عيون حمص أن تمزّقوا ثوب الظلم وتلبسوا رداء العيد”.

وبعد ما يقارب العشر سنوات، وتحديداً في كانون الأول سنة 1915، انفجر الخلاف الطائفي ودارت اشتباكات بين المهاجرين المسلمين والمسيحيين في شوارع المدن الأرجنتينية. وكما في نيويورك، كان المهاجرون بمعظمهم من الفقراء الذين تركوا الأرض التي ولدوا عليها واستوطنوا المهاجر البعيدة، لكن معظمهم كان لا يزال يعيش في ظلمات الدهور غارقاً في أحقاده وتعصبه. ولا تزال حتى اليوم الانقسامات المذهبية على ما هي عليه منتشرة بين أحفاد أولئك المهاجرين، فنواديهم وتكتلاتهم يقوم معظمها على أساس طائفي بحت.

مناسبة الحديث عن التعصّب المذهبي والديني بين المهاجرين قبل حوالي قرن ونيف تقودنا إلى التأمّل في أوضاع بلادنا اليوم. ومن الأكيد أن المشهد لم يتغيّر، بل ازداد سوءاً. لقد نُكبت بلادنا بحروب داخلية متواصلة، معظم أسبابها مذهبية وتدخلات أجنبية في مجتمع منقسم على ذاته. وسبّبت تلك الحروب تشويهات في نفسيات الأجيال المتعاقبة التي انتقل إليها مرض التعصّب الديني جيلاً بعد جيل.

لست هنا في معرض تحليل أسباب الحروب الأهلية، وخاصة دور الإرادات الأجنبية التي عملت على تمزيق النسيج الاجتماعي لبلادنا وإذكاء النعرات المذهبية بهدف السيطرة، فهذا موضوع موثّق نشر فيه الكثير من الأبحاث. لكن الوضع الحالي في بلاد الشام والعراق، على وجه التحديد، تدهور بشكل لم يسبق له مثيل حتى في مرحلة الاحتلال العثماني والبريطاني والفرنسي. وللأسف، لا تزال سياسة «فرّق تسد» معتمدة حتى اليوم، مع قبول طوعي وتأييد للتدخل الأجنبي تبديه غالبية شرائح المجتمع، سواء عن قناعة أو ترغيب أو إكراه وكأنه القضاء والقدر.

في لبنان على سبيل المثال، إذا عدنا إلى حروب الدروز والموارنة في أربعينيات وستينيات القرن التاسع عشر، نجد أن المحصلة واحدة: إجرام غير مسبوق، خراب، وتهجير وهجرة ودمار، كما في كل الحروب الأهلية اللاحقة. وكان شاهد عيان بريطاني هو أندرو باتون قد وصف فظائع حرب 1841 في جبل لبنان في كتابه «السوريون المعاصرون خلال الأعوام 1841-1843» الذي صدر بالإنكليزية في لندن عام 1844. وممّا ذكره أنه شاهد في القسم الأسفل من بلدة دير القمر القريب من طريق بيروت: “بيوتاً سوداء، أسقفها مدمرة بعضها تشتعل فيه النيران. شاهدت عشرين رأساً مقطوعة مكدسة في زاوية، وهناك من قتل ثمانين رجلاً. وعندما مررت بالقرب من جثثهم المتكدسة، وضعت منديلاً على أنفي لتفادي الروائح الكريهة”.

وهذه الفظائع تكررت في حرب 1860 التي انتهت بنظام المتصرفية الذي وضعته لجنة خماسية مؤلفة من بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا بموافقة العثمانيين. فما أشبه البارحة بما جرى أخيراً. لجنة خماسية أيضاً توافقت على حكم جديد في القرن الواحد والعشرين. ومن سخريات القدر أن هذا النظام الطائفي يتقبّل باستمرار كل ما يأمر به الخارج بكل طيبة خاطر. في اتفاق الدوحة مثلاً، اختاروا ميشال سليمان بعد استدارته من عنجر إلى عوكر. وخلال الأشهر الماضية، كان حديث السياسيين ومن يعرفون بأنهم خبراء سياسة مضحكاً ومبكياً في آن معاً. معظمهم يتنبّأ ويجزم بأن الدوحة تريد فلاناً رئيساً، والرياض تفضّل شخصاً آخر، وفرنسا لديها مرشحها… إلى آخر المعزوفة. وفي نتيجة الأمر، كما اتفقت اللجنة الخماسية على إقامة نظام المتصرفية في القرن التاسع عشر، نجحت اللجنة الخماسية في القرن الواحد والعشرين في اختيار رئيس جديد.

تاريخياً في لبنان، كان الصراع ولا يزال على أشدّه حول مناصب السلطة داخل الطائفة الواحدة، وكذلك بين الطوائف المختلفة. والجدير بالذكر أن الطائفة المارونية شهدت صراعات عدة داخلها بين أبناء الأسر الإقطاعية في القرن التاسع عشر وما قبله. وتواصل الصراع عندما تم تفريخ حزب لكل صاحب مال أو إقطاع. في القرن الماضي، كان الصراع على أشدّه بين الدستوريين والكتلويّين، وبين الشهابيين وقيادات مسيحية تعارض توجّهاتهم. وتحوّل الصراع إلى مواجهات دموية خلال الحرب الأهلية ولا يزال حتى اليوم. وما جرى مع الموارنة ينطبق على المسلمين، حيث اندلع الصراع على منصب رئاسة الوزراء بين مسلمي بيروت وطرابلس وصيدا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشيعة. أمّا الدروز، فالانقسام لا يزال قائماً بين الجنبلاطيين والإرسلانيين. ولم تنجُ طائفة من مرض التنافس على الوجاهة والسلطة.

مرّت سنوات وعقود وتغيّرت أمور كثيرة، لكن لم يتغيّر الإداء. التبدّل فقط في الأسماء، أمّا المضمون فواحد. في الأساس، المجتمع الممزّق طائفياً لا مستقبل له ولا إمكانية لتطوره وتقدمه. والأمر ليس حصراً على لبنان، ففي العراق مثلاً حديث عن مظلوميّة السنّة، وآخر عن مظلومية الشيعة. لكن في المحصلة تم تمزيق البلد على أساس طائفي وإثني؛ الشمال انفصل بدعم أميركي وإسرائيلي، والأتراك يحتلون مناطق في شمال شرق العراق ويقصفونها، والاحتلال الأميركي جاثم على صدور العراقيين. أمّا الشام، فحكّامها الجدد يقمعون ويقتلون كل من شارك أو تعاون مع النظام السابق باسم مظلومية السنّة. والحديث الطائفي أصبح علنياً، وهو ينتشر بطريقة لم يسبق أن شهدت مثلها سوريا في تاريخها الحديث. وفي الوقت الذي ينهمك فيه السوريون في الانتقام من بعضهم بعضاً ثأراً لمظلومية مذهب على آخر، ها هو الجيش الصهيوني ينتشر على بعد كيلومترات من دمشق ويواصل التقدّم للسيطرة على الجنوب السوري، والأرجح أنه يخطّط لوصول قوّاته إلى قاعدة التنف. يضاف إلى ذلك احتلالان: أميركي وتركي، وانفصال كردي، وحبل التقسيم على الجرّار…

وبالعودة إلى لبنان، فاللبنانيون يشاهدون بأمّ أعينهم عجز السلطة وتمزقها وانهيارها على الأصعدة كافة. تنفجر الطوائف من داخلها، وتتقاتل في الوقت ذاته مع طائفة أخرى على المناصب بسبب «مظلوميتها وإحباطها». وفي جوّ الصراعات هذا، أدرك الغرب والصهاينة معاً أن أفضل وأسهل الطرق للسيطرة تكون في استعمال المال لشراء الولاءات والترغيب بالمناصب، إضافة إلى العمل لتعميق التباينات المذهبية والطائفية والعرقية بهدف إحكام السيطرة والنفوذ. هذا ما فعله العثمانيون والفرنسيون والبريطانيون أثناء فترة احتلالهم لبلادنا.

أمّا قادة المشروع الصهيوني، فلم تتبدّل خططهم الاستراتيجية منذ ما قبل قيام الدولة الصهيونية حتى اليوم. الخطوط العريضة لتوجّهاتهم لخّصها إلياهو ساسون، رئيس القسم العربي في الوكالة اليهودية، في مذكرة بتاريخ 20 تشرين الثاني 1946 عنوانها «خطة للعمل في البلاد والبلدان المجاورة»، وجّهها إلى موشي شاريت الذي تولّى لاحقاً منصب وزير خارجية ورئيس مجلس الوزراء. وهذه بعض بنود ما جاء في تلك المذكرة:
1- في لبنان، دراسة إمكانية إحداث تغيير للشكل المسيحي – المسلم، وتقسيم هذا البلد إلى دولتين مسيحية وإسلامية، أو تشجيع العناصر الطامحة لإعادة لبنان إلى حدوده عام 1917 (يعني المتصرفية)… والتدخّل في الانتخابات البرلمانية المقبلة من أجل تأمين وصول حكومات تميل إلى تقليص علاقة لبنان بالعالم العربي. وإذا تم تقسيم لبنان وإقامة دولة مسيحية، فهذا الوضع سيؤمّن إقامة تعاون مخلص بين الدولتين الجديدتين المسيحية واليهودية.

2- في سورية والأردن، العمل على تشجيع خطط الملك عبد الله والتي هدفها النهائي ضم سوريا وقسم من فلسطين ولبنان إلى شرق الأردن. إنّ حسنات هذا المشروع ستؤدّي إلى إسقاط النظام القائم في سورية والمعادي لنا، وكذلك سيقسّم العرب في فلسطين بين مؤيدين للمفتي الحاج أمين الحسيني ومعارضين له. وهذا الأمر في حال حصوله سيضعف إلى حد كبير تأثير المعارضين لمشروعنا. كما أنه سيغيّر ميزان القوى في العالم العربي. يضاف إلى ذلك العمل على إثارة الدروز في سورية لتأييد المشروع.
3- التعامل بشكل صحيح مع مشكلات الأقليات في الشرق العربي وتضخيم مشاكلها، والتصدّي لمحاولة الجامعة العربية التوسّع على حساب بلدان أفريقيا الشمالية.
4- بذل الجهود للاستعانة بالأكثرية الشيعية في العراق ضدّ الأقلية السنّية الحاكمة هناك نظراً إلى أنّ العراق من أكثر الدول عداء لنا.

والخلاصة أننا إذا ما قارنّا خطة العمل أعلاه بخطة أميركا وإسرائيل لإقامة ما سمّوه «شرق أوسط جديد» نلاحظ أنّ المرتكزات لم تتبدّل، بل تبدّلت الظروف، إذ تغرق بلادنا اليوم في خضمّ حروب استنزاف داخلية ستؤدّي بالجميع إلى التهلكة. لذلك لن تشعر بلادنا بالهدوء ولن ترتاح، لأنّ عدم الاستقرار والفوضى في الكيانات المحيطة بفلسطين هو المطلوب. ومن الحروب الأهلية في القرن التاسع عشر إلى معارك المهاجرين في القارة الأميركية إلى حروب الصهاينة بعد إقامة الدولة العبرية، كانت التباينات المذهبية والدينية سبب دخولنا في هذا النفق المظلم. التعصّب الديني هو المرض العضال الذي يفتك بنا. لذلك ما لم نواجه هذا المشروع كما كل الشعوب التي تنشد الحرية، ورغم كل الصعوبات والمخاطر، فإننا سائرون بخطى سريعة للدخول في حقبة جديدة من الاستعمار الاستيطاني، لأنّ اقتتالنا على السماء سيفقدنا الأرض كما قال أنطون سعادة ذات مرّة!

—————————

تنويه: مصدر المقال، جريدة الأخبار اللبنانيّة، الأول من شباط 2025.

بدر الحاج

مؤرخ توثيقي لتاريخ سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق