مسار جلجامش

شريعة حمورابي

أول قانون متكامل في التاريخ

شريعة حمورابي من أهم الشرائع التي وُضعت لخدمة البشرية من النواحي الإجتماعية والاقتصادية، حيث أرست الأسس العملية في الحياة البشرية. ولعبت دوراً بارزاً في سن التشريعات القانونية التي تسود في المجتمعات لبناء نظام إجتماعي وقانوني يعمل على حماية السكان في بلاد النهرين.

ويرجع تاريخ صدورها الى السنوات الأخيرة التي حكم فيها الملك “حمورابي” وهو سادس ملوك الأسرة البابلية القديمة، وتعني كلمة حمورابي (رب العائلة، أو السيد الكبير)، وحكم ما بين عامي (1795/1750 ق.م). اقام خلالها دولة مدنية حقيقية دون زيف او رياء. عاش 60 عاماً (1810-1750ق.م).

سيرة ذاتية

في الرقيم رقم سبعة عن تسلسل الملوك هذه الفقرة:

اخبرتني القابلة خاصة البلاط بخبر سعيد عند وضع زوجتي لابنها

أن تجعل اسمه الــــ “رافىء” العظيم

عفوت عن كل سجناء المملكة

وأسقطت كل القروض عن المقترضين

صالحتُ كل الجيران بإقامة الولائم لهم.

أخبرتني القابلة بخبر سعيد عند وضع زوجتي لأبنها

كانت تنشد أشعاراً:

الربيع يفيض كالماء فيكتسح البساتين

الطيور تفر فتقد أزرار قميص القصب

قدّاح الثمار يُلبس الأشجار بذلة عرسها

يفترش الاخضرار بلاط الحقول

أعشاش العصافير تنبت بين الأغضان كما تنبت الأجنة في رحم الأمهات

أوراق الأشجار الصغيرة تقد حبلها السري كزغب الحمائم

صغار الأغنام ببراءتها تتقافز فس ربوع الصحراء.

بعد دخول الملكة في شهرها التاسع، وهي تنوء بحملها الذي تنبأت لها بعض المنجمات، بأنه سيكون لوليدها شأن كبير، دخلت كبيرة القابلات الى غرفة الملكة والخدم يحيطونها من اجل توليدها. بينما كان الملك “سين-مبلط” وكل من في القصر متوتراً، وعلامات الوجوم ترتسم على وجوه الجميع، لم يستطع الجلوس على كرسي الحكم بل فضّل الغدو والمجيء في الممر الواسع، وهو ينتظر خبر سلامة زوجته والوليد المنتظر، ولد الطفل صحيح الخلقة ثقيل الوزن يمتاز برأس كبير، أخبرت القابلة الملك أن هذا الطفل يجب أن يكون اسمه حمورابي بمعنى الرافىء العظيم أو الكبير، وكانت تحيط به نبوءة بحكم العالم كله بعد أن يوحد كل الدويلات المحيطة به، وبدل من إكرامها طلب من الحرس قتلها، حتى يموت السر معها، إذ أن هذا الولد لم يكن الوحيد له.

أحيط الطفل حمورابي بعناية خاصة، وهبّت علامات الخير على المملكة، وكانت الخادمة الخاصة بالمملكة واسمها “كاراك” هي من تشرف على رعايته، لكن الأجل وافاها.

عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره كان يعيش حياة الأمراء في البلاط، وحياة الصبية خارج حدود القصر، تعلم الرماية وركوب الخيل وفنون القتال كما تعلم الألعاب الشعبية دون حاجز نفسي ومادي مع الصبية الشعبيين، شعر بفقر الفقير وتلمس قيمة العمل، وعرف أهمية القانون في إنصاف الناس، رأى بعض الناس بلا معيل، والمعاقين بلا مساعد، دخل بيوتهم المتعرية إلا من الجدران، وشعر بجهد الفلاح والعامل وهو يكابر من أجل لقمة العيش.

في سن الخامسة عشرة تم تعميده في محراب الإله شمش، لكنه لم يتخلَ عن عادته بمرافقة اصدقائه الشعبيين. تجول في الأزقة الضيقة والفقيرة وعاين حياة الناس عن قرب، في الوقت الذي كان يسمع من رجال البلاط عن تقسيم المجتمع الى طبقات ثلاث “رجل. مسكين. عبد”، ولم يكن يروق له ذلك، فالانسان واحد وإن تعددت الآلهة، يسمع حديثهم عن العدالة والإنصاف لكن الواقع الحياتي لم يكن كذلك.

وكان يسأل نفسه، هل والده على إطلاع بكل ما يدور بمملكته؟
حيث الإله مردوخ يعلم كل تفاصيل حياتنا ويكتب أرزاقنا عند كل صباح،. ومع الزمن كان حمورابي يكتشف أسرار المدينة، حضر أفراح الناس وأحزانهم، وعلم أن العبد ليس بالولادة انما نتيجة الظروف القاسية، وكان يعقد المقارنات بين الحياتين اللتين لا تتشابهان إلا في كونهما مرتبطتين بمكان واحد هو أرض بابل، مع كبر سنه دخل المدرسة الملكية وارتبط بالمكتبة حيث اطلع على الرقم الطينية الخاصة بالقوانين السابقة، فحفظ قوانين دويلات المدن السابقة ودرس إصلاحات من سبقه، وبدأ ياخذ وضعه الطبيعي بوصفه الوريث الطبيعي لأبيه بينما تولى بعض أخوته مناصب في مدن الامبراطورية، وعندما أراد الزواج خالف رغبة أبويه واختار فتاة من طبقة الناس البسطاء، وتقبل أبويه ذلك على مضض. اعتلى حمورابي العرش بعد وفاة والده وبدأت حكايته كملك موحد وعادل ومنصف.

تاريخ

اكتُشفت شريعة حمورابي عام 1920 في حفائر مدينة سوسة عاصمة عيلام على يد بعثة أثرية فرنسية برئاسة عالم الأثريات “جاك دي مورغان”، وقد وُجدت منقوشة على حجر أسطواني أسود من حجر الديوريت طوله 225 سم وقطره 60 سم ومحيطه عند القاعدة 190 سم، وعلى أعلى الحجر نقش يصور الملك حمورابي وهو يتلقى هذا القانون من آلهة الشمس. وما زال الحجر موجوداً في متحف اللوفر بباريس، وقد عثر على نسخة أخرى منها ما يدل على إن حمورابي قد أصدر أكثر من نسخة لنشرها في البلاد.

رُتِبت مواد شريعة حمورابي في 12 قسماً، وكُتِبت باللغة البابلية وبالخط المسماري، وتحتوي المِسلة على 282 مادة، ويُرجح أنها كانت تزيد على 300 مادة. نقلها لسوزا الملك العيلامي “شتروك ناخونتي” الذي غزا بابل حوالي سنة 1171 ق.م، وقد محا عدداً من الاسطر ليسجل مكانها على ما يبدو اسمه، لكن اللعنات في خاتمة الشريعة بخصوص من يغّير في نصوصها قد منعت الملك على الأرجح من تدوين اسمه. والظاهر أن نصبه هذا قد انتقل من بابل الى عيلام كغنيمة حرب حملها أحد الملوك العيلاميين بعد انتصاره على الدولة البابلية في أواخر أيام ضعفها.

في القسم الأعلى من المِسلة نحت بارز يمثل الإله شمش إله الشمس جالساً على عرشه يسلم بيده اليمنى الملك حمورابي الواقف أمامه بخشوع أدوات القياس ليتسنى له بواسطة القياسات الدقيقة إعمار البلاد وتثبيت الملكية.

ظروف وضعها

لفهم ظروف وضعها لابدّ من العودة للظروف السياسية السائدة آنذاك. فقد كان النظام السياسي السائد في بلاد النهرين يقوم على وجود عدة دويلات على رأس كل منها أمير أو ملك، ولم تكن العلاقات بين هذه الدويلات مستقرة ما سبب حروباً متعددة بينها، وقد كان اختلاف الأجناس التي يتكون منها السكان أهم عائق يقف في وجه محاولات توحيد هذه الدويلات على يد بعض الملوك، فإلى جانب السومريون يوجد الساميون فضلاً عن قبائل أخرى. وبمرور الزمن بدأت عناصر السكان تذوب في الجنس السامي خاصة بعد ان سيطرت بابل على جميع دويلات بلاد النهرين، وقد بلغت هذه الحركة ذروتها في عهد الملك حمورابي حيث ظهرت حكومة مركزية قوية قضت على جكومات الإمارات والدويلات وأصبحت اللغة الأكدية هي اللغة الرسمية الوحيدة، وكان طبيعياً أن يستكمل حمورابي الوحدة السياسية بوحدة قانونية بين كل ارجاء بلاد النهرين فأصدر مدونته الشهيرة.

مصادرها

إنَّ المصدر القانوني لشريعة حمورابي في غاية التنوع ومثار جدل، فبعض أحكامها وردت متشابهة تماماً لأحكام تشريعات سابقة لها من الناحية الزمنية، وبعضها الآخر كان قواعد عريضة وأحكام قضائية ومراسيم ملكية. وهنا لابدَّ من تسليط الضوء على القوانين التي سبقتها:

قانون اوركاجينا

هو الملك الثامن من ملوك سلالة لكش، تعد إصلاحاته من أقدم الإصلاحات الإجتماعية والاقتصادية المعروفة حتى الآن، تم العثور على أربع نسخ من النصوص المدونة باللغة السومرية.

قانون اورنامو

يعتبر أقدم قانون مكتشف حتى الآن، وسبق شريعة حمورابي بثلاثة قرون، وقد قام اورنامو باصلاحات اجتماعية وأخلاقية، فقضى على اللصوص والمرتشين، وعالج مسائل اجتماعية (كالزواج والطلاق).

قانون لبت عشتار

خامس ملوك أسرة “ايسن” التي حكمت سومر (1875/1885)، سبق شريعة حمورابي بـــــ 150 سنة، مواده تجاوزت الــــ 40، واهتم بالشؤون الإجتماعية (الميراث-الزواج-تحقيق العدل).

قانون اشنونا

نُسِبَ هذا القانون الى الملك (بلالاما) أحد ملوك مملكة اشنونا الذي حكم حوالي 200 سنة قبل حمورابي، تضمن القانون نصوصاً إجتماعية وإقتصادية كالبيع والشراء.

تبويب القوانين

قُسِمت قوانين حمورابي الى 12 قسماً:

القسم الأول: المواد من 1-5، تتعلق بالقضاء والشهود.

القسم الثاني: المواد من 6-25، تتعلق بالسرقة والنهب.

القسم الثالث: المواد من 26-41، تتعلق بشؤون الجيش.

القسم الرابع: المواد من 42-100، تتعلق بشؤون الحقل والبساتين والبيت.

القسم الخامس: المواد من 101-107، تتعلق بمخازن البيع بالجملة ودكاكين التجار والرهنية والتعامل مع صغار التجار.

القسم السادس: المواد من 108-111، تتعلق بساقية الخمر.

القسم السابع: المواد من 112-126، تتعلق بالبيع.

القسم الثامن: المواد من 127-195، تبحث في شؤون العائلة وحقوقها وعلاقات أفرادها فيما بينهم.

القسم التاسع: المواد من 196-227، تبحث في عقوبات التعويض وغرامات نقض الاتفاقيات والعقود والتعهدات.

القسم العاشر: المواد من 228-240، تتعلق بالأسعار وتعيين أجور بناء البيوت والقوارب وأثمانها.

القسم الحادي عشر: المواد من 241-277، تتعلق بأجور الحيوانات والأشخاص.

القسم الثاني عشر: المواد من 278-282، تتعلق بتعيين حدود الرقيق وحقوقهم وواجباتهم.

المقدمة- نص التشريع نفسه- الخاتمة.

  المقدمة: يقول حمورابي في مقدمة تشريعه: (لقد دعتني الآلهة أنا حمورابي، الأمير النبيل الذي يحترم الآلهة ويشيد العدالة ويقضي على الظلم والأشرار ولا يجيز للأقوياء ان يعتدوا على الضعفاء. إني أتيت كي انشر العدالة بين الناس كما تنشر الشمس ضياءها على الأرض ….).

   الخاتمة: يختتم حمورابي شريعته بقوله: (إن الشرائع التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي وجدت حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة، ولعل الملك الذي يكون في الأرض فيما بعد ان يرعى ألفاظ العدالة التي نقشتها على أثري).

  نص التشريع:

ويمكننا ان نصنف المواد القانونية التي حواها هذا التشريع في ثلاث زمر: المواد الاجتماعية، المواد الاقتصادية، الجرائم وعقوباتها.

أولاً-المواد الاجتماعية:

اهتم تشريع حمورابي بتنظيم الحياة الاجتماعية في الإمبراطورية البابلية فحدد طبقات المجتمع بثلاث: طبقة السادة من ملاكين وتجار كبار، والطبقة المتوسطة من صناع وفلاحين أحرار، وأخيرا طبقة العبيد أو الأرقاء.

ولم تكن هذه الطبقات الثلاث متساوية في الحقوق أو الواجبات طبعاً إذ كانت حقوق الطبقة الاولى أكثر وواجباتها اقل من الطبقتين الأخيرتين.

 وتمتعت المرأة بمكانة عالية جداً في بلاد مابين النهرين أيام البابليين، وقد زاد حمورابي من هذه المكانة الى درجة دعت أحد المؤرخين الأوروبيين المحدثين للقول: (إنَّ وضع المرأة المتزوجة في المجتمع البابلي يضاهي وضعها مقارنة     بالمجتمعات الأوروبية وأكثرها تقدما اليوم)، فقد سمح القانون للمرأة بشخصية حقوقية مستقلة عن شخصية زوجها، وأعطاها الحق بمزاولة التجارة وكثير من المهن الأخرى.

وقد نظم تشريع حمورابي الزواج وحَماه، فأوجب أن يتم عن طريق التراضي مع أهل العروس، ومنع الزواج عن طريق الخطف الذي كان سائداً قبل ذلك، وسمح بالطلاق بتوافق الطرفين فقط، ومنع تعدد الزوجات إلّا في حالات معينة أهمها حالة عقم الزوجة.

وشدد التشريع في معاقبة الخيانة الزوجية وحدد الأدلة المطلوبة لثبوتها، فأعطى الزوجة حق حلف (يمين البراءة) إذا اتهمها زوجها بالخيانة بدون أن يكون لديه شهود على صحة ما يقول، وأما إذا كان اتهامها بالخيانة نتيجة لتقولات الناس عن سوء سلوكها فينبغي عليها في هذه الحالة أن تجتاز امتحاناً عسيراً وذلك بإلقائها بالماء فإذا غرقت فيه كانت مذنبة وإذا نجت كانت غير مذنبة، ويعاقب زوجها أو المتقولون عنها بالسوء في هذه الحالة.

وترى أستاذة التاريخ المساعدة في جامعة فيلانوفا “كيلي آن دايموند” في قانون حمورابي ما يمكن اعتباره أقدم تنظيم لدفع النفقة.

 نعم .. قانون حمورابي هو أول قانون متكامل في التاريخ، ويعد الأب الروحي لسائر القوانين اللاحقة حتى يومنا هذا، وكما يقول الدكتور جورج كونتينو مؤلف كتاب الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور عن مساحة الحقوق التي اعطاها حمورابي للنساء: “الحقوق التي أعطتها شريعة حمورابي للمرأة في بابل لم تحصل عليها المرأة الفرنسية إلّا في مطلع القرن العشرين”

ويمكن تحديد الأسباب المشروعة التي تجيز للزوج أن يتخذ زوجة ثانية لدى حمورابي:

عقم الزوجة: 

المادة 145: ((إذا تزوج سيد زوجة ولم تلد له أولاداً، وقرر أن يأخذ جارية فلهذا الرجل أن ياخذ جارية ويأتي بها الى بيته. إنها إمرأة ثانية ولا يجوز أن تتساوى مع الزوجة))

إذا مرضت الزوجة مرضاً خطيراً:

المادة 148: ((إذا سيد تزوج إمرأة واصيبت بمرض وأراد أن يتزوج ثانية فله أن يتزوج ولا يجوز أن يطلق زوجته التي أصيبت بالمرض “انها تسكن في البيت الذي بناه وعليه أن يعيلها طالما هي في قيد الحياة)).

الطلاق:

المادة 138: ((إذا أراد سيد أن يطلق زوجته التي لم تلد له أولاداً فيجب عليه أن يعطيها دراهماً بقدر مبلغ المهر، وكذلك يعطيها الأغراض التي جلبتها من بيت والدها بكاملها وعندئذ يطلقها))

ورغم ذلك كان هناك طلاق تعسفي بدون سبب، قوننته شريعة حورابي من حيث شريطة الزوجة على الزوج في عقد الزواج لضمان حقها في الطلاق التعسفي يلتزم فيه الزوج بدفع مبلغاً من المال أو التخلي لها عن كافة ممتلكاته.

ومن هذه القوانين التي تصب في جانب المرأة

1- دافع حمورابي عن المرأة في حال التحرش الجنسي

اذا مد رجل يده على امراة متزوجة بغية مداعبتها (تحرش) فعقابه بقطع أصابع يده

2-قانون حمورابي أول من أعطى الأم حق تجنيس الأبناء

إذا تزوج عبد مملوك لبيت كبير او لأحد العامة من ابنة رجل حر ونتج عن هذا الزواج أولادا لا يحق لمالك العبد المطالبة بعبودية الأطفال لكونهم مواطنين أحرار نسبة إلى الأم

3-للمرأة حق الميراث في مال الزوج

إذا توفي الزوج توزع التركة بين الاولاد بالتساوي وتاخذ الام حصة تعادل حصة ولد واحد حيث يمكنها التصرف بها كيفما تشاء، حتى لو تزوجت من رجل اخر حسب رغبتها واختيارها

4- تشديد في حال الاغتصاب الجنسي سواء كانت المرأة بالغة أو قاصر

يعاقب بالموت كل من يعتدي جنسياً على امراة رغمًا عنها

يعاقب بالموت كل من يمارس الجنس مع فتاة لم تبلغ سن الرشد

ثانياً-المواد الاقتصادية:

اهتم تشريع حمورابي بحماية الزراعة والصناعة والتجارة ما أدى الى استقرار التعامل وازدهار الحياة الاقتصادية بشكل عام.

فمن حيث الزراعة اعتبر الأرض أهم أنواع الملكية فنظم كيفية الحيازة عليها وتأجيرها وزراعتها، وبحث في جميع المسائل التي تؤدي الى تحسين استثمارها والعلاقات بين مالك الأرض ومستأجرها وبين الفلاحين والرعاة الذين يعملون في خدمته.

-المستأجر يعتبر مسؤولاً ويستحق العقوبة إذا أهمل الأرض التي استأجرها ولم يزرعها لمدة عام كامل

-يعتبر الفلاح مسؤولاً عن كل عطل وضرر يصيب حقول جيرانه إذا هو قصر في إصلاح السدود الموجودة في حقله أو أهملها وترك مياهها تطفو على ارض جيرانه

في مضمار الصناعة فقد حدد قانون حمورابي أجور البناءين والخياطين والنجارين والبحارة وسائر أصحاب المهن الحرة الأخرى، واهتم بشكل خاص بصناعة البناء ومسؤولية البناءين عن سلامة الأبنية التي يشيدونها.

-إذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه. وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني

-إذا بنى سفينة لشخص وأنزلها في الماء فتبين له خلال سنة من بنائها أن بها عطلا ان يصلح ـ أي العامل ـ له هذا العطل أو يبني له سفينة جديدة دون أن يكلفه أي مال إضافي.

 وكانت التجارة مع الخارج تنقل إما عن طريق القوافل البرية أو بواسطة السفن والمراكب الصغيرة. وكان على التاجر أن يقدم لعميله البضاعة أو المعادن الثمينة التي يتاجر بها في الخارج وله مقابل ذلك عمولة مقدارها 1% من قيمتها.

وأما بخصوص المعاملات التجارية فقد أوجب التشريع على المتعاقدين ان يُنظموا بها عقودا تكتب على ألواح خاصة من الخزف أو الحجر. وكانت المحاكم لاتقبل النظر في دعاوى البيع والشراء بشكل خاص وجميع المعاملات المدنية بشكل عام الا إذا كانت هذه العقود مُصدّقة من قبل شهود.

والجدير بالذكر أن هذه القواعد كانت تنفذ بحذافيرها من قبل المتعاملين والدليل على ذلك العدد الضخم من الألواح الفخارية التي اكتشفت في موقع (نوزي) في شمال شرقي بلاد الرافدين بين عامي 1925 – 1930، وكلها تحوي صكوك بيع وشراء، أو أجار واستئجار، حسب تعاليم شريعة حمورابي، كما سجلت على ألواح أخرى الأحكام التي كانت تطبق بحقوق المخالفين، والعقوبات التي كانوا يتعرضون لها.

ثالثاً-الجرائم وعقوباتها:

إن اول ما يلاحظ في هذا المجال أن تشريع حمورابي قد فرق بشكل واضح بين الجنايات والأضرار التي تحدث عمداً وبين تلك التي تحدث عن غير قصد أو لمجرد الإهمال، فبينما قسا كثيراً في معاقبة الجرائم المقصودة اكتفى بأخذ دية أو تعويض في حالة عدم توفر القصد الجرمي.

وكانت العقوبة غالباً ما تكون تطبيقاً لمبدأ العين بالعين والسن بالسن، فإذا (اعتدى عبد على حر فكسر سنه أو قلع عينه فيجب ان يكسر سن العبد أو تقلع عينه) وبالمقابل (إذا تسبب أمير بكسر ذراع أحد أبناء الشعب يعاقب هو بكسر يده).

 على الرغم من أن هذا المبدأ قد يبدو قاسياً في نظر البعض اليوم، إلا أنه في عصره كان يمثل محاولة للحد من الانتقام المفرط وتحقيق نوع من العدالة المتوازنة بين الجريمة والعقاب. وفكرة التناسب بين الجريمة والعقوبة لا تزال حاضرة في النظم القانونية الحديثة، وإن كانت تتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وتنوعاً.

وكان هذا المبدأ يصل أحيانا الى درجة المغالاة التي يصعب علينا تقبلها في هذه الأيام كما يظهر من الأمثلة التالية:

إذا ضرب أحد أسنان إحدى البنات وماتت حكم بالموت على ابنة الضارب

إذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت مريض أو في فقد عين من عينيه قطعت أصابع الطبيب، ولكن يحق للطبيب رفض إجراء عملية إذا وجد ان الأمل ضعيف بنجاحها.

=إذا استبدلت قابلة طفلاً بآخر عن علم بفعلتها جُوزيت بقطع ثدييها.

كما ان العقوبات كانت في بعض الأحيان لا تتناسب من حيث قسوتها مع الجريمة المقترفة، بل تزيد كثيراً عنها.

-إذا ارتكب رجل جريمة سطو وقبض عليه حكم على هذا الرجل بالإعدام. وإذا لم يقبض على السارق كان على المسروق منه ان يدلي أمام الإله ببيان مفصل عن خسائره وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه ان يعوضاه عن كل ما فقده.

  تأثير مسلة حمورابي على النظم القانونية الحديثة

بعد الآف السنين ما يزال الملك البابلي ذا تأثير قوي اليوم، إذ توجد صورته في منحوتة مجمع المشرعين القدماء الكائنة على الجدار الجنوبي لقاعة المحكمة العليا الأمريكية. ويصف المؤرخون مسلة حمورابي بأنها رمز دائم لنظام بلاد النهرين القديم فيما يخص حل النزاعات ومعاقبة الجرائم وتنظيم الأعمال التجارية، ويعدونها تأثيراً مبكراً دام لقرون فيما يتعلق بتطور أنظمة القوانين والمحاكم التي تحكم الولايات المتحدة والمجتمعات الحديثة الأخرى.

التأسيس لمبدأ “بريء حتى تثبت إدانته”

تنقل المسلة أيضاً نظاماً قانونياً قديماً في بلاد ما بين النهرين بمبادئ ما زالت تُتَّبع في قاعات المحاكم الأمريكية، إذ ينص القانون على أن غرض اعتبار شخص ما مذنب في جريمة يلزم جمع الأدلة وإثباتها، بحسب ما تذكر استاذة التاريخ المساعدة في جامعة فيلانوفا “كيلي آن دايموند” التي تضيف: «موضوع (بريء حتى تثبت إدانته) يتردد كالصدى معنا»، إذ إن هذا المبدأ تضمنته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

كان لدى سكان بلاد النهرين نظاماً يركز كثيراً على الوصول إلى حقيقة القضية بالاستعانة بالشهود والشهادة الشفوية والأدلة المكتوبة، وجعل الأفراد يؤدون اليمين بقولهم الحقيقة. وكان اليمين خاصةً طريقة فعالة بسبب إيمان الناس العميق بأن الآلهة ستعاقبهم إذا كذبوا تحت القسم. واستمعت هيئة من القضاة إلى الدعوى، وغالباً ما سجل الكتبة الأحداث التي وقعت خلال المحاكمة. ويُظهر كل ذلك أن النظام كان فعالاً وموثوقاً به، ووفّر طريقة لتجنب عدالة القصاص.

كذلك تظهر أهمية المسلة لأنها عززت فكرة أن العدالة حقيقية ونزيهة، إذ نقل حمورابي عن طريق قوانينه أنه ملك يريد التأكد من أن الجميع سواء، وليس فقط الأغنياء والأقوياء بل حتى الفقراء بإمكانهم الحصول على العدالة، وما زال القضاء الحديث يسعى إلى تحقيق تلك الفكرة، حتى لو لم ينجح دائماً

 وشمل قانون حمورابي المفصل أموراً من مثل: سلامة المباني والميراث وانضباط العبيد والرسوم التي على الأطباء البيطريين القدامى دفعها مقابل العمل على الثيران والحمير.

  تدوين القوانين وجعلها علنية

كانت شريعة حمورابي من أوائل القوانين التي تم تدوينها وكتابتها على ألواح حجرية وعرضها في الأماكن العامة. هذا الفعل بحد ذاته كان ثورة في عالم القانون، حيث حوّل القوانين من أعراف شفهية قابلة للتغيير والتحريف إلى نصوص مكتوبة وثابتة يمكن للجميع الاطلاع عليها ومعرفتها. هذا المبدأ، وهو تدوين القوانين ونشرها، يعتبر أساسياً في النظم القانونية الحديثة، حيث يضمن الشفافية والوضوح ويقلل من احتمالية تطبيق قوانين غير معروفة أو مفاجئة.

 تنظيم جوانب مختلفة من الحياة

   لم تقتصر شريعة حمورابي على الجوانب الجنائية فقط، بل شملت تنظيم جوانب واسعة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مثل العقود، والزواج والطلاق، والميراث، والمهن، والزراعة، والأسعار، والديون. هذا النهج الشامل في تنظيم المجتمع من خلال القانون كان له تأثير على تطور النظم القانونية اللاحقة، حيث أدركت المجتمعات أهمية وجود قوانين تنظم مختلف جوانب الحياة لضمان الاستقرار والعدل.

 مفاهيم قانونية مبكرة

  على الرغم من قدمها، تضمنت شريعة حمورابي بعض المفاهيم القانونية التي تعتبر أساسية حتى اليوم، مثل:

* الحق في تقديم الأدلة:  إتاحة الفرصة للمتهم لتقديم دفاعه وأدلة براءته.

* مسؤولية المهنيين: تحميل الأطباء والبنائين وغيرهم مسؤولية أخطائهم المهنية.

* حماية الضعفاء:  تضمنت بعض القوانين حماية خاصة للنساء والأيتام والفقراء.

ويعتقد العديد من المؤرخين والباحثين أن شريعة حمورابي أثرت بشكل أو بآخر على النظم القانونية للحضارات اللاحقة في منطقة الشرق الأدنى القديم، بما في ذلك القوانين الآشورية والحثية والقوانين العبرية القديمة.

خاتمة

باختصار، يمكن القول إن شريعة حمورابي لم تضع فقط مجموعة من القوانين في فترة تاريخية معينة، بل قدمت مفاهيم ومبادئ أساسية أثرت في تطور الفكر القانوني وأرست أسساً لتدوين القوانين، وتنظيم المجتمعات من خلالها، وهو تأثير لا يزال صداه يتردد في النظم القانونية حول العالم حتى اليوم.

 بيبلوغرافيا

حكم حمورابي ملك بابل (من 1795 – 1750 ق.م)

بنى حمورابي أسوار بابل (حوالي 1792 ق.م)

غزا حمورابي البابلي اوروك وإيسن (1787 ق.م)

قدم حمورابي شريعته (حوالي 1772 ق.م)

استولى على مدينة ماري بعد وفاة زمري ليم أخر حكامها لأسباب مجهولة (حوالي 1761 ق.م)

توفي حمورابي لأسباب طبيعية (1750 ق.م)

اعتلى ابنه سامسو ايلونا العرش وبدأت الإمبراطورية بالانهيار (1749 ق.م).

ملكون ملكون

أديب وكاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق