مسار جلجامش

زنّار سورية المسلوب!

نصيبين أم التخوم السوريّة

[في بحث الجيوبوليتيك السوري: ميزة تفاضلية أم لعنة تاريخية؟ – يمكن مراجعته على موقع سيرجيل – اعتبر نزار سلّوم أنَّ الهلال الخصيب تعرّض لعمليات قضم أحالته إلى هلال منقوص ومشّوه، فبدا (زنّار سورية) مسلوباً في معظمه لإرادات خارجية.

يمكننا وصفيّاً ملاحظة المناطق التالية ابتداءً من الجنوب الغربي: سيناء-فلسطين – الجولان – لواء اسكندرون – مرسين – طرسوس – كيليكيا – أضنه – عينتاب – كلّس ومرعش وأورفة وحرّان وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر، وصولاً للأحواز في الجنوب الشرقي. حيث تصل مساحة هذه المناطق إلى ما يقارب 600 ألف كم مربّع، أي ما يوازي على وجه التقريب نصف مساحة سورية الطبيعية كلها.

راهناً، وبسبب من الاحتلال التركي المباشر لأراضي ومدن سورية أخرى، فإن هذا الزنّار المسلوب يزداد توسّعاً ومساحة.

يعتزم موقع سيرجيل، تقديم المقالات والدراسات المتوالية حول مناطق هذا الزنّار، تذكيراً بهويتها وتاريخها وسوريتها، خوفاً من نسفها من مكونات الذاكرة السورية، وهي المنسوفة من واقعها!]

نصيبين أم التخوم السوريّة

مقدمة عامة

الغوص في عمق المكان، وخصوصاً التاريخي، يتطلب آليات للبحث ولكن أيضاً يتطلب توفر ذلك الإحساس العميق بالانتماء للمكان. الزمن بمروره لا يترك لنا ألا أسطراً في التراب، ستقرأ منها حياة من عبروا: شعوب وحضارة ورجال، صبغوا هذا التراب بألوان حياتهم من عادات وأنماط عيش قهرها الزمن وطواها في صفحاته تاريخاً، يكلمنا عنهم لنستقي عبرة من هنا ودرسا ً من هناك. التعامل مع المكان بجباله وأنهاره وحجارته ووديانه وأوابد من سبقونا هو تعامل حسّاس وحذر يجب أن يحمل في طياته عشقاً لا محدوداً، وحيادية علمية وعقلاً ينتمي لتاريخه وللشعوب التي أشادت تاريخ هذا المكان.

المدن ليست جوامد من آجر وطوب وخشب. هي صفحات حية بتفاعل ساكنها مع المكان، بجغرافية موقعه طبعت الشعوب التي مرت عليها وسكنتها، بما أنتجته في سياق التاريخ. فساكن الجبل جلفاً صادقاً عنيداً، أما المتربع بالسهل فهو هادئ منفتح. أبن البيئة الباردة مقطّب مفكر، أما ساكن المنطقة الحارة فهو منشرح هوائي. خصوصية المكان وتنوعه هو ما تصبغ حضارة من الحضارات أو مدنية من المدنيات بالتميز وبصفات وعادات مختلفة، وما الأمة إلا تفاعل حيوي بين الإنسان وبيئته.

لقد أخذت الحضارات والمدنيات أسماء أماكن تفاعلها، وبقي المكان يطغي على أسماء القبائل والعشائر والشعوب التي مرت عليه، واندثرت تلك التي لم تستطيع أن تجاري جغرافيته وتاريخه وبقي هو راسخاً.

سورية الطبيعية، هذه الجغرافيا التي حبتها الطبيعة بعناصر مؤهلة لتكون المكان الأول الذي أبدع فيه الإنسان الحديث / العاقل أول لبنة للبشرية، ورسم الخطوط الأولى لأقدم حضارة للبشرية. عبرت على ثراها واستوطنت فيها شعوب من السومريين إلى البابليين إلى الآشوريين إلى الآراميين ….هنا انبثقوا وصاغوا حضارتهم، كما عبرت شعوب غازية دمرت ما وجدت واستقرت لردح من الزمان ثم طواها التاريخ، ولكن سوريا بقيت المعبر لمن يمر ولا يتفاعل فيفنى، أو المصهر لمن يتفاعل فيدخل في تاريخها ونسيجها،  وتبقى آثاره منقوشة كالوشم في جبين سورية مدناً وأطلال وقصور أو رقيمات وزخارف وأدوات.

نصيبين: وصف تاريخي

في سفوح جبال أزل / جودي/ في أقصى الشمال الشرقي من الجزيرة السورية العليا، تربض اليوم مدينة هادئة متخذة من سرير نهر الجغجغ بساطا ً لها. هذا النهر تسميته سريانية وتعني الشبكات وسماه العرب نهر الهرماس ودعاه اليونان نهر مكدونيوس، وفي بعض المراجع السريانية دعي بنهر ماش. هذه المدينة هي اليوم بلدة صغيرة تقع سياسيا في جنوب الجمهورية التركية بعد رسم الحدود الجائر في عشرينيات القرن العشرين وأحد مخلفات سايكس بيكو.

وعلى مسافة مائة متر وفي الأراضي السورية تبزغ مدينة القامشلي التي شيدها السوريون النازحون من جبل أزل في عشرينيات القرن العشرين، لتكون توأماً لنصيبين التاريخية، حيث أسماها الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية في العالم غبطة البطريرك زكا عيواص نصيبين الجديدة.لا تحصى المراجع التي ورد ذكر نصيبين فيها فلقد ورد ذكرها في التوراة حيث سميت / خيليا / ونسبت إلى بني نمرود. هذا ما ذكره العلامة غريغوريس ابو الفرج أبن العبري في تاريخه / مختصر الدول / وتواتر ذكر أسماء لها حسب الشعوب التي سكنتها أو احتلتها.

في العصر الآشوري سميت / نصيبينا / وكذلك / نصب / ونصيبي /, ووردت في السجلات الرومانية التي وضعت أيام حكم الإمبراطور أوغسطوس     / نيتيبتين /, أو نيتي يه لي / أو / نيزيبي /  أما في النصوص الأرمنية فيرد أسمها / مكبين أو نصيه بين / أما أقدم نص موثق يورد اسمها / نصيبين / فهو لوحة مسمارية قديمة محفوظة في متحف لندن تعود لعام 612 ق. م.

من جهة أخرى يذكر أدي شير رئيس أساقفة سعرد الكلداني في مخطوطته / مدرسة نصيبين / أن اليونان قديما دعوها / أنتوغيا ميكودونيا / وكذلك يذكر بأن السريان أول من سماها نصيبين وتعني الزرع أو الغرس بالسريانية. أما العلامة شمس السريان مار أفرام السرياني / السوري / أبن نفس المدينة فقد عرفها بأنها هي أكاد المذكورة في سفر التكوين.

الموقع وأهميته:

لموقع نصيبين الجغرافي ندرة الموضع وهو ما أعطاها أهمية كبرى، فهي واقعة على عقدة الطرق الكبرى ما بين حوض دجلة والفرات وداخل سورية وصولا ً الى البحر المتوسط، كما أنها صلة الوصل ما بين السهول الخصبة للجزيرة السورية العليا والمناطق الجبلية شمالاً. لذلك كانت محطة للقوافل واستراحة إجبارية هامة، وهذا ما جعلها مطمعا ً لجيرانها كما للفاتحين فأتتها أمم كثيرة من آشوريين إلى يونان ورومان وفرس… الخ. ولا يغيب عن الذهن ما لنهر الجغجغ الذي ينبع ويغذي هذه المدينة من آثر في نظافة جوها وتنوع مزروعاتها وجمال طبيعتها الغناء الذي اتصفت فيها، كما كان للجبل الحاضن لها كحارس من الجهة الشمالية أثره في إغنائها بالأمطار والريح الهفهافة ما جعل مناخها فصلاً ملائماً للعيش الرغيد.

شعوب وحروب وتاريخ:

قدر المدن التي حبتها الطبيعة بموقع متميز أن تدفع على مر العصور أثماناً باهظة، ولكون نصيبين كانت في الماضي عقدة التحكم في طرق القوافل الغادية والقادمة، وكانت مفتاحاً لاختراق الحاجز الجبلي للقادمين من الشمال للوصول إلى السهول الخصبة والغنية في الجزيرة السورية العليا، ومن ثم طريق إلى ما يعرف اليوم بالعراق والى سهول الفرات وحلب ودمشق وبالتالي البحر المتوسط، لكونها بهذا الموقع، فإن الوصول إليها أصبح حلماً لكل فاتحي وشعوب العالم القديم.

أقدم حرب متوقعة تمت على أسوار نصيبين، كانت تلك التي وقعت ما بين الآشوريين من جهة والبابليين والميديين من جهة أخرى، والتي دارت رحاها عام 612 ق.م. ومن ثم نزل فيها سلوقس الأول وأقام بها مع جالية يونانية، وقد أنتزعها من سلوقس البارثيون وهم قبائل متوحشة من جنوب شرق بحر قزوين، واستخلصها منهم ديكران ملك أرمينا بحدود عام 37م، ثم  أستردها ارتابان الثالث ملك البارثيين، وتناوب لفترة زمنية طويلة على حكمها الرومان والبارثيين.

دخل الفرس على خطوط الصراع على سورية فتم طرد الرومان من نصيبين في عهد الملك الفارسي ازدشير الذي كان أول الملوك الساسانيين، ودارت معركة من أشرس معارك التاريخ ما بين الرومان والفرس. هذا ما ذكره وول ديورانت في موسوعته / قصة الحضارة /، وقد استقرت نصيبين لفترة طويلة تحت حكم الفرس حتى جاء الملك أذينة ملك تدمر الذي أنتزعها من الفرس بعد حرب ضروس وقام بتدميرها وذلك عام 261م، وعادت المدينة من جديد ليد الرومان في عهد الإمبراطور ديوكليانوس وجعل منها مركزا ً هاما ً للتجارة ما بين الإمبراطورية الرومانية وبلاد فارس، وقام بتحصينها بشكل جيد لكونها كانت أخر بوابة لروما على حدود فارس حينها، فأضحت إحدى أهم القلاع وأقوى الحصون الرومانية الرئيسية على حدود الإمبراطوريتين.

وقد استقرت نصيبين بعد أن فتحها العرب عن طريق عياض بن غنم حيث امتنعت عليه، إلى أن فتحها بصلح، على مثل صلح الرها. وقد روي في بعض الآثار-غير المحققة -إن النبي محمد عليه السلام قال: رفعت ُ ليلة َ أسري بي، فرأيت ُ مدينة أعجبتني، فقلتُ يا جبريل ما هذه المدينة، فقال هذه نصيبين، فقلت اللهم َ عجل بفتحها واجعل بها بركة للمسلمين.

لقد حظيت نصيبين بمقام أثير عند المؤرخين والشعراء والكتاب العرب والسريان وغيرهم. أتى على ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الأشهر معجم البلدان ومما قاله (حين حاصر أنو شروان الملك الفارسي نصيبين ولم يستطيع أن يفتحها جمع العقارب من قرية من فارس، تعرف بطيران شاه من أعمال شهر زور وملأ القوارير والأكياس بهم، ورماهم على المدينة بالمنجنيق حتى ضاجت البلد منهم وفتحوا له البلد فأخذها عنوة منهم.) ويقول: نصيبين بالفتح ثم بالكسر مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على طريق القوافل من الموصل إلى الشام وفي قراها وفيها أربعون ألف بستان، وعليها سور كانت الروم قد بنته وأتمه ملك الفرس أنو شروان.

ويكمل قوله: هي مدينة وبئة لكثرة بساتينها ومياهها، وقد أعجب بها أبن حوقل وأطنب على عادته، بطيب موقعها ووفرة بساتينها وكثرة خيراتها وقال فيها (وكان من أجمل بقاع الجزيرة وأحسن مدنها نصيبين، أنها الأكثر فواكه ومياه ومنتزهات، وخضرة ونضرة، إلى سعة غلات من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة إلى حد الرخص، ونصيبين هي مدينة كبيرة في مستواها من الأرض ومخرج مائها من شعب جبل يعرف ببالوسا وهو أنزه مكان بها حتى ينبسط في بساتينها ومزارها، ويدخل الى الكثير من دورها ويغدق البرك التي في قصورها.

وكان لهم مع ذلك فيما بعد من المدينة ضياع ومباخس كبار جليلة عظيمة غزيرة السائحة والكراع دارة الغلات والنتاج معروفة الفرسان مشهورة للشجعان، وفيها ديارات للنصارى وبيع وقلايات تقصد للنزهة وتنتجع للفرحة والفرج، معروفة بكثرة الثمار ورخص الأسعار تتضمن في السنة بمائة ألف دينار.

أما ابن بطوطة الرحالة المغربي من أهالي القرن الرابع عشر الميلادي فقد بلغها وقد صارت إلى انحطاط وخراب نقرأه يقول: وصلنا إلى مدينة نصيبين وهي مدينة عتيقة متوسطة، وقد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفة والأشجار المنتظمة والفواكه الكثيرة، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب، ويدور بها نهر ينعطف عليها أنعطاف السوار، منبعه من عيون في جبل قريب منها، وفي المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وامانة ولقد صدق أبو نواس في قوله:

طابت نصيبين لي يوما ً وطبت ُ بها

يا ليت حظي من الدنيا نصيبين

وقد ذكرها المقدسي وعنه أخذت دائرة المعارف البريطانية إذ قالت:

أن نصيبين كانت تصدر البلوط والثمار المجففة ومصنوعات كثيرة منها عربات النقل وأدوات الكتابة كالمحابر وغيرها.

نتيجة الحصارات والحروب المتكررة التي تعرضت لها نصيبين فقد دمرت اكثر من مرة، ففي عام 1043 ميلادي غزت جيوش ارطغل بيك مقاطعة نصيبين وعاثت بها نهبا وتدميراً. وبلغ الافرنجة رأس العين ونصيبين عام 1128م ودمروها حسب قول ابن العبري، وقد عاد اسم نصيبين فظهر ثانية في التاريخ الحديث سنة 1839م عندما نزلت الجيوش المصرية بقيادة ابراهيم باشا بها وسحقت الجيش العثماني بقيادة حافظ باشا وذلك في 24 حزيران من العام المذكور، وحضر المعركة مع الجانب العثماني فون مولتكه الالماني.

وأهم واضخم تدمير تعرضت له وأزال كل ملامح نصيبين القديمة، هو ما تسبب به الزلزال الكبير الذي ضربها عام 718 ميلادي ودمرها عن بكرة أبيها، وقلب عاليها سافلها، وتلاحظ اثار المينة المطمورة حتى اليوم وأهالي مدينة القامشلي نقبوا به في منتصف القرن العشرين وأسموه / البدن / ولازال حتى اليوم غير مكتشف.

الحياة الدينية والفكرية ( موجز):

اعتبرت نصيبين من أمهات الحواضر في منطقة ما بين النهرين من سورية الطبيعية، والتي شهدت ربوعها بروز أول جامعة في العالم، وكان لمدارسها الأثر الأكبر في الحفاظ على اللغة الأم لسوريا وهي السريانية، ولازالت المرحلة ما قبل المسيحية معتم عليها، أما في المرحلة المسيحية فكانت النبع الذي انبثق منه مار يعقوب النصيبيني وتلميذه مار أفرام السرياني / السوري / شمس السريان وأحد أشهر شعراء السريانية، حيث قدرت الأشعار والمداريش التي وضعها بآلاف.

وكانت مدرستها في القرون المسيحية الأولى اكبر مدرسة فلسفية وفكرية في المنطقة، وقد تخرج من فصولها مار يعقوب ألبرادعي القديس السرياني الأرثوذكسي، الذي حافظ بكل قوة على مشرقية الدين المسيحي وربطه بالشرق مهد انبعاثه، وحافظ فيما بعد أبناء كنيسته الذين تمسكوا بأرضهم ولغتهم ومذهبهم واستقروا وبنوا نصيبين الجديدة / القامشلي / وهؤلاء كانوا ومازالوا السريان السوريون أحفاد نصيبين والرها وأنطاكية والشام تلك الربوع الخالدات من سورية الأم.

المهندس كبرئيل قبلو

كاتب وباحث سوري

تعليق واحد

  1. شكرا للمعلومات التاريخية القيمة التي تستنفر الذاكرة القومية وتفتح العيون على هذه الحقبة من تاريخنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق