أخيراً وبعد أكثر من أربعين سنة على نشر الجزء الأول، صدر عن “دار الفرات” في بيروت كتاب “الخطوط الكبرى في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي” للأمين الراحل أسد الأشقر (1908 ـ 1986). والكتاب يتكون من خمسة أجزاء في أربعة مجلدات: نشوء المجتمع السوري البيئي الأول، الحضارة الكنعانية السورية في حوض المتوسط، الحضارات الدخيلة المزورة، الإسلام والفتح العربي وعصور الانحطاط.
عندما صدر الجزء الأول ـ القسم الأول سنة 1978، اندلع نقاش بين القوميين الاجتماعيين وغيرهم من المهتمين بالمسائل التاريخية. وشملت ملاحظات القراء آنذاك الشكل والمضمون على حد سواء. لذلك أعيد إصدار طبعة ثانية منقحة سنة 1981، عالجت الشكل لكن المضمون إجمالاً بقي على حاله. ومع أن الأمين الأشقر أصدر كذلك الجزء الأول ـ القسم الثاني (1980)، ثم الجزء الثالث (1982)، إلا أن الظروف العامة والخاصة حالت دون طباعة الأجزاء الباقية، إلى أن تحقق المشروع قبل مدة. وفي جميع الأحوال، تبقى منهجية البحث التاريخي المعتمدة في الكتاب مطروحة للنقاش والحوار، خصوصاً وأنها المرّة الأولى (على حد علمنا) التي يتنكب فيها مؤرخ أو مفكر قومي اجتماعي لمثل هذا الجهد الطموح.
من المعروف أن أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، كان بصدد وضع كتاب عن “نشوء الأمة السورية” بعد إنجاز كتابه “نشوء الأمم”. وهو أعدّ المراجع وسجّل الملاحظات، غير أن المسوّدات اختفت خلال حملات الاعتقال في ثلاثينات القرن الماضي. وعبثاً جرت محاولة استرجاع هذه الأوراق الخاصة، إذ قيل لهم في دار القضاء إنها “ضاعت”. يقول سعاده بهذا الشأن: “أما الكتاب الثاني من هذا المؤلف فقد درستُ معظم مواده ووضعت له الملاحظات والمذكرات، وهذه جميعها صُودرت أثناء الاعتقالات الثانية في صيف 1936. وسأسعى للحصول عليها من المحكمة لأنها أوراق شخصية لا دخل لها في القضية، وانتهز الفرصة لتأليف الكتاب الثاني”. (الأعمال الكاملة، الجزء 3. صفحة 6). وعلى رغم مساعي عدد من الباحثين القوميين الحاليين للعثور عليها بين المحفوظات الفرنسية في باريس، إلا أن المخطوطة ما تزال مفقودة حتى الآن.
أبدى سعاده اهتماماً فائقاً بالتاريخ، فهو الذي يقول إن “الأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم”، ويضيف: “فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى”. (الأعمال الكاملة، الجزء 1. صفحة 399). ونرى جوانب من هذا الاهتمام الخاص في العديد من كتاباته وخطبه: الخطاب المنهاجي (1935)، شرح المبادئ (الطبعات الأربع)، خطاب الأول من آذار (1938)، المحاضرات العشر (1948)… وغيرها. وهو يؤكد في أكثر من مناسبة على أنه يحمل منهجية معينة في قراءة الأحداث التاريخية. يقول في مقال نشره سنة 1931: “… مما له علاقة بنظرياتي المتقدمة في علم التاريخ وتأثيره في تطور العالم الاجتماعي والعمراني”. (الأعمال الكاملة، الجزء 1. صفحة 246). ويعود بعد سنوات (1939) إلى توجيه ملاحظة تتعلق بمقالات محرر جريدة “سورية الجديدة” في البرازيل: “فهو لا يريد أن يقبل نظرية الزعيم التاريخية الجديدة التي تقلب النظريات المعروفة حتى الآن عن سورية وتاريخها”. (الأعمال الكاملة، الجزء 9. صفحة 155.)
من المؤسف أن أحداً من المؤرخين القوميين الاجتماعيين لم يعمل على إظهار أو إيضاح عناصر ومكونات نظرية سعاده في التاريخ. وسنعود إلى هذا الموضوع في كتابات لاحقة. بل أن الرفيق الدكتور سليم مجاعص كتب لي في رسالة خاصة: “أمام هذا القحط الفكري في ناحية النظرة التاريخية، يجب أن ننظر إلى محاولة أسد الأشقر كأمر فريد يتطلب شجاعة فكرية كبيرة”. ومما يدعو إلى الأسف أن العمر لم يُتحْ للأمين أسد الفرصة الكافية للعمل على بلورة أفكاره التاريخية، خصوصاً لجهة ما نعرفه عن بعض آراء سعاده في الأحداث التاريخية التي مرّت بها الأمة السورية منذ أقدم العصور. مع تأكيدنا على أن المؤلف لم يقصد من عمله الموسوعي هذا أن يعطينا الكلمة الفصل في مهمة كتابة التاريخ السوري على قاعدة النظرة القومية الاجتماعية إلى نشوء الأمة السورية. فالمهمة ما تزال قائمة على مستويين: محاولة تحديد أسس نظرية سعاده في “قلب النظريات المعروفة حتى الآن عن سورية وتاريخها”، ثم إعادة كتابة تاريخنا القومي في ضوء التحديد الذي نتوصل إليه.
لا نريد لهذا المقال أن يكون عرضاً أو مراجعة نقدية لكتاب “الخطوط الكبرى في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي”. وإنما ننطلق من بعض الأفكار الواردة فيه كي نبدي رأياً نعتقد بأنه يغطي شريحة واسعة من المؤرخين المهتمين بالعالم العربي، بمن فيهم الباحثون الأجانب. أول إشكالية منهجية عند هؤلاء تتمثل في طريقة استعمال كلمة “العرب”. فإذا كان المقصود عملية “تعريب” لغة السوريين، فهذه تمت تدريجياً خلال القرنين السابع والثامن ميلادية، ولأسباب أبعد بكثير من علاقات التفاعل والتعاون، أهمها أن اللغة العربية مرتبطة “سماوياً” بالقرآن. أما إذا كان التلميح إلى “العرق العربي”، فيتوجب علينا في هذه الحالة إثبات وجود مثل هذه السلالات النقية خلال مراحل تاريخية مختلفة. لكن الأرجح أن كلمة “العرب” تعني الذين يستوطنون شبه الجزيرة العربية والذين يهاجرون منها. والثابت لدى الباحثين والمؤرخين أن هجرات عدة من هؤلاء قصدت الهلال الخصيب منذ الألف الثالث قبل الميلاد، واندمجت مع السكان المحليين الذين هم من “أصول عرقية” مختلفة. لكن الثابت أيضاً أن لكل هجرة ظروفها الخاصة، وأسلوب استقرارها في البيئة الجديدة، والنتائج الحضارية الناجمة عن تفاعلها مع المجتمعات المحلية.
وكي لا أطيل البحث وأثقل على القارئ، مع وعد بالعودة قريباً إلى هذا الموضوع الحيوي، أرى من الضروري أن أشدد على نقطتين غالباً ما يتجنبهما المؤرخون ورجال السياسة، إما جهلاً أو خبثاً وهما:
1 ـ وضع “العرب” في شبه الجزيرة العربية.
2 ـ آليات ونتائج اندماج الهجرات النازحة من صحاريها إلى الهلال السوري الخصيب.
ذلك أن المعرفة الدقيقة لمجريات هاتين النقطتين ستوفر على جميع المعنيين بكتابة التاريخ الحقيقي تبعات السقوط في مغالطات ذات تأثيرات سياسية واجتماعية خطيرة.
النقطة الأولى: إن الذين يكتبون عن “العرب” في مرحلة ما قبل الدعوة الإسلامية يتناولون هذه الجماعات وكأنها “شعب واحد” في أنحاء شبه الجزيرة وتخوم بلاد الشام. إن هذا التصور غير دقيق لأن البنية الاجتماعية نشأت على أساس النظام القبلي وحافظت عليه. ولم يقم للعرب (في جزيرتهم) كيان مركزي فاعل، جزئياً، إلا مع الدعوة المحمدية. يُضاف إلى ذلك أن “عرب الجنوب” نجحوا في إنشاء ممالك تمتعت بازدهار حضاري مميز، ولها تاريخ يمكن التأكد من صدقيته. في حين أن “عرب الشمال” اكتفوا بالأعراف القبلية لإدارة شؤونهم الحياتية. وقد عملوا على تأمين الحماية للطرق التجارية العابرة أراضيهم، وشاركوا في قوافلها أيضاً. أما تاريخهم فقد ظل في المجال الشفوي ولم يُدون إلا بعد مرور 150 إلى 200 سنة على انتصار الدعوة المحمدية. وبين الشمال والجنوب، نجد الصحارى والقفار يجوبها “الأعراب” الذين وصفهم القرآن بأنهم “أشد كفراً ونفاقاً” {التوبة ـ 97}. وحتى بعد الفتح الإسلامي بقرنين تقريباً، ظلت الهوة قائمة بين الجانبين. فنقرأ في كتاب “طبقات فحول الشعراء” لمحمد بن سلام الجمحي (توفي 846 م.): “قال أبو عمرو بن العلاء (توفي 770 م.) في ذلك: ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا”. (طبعة القاهرة 1974. صفحة 11) لذلك نعتقد بأن قراءة تاريخ شبه الجزيرة العربية من منظور واحد لا بد وأن تؤدي إلى خلل معرفي، خصوصاً إذا أردنا دراسة العلاقات العربية ـ السورية في مرحلة ما قبل الدعوة المحمدية.
النقطة الثانية: ينطلق معظم المؤرخين وعلماء الأجناس البشرية من قاعدة أن هجرات عدة من الجزيرة العربية قصدت الهلال الخصيب في موجات متتابعة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، القسم الأكبر منها أغنى الحضارة السورية أو على الأقل لم يعرقلها. العلماء الغربيون اصطلحوا على مفردة “الساميين” لوصف القادمين الجدد، أما هؤلاء فعرّفوا عن أنفسهم بالآكاديين والبابليين والعموريين والكنعانيين والأشوريين والآراميين وليس “العرب”! إن أقدم نص يذكر “العرب” وصفاً جغرافياً واسماً لجماعات دأبت على تهديد الحواضر السورية جاءنا من العصر الأشوري في زمن الملك شلمنصر الثالث الذي حكم ما بين 858 و824 ق.م. (كتاب “أول العرب”، تأليف لمياء الكيلاني وسالم الآلوسي ـ منشورات نابو، لندن 1999. صفحة 12). ويبدي الرفيق الدكتور مجاعص في رسالته رأياً مغايراً وملفتاً بهذا الشأن، فيقول: “أنا لا أوافق على القول إن الجزيرة العربية هي مهد الساميين. هذا تبسيط كبير. إن الدراسات الجينية الحديثة لا تتوافق مع هذه النظرية (…). وبعض الدراسات التي مرّت علي تقترح أن ما يظهر على شكل هجرات هو في الواقع تحرك بشري من البادية إلى الحضر في أطراف سورية وليس من جزيرة العرب”.
وبانتظار أن تنتشر هذه الأفكار الجديدة على مستوى واسع بين الباحثين والمؤرخين، فنحن نملك حقائق مدعومة بالاكتشافات الأثرية تؤكد أن جماعات متحضرة كانت موجودة في الهلال الخصيب، أنشأت الممالك ووضعت أسس المدنية في العالم القديم. ورغم أن العلماء لم يستطيعوا حتى الآن تحديد الأصول العرقية للسومريين، إلا أن ما حققه هؤلاء كان قاعدة للتطور ليس في سورية الطبيعية فحسب بل في المناطق المجاورة أيضاً. فالمدن السومرية هي مهد الحضارات الإنسانية، وقيمها الإبداعية احتوت مقومات التقدم البشري. ولذلك فإن الهجرات القادمة (بغض النظر عن مصدرها) كانت تتفاعل مع بيئة حضارية راسخة تمهيداً لاستيعابها. بل أن علماء الآثار يتحدثون عن “العُبيديين” الذي سبقوا السومريين بحوالي ألف سنة، وأنشأوا في معظم أنحاء الجناح الشرقي للهلال الخصيب مجتمعات زراعية مزدهرة. (“ديوان الأساطير ـ الكتاب الأول”، قاسم الشواف وأدونيس. دار الساقي، بيروت 1996.)
الهجرات “السامية”، أو “التحركات البشرية الداخلية”، في الألف الثالث ق.م. بصورة عامة لم تأتِ غازية فاتحة كما حدث مع حملات الفرنجة (الصليبيين) والمغول والعثمانيين الترك، لذلك لم يحدث انقطاع في مجرى الحياة الاجتماعية والثقافية في سورية. فبعد عقود من الاستيطان والاندماج، تمكن الآكاديون من السيطرة وتوحيد البلاد بقيادة سرجون الآكادي. لكنهم استوعبوا كل شيء وتبنوا التراث الموجود: اللغة والكتابة والدين والتنظيمات الإدارية والتخطيط المديني والفنون. يقول عالم السومريات المشهور صمويل نوح كريمر (1897 ـ 1990) في كتابه “التاريخ يبدأ من سومر” (صفحة 39): “إن المنتصرين الساميين لم يكتفوا باستعارة الخط السومري بل حافظوا بشدة على الأعمال السومرية الأدبية، فدرسوها وقلدوها حتى بعد أن كانت اللغة السومرية قد بطلت أن تكون لغة محكية”. والأمر نفسه ينطبق على الهجرات اللاحقة التي اتبعت المسار ذاته تقريباً: استيطان، وتفاعل، واستيعاب للثقافة المحلية، والاندماج في دورة الحياة، ثم السيطرة على مقاليد البلاد والعمل على توحيدها عندما تسنح الفرصة. ويصف كريمر النتيجة بقوله: “إن الانجازات السومرية في الحقيقة هي نتاج تفاعل ثلاث جماعات عرقية على الأقل: السومريون والساميون والإيرانيون القدماء”.(صفحة 295)
نشر كريمر هذه الآراء في أربعينات القرن الماضي. وبعد نصف قرن، أي في أواخر التسعينات، أصدرت عالمة السومريات البريطانية هارييت كروفرد كتاباً بالإنكليزية عنوانه “سومر والسومريون”، عززت فيه ما سبقها إليه كريمر. واعتماداً على المكتشفات الآثارية في الهلال الخصيب، ووجود ترجمات دقيقة للمئات من الألواح المسمارية، توصلت المؤلفة إلى النتيجة التالية: “من الصعب تحديد مدى نسبة هذه الانجازات (الحضارية) إلى الناطقين بالسومرية أو مدى نسبتها إلى الناطقين بالسامية. لكن الأمر ليس مهماً، إذ يبدو أنه كان هناك تمازج بين المكونات السكانية أنتج هذه المدنية المميزة…”. وأضافت قائلة: “كانت هناك فكرة سابقة ترى أن موجات الناطقين بالسامية لا بد وأن تكون قد سببت صراعات داخلية وربما وقوع إبادة. غير أنه لا توجد سوى أدلة ضعيفة على الصراع ولا أدلة أبداً على الإبادة. ويظهر أن التغيير تم تدريجياً بفعل التسرب خلال فترة طويلة من الزمن قد تصل إلى ألف سنة”. (الصفحتان 20 و21). أي أنه لم يحدث انقطاع في مجرى الحياة الحضارية في سورية.
وقبل أن نُقيّم الفتح العربي ـ الإسلامي وفقاً للمقياس المستعمل أعلاه، يجدر أن نعود إلى نظرية سعاده في التاريخ. فنراه يعدّد في مقدمته للطبعة الرابعة من شرح المبادئ العناصر التي تكوّنت منها الأمة السورية، والفتوحات والغزوات التي مرّت عليها. (الأعمال الكاملة، الجزء 7. صفحات 315 ـ 318). ويصف بعض تلك العناصر بأنها “متجانسة مع المزيج السوري”، مشدّداً في مقاطع عدة على “المزيج السلالي المتجانس”. ونظراً إلى الأهمية التي يسبغها سعاده على عامل “التجانس” في نشوء المتحد الاجتماعي الراقي في سورية الطبيعية، فإني أعتقد بأن مبدأ “التجانس” يشكل إحدى الركائز الأساسية في نظريته التاريخية.
ونصل أخيراً إلى مرحلة الفتح الإسلامي ـ العربي، بهدف المقارنة بين هذه الموجة “السامية” الجديدة من جهة وبين الموجات “السامية” السابقة من جهة أخرى. (ومنها الآكاديون والبابليون والكنعانيون والأشوريون والآراميون…). فما هي الصورة التي ترتسم أمامنا؟
إن الموجات البشرية والهجرات الواسعة، سواء من الجزيرة العربية أو من غيرها، والتي سبقت الغزو الفارسي (القرن السادس ق.م.)، ثم الاجتياح اليوناني المدمّر بقيادة الإسكندر المقدوني (القرن الرابع ق.م.)، اتبعت مسار التفاعل والاندماج الذي مكنها من تبني الثقافات والأنماط المحلية. لكن الفتح العربي ـ الإسلامي شذّ عن ذلك المسار، مسبباً قطيعة معرفية في ثلاثة أمور جوهرية في حياة الأمة:
أولاً ـ حمل الفاتحون العرب ديناً جديداً يختلف عن الاتجاهات الروحية السائدة في سورية، وفي مقدمها الدين المسيحي. وقد أقام الإسلام المنتصر قطيعة إيمانية واضحة مع الماضي في الجزيرة العربية، فبات ما قبل الدعوة المحمدية مجرد “جاهلية ذميمة”. لكن النزعة الأخطر تمثلت في القطع مع المستقبل أيضاً: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة 3)، {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران 19). وإذا أضفنا إلى ذلك كون الرسول محمد “خاتم النبيين” (الأحزاب 40)، فهذا يعني أن سورية بعد الفتح وجدت نفسها محكومة بالتطور في اتجاه مرسوم كبلته الاعتبارات الدينية الماورائية. ويوجز الحسن بن يسار البصري (642 ـ 728)، أحد أبرز فقهاء عصر صدر الإسلام، الوضع بالعبارة التالية: “أمتكم (يقصد المسلمين) آخر الأمم. فلا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم”.
ثانياً ـ إلى جانب الإسلام الذي سرعان ما أصبح دين الحكام الجدد، كانت هناك اللغة العربية المرتبطة عضوياً بالقرآن: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (يوسف 2)، {قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلكم تتقون} (الزمر 28). لقد مرّت على سورية هجرات عدة تتكلم لغات مختلفة. وكان من السهل على السوريين استيعابها في سياق التفاعل والاندماج. وانطبق ذلك على اللغة العربية كونها من أرومة الآرامية السريانية، التي كانت اللغة القومية عند الفتح. لكن ارتباط اللغة العربية بالقرآن أدى أيضاً إلى قطيعة مع التراث السوري المكتوب باللغات الأخرى.
ثالثاً ـ قلنا في فقرة سابقة إن البنية الاجتماعية في الجزيرة العربية تقوم على الانتماء القبلي. وتذكر المصادر التاريخية أن بعض غزوات المسلمين تم تنظيمه على أساس قبلي. كما وأن توزيع الأراضي السورية المفتوحة أخذ في الاعتبار هذه الناحية. ومن المعلوم أن الغزاة عادة ما يندمجون في الأطر المدينية الراقية. إلا أن العكس هو الذي حدث مع الفاتحين العرب، فهم “قبلنوا” (من قبيلة) المجتمع السوري عوضاً عن أن “يتمدينوا” (من مدينة). فاندلعت صراعات بين قيسي ويمني، بين أنصاري ومهاجر، بين هاشمي وسفياني، بين أموي وعباسي، بين عربي وشعوبي… ثم نشأ نظام الموالي كطريقة لتعزيز الانتماء القبلي، وهكذا.
وأخيراً نختم بالقول إنه من الصعب تناول تاريخ سورية بمعزل عن هذه الاعتبارات، والأمر نفسه يسري على تاريخ العرب في موطنهم الأصلي قبل الإسلام. فالقراءة النقدية المنزهة عن الظروف الآنية المتغيرة بطبيعتها، وحدها كفيلة بتوضيح الخطوط الكبرى للتاريخ السوري الحضاري. إن كتابة التاريخ العربي منذ المراحل الأولى خطوة مفيدة للإضاءة على جوانب من تاريخ سورية الطبيعية. لكن لا يجوز للمؤرخين أن يتعاملوا مع الأدلة بطريقة قسرية، من أجل إثبات فكرة سياسية أو إيديولوجية مسبقة. ذلك أن الكتابة التاريخية الموضبة والمعلبة لها صلاحية زمنية محدودة تصبح بعدها خارج التاريخ!
——————————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذا البحث باتفاق خاص مع مؤسسة سعادة للثقافة، ومجلة فينيق.