[ كنّا قد نشرنا دراسة الباحث علاء اللامي: الفرهود وتهجير اليهود العراقيين – قراءة جديدة في الخلفيّات – التي تضمّنت نقداً لمقاربات ومواقف فكرية للسيد كاظم حبيب، الذي بدوره كتب رداً على ما جاء في دراسة الأستاذ اللامي ونشره في موقعي الحوار المتمدن والمثقف (https://www.almothaqaf.com/a/opinions/952425) -رابط مقالة كاظم حبيب . ننشر في مايلي رد الأستاذ علاء اللامي على مقالة الأستاذ كاظم حبيب]
جاء رد السيد كاظم حبيب، الذي نشره في موقعيِّ الحوار المتمدن والمثقف، على مقالتي – والتي هي كما أشرت جزء أول من دراسة طويلة لم أنشر جزأها الثاني بعد – جاء رده منفعلاً وعصبياً وشتائمياً إلى درجة تثير الدهشة فعلاً، ليس لقسوتها فقط، بل أيضاً لأنها تأتي من رجل متقدم في السِّن وفي التجربة كما يُفترض. فهو يصف قولي إن مقالته عن الفرهود في بعض فقراتها “لا تخلو من تملق الدولة الصهيونية التي بادرت إلى إعادة نشرها في الموقع الرسمي لوزارة خارجيتها”، يصفه بأنه (ادعاءات وأحكام غير مبررة واتهام تافه) في جملة واحدة، وفي جملة أخرى يصفه بـ (التهمة الدنيئة) في جملة أخرى (بالاتهام الخبيث الدنيء) وفي أخرى يعتبرها (اتهاماً لا يليق بكاتب يحترم نفسه). كل هذه الشتائم من كاظم حبيب “الذي يحترم نفسه وسنَّه” لها دلالة واحدة تعبر عن شدة الصدمة التي أصيب بها حتى انكشف تماماً موقفه الفكري والسياسي التطبيعي والممالئ للدولة الصهيونية والمروج لصديقه الكاتب الصهيوني الإسرائيلي الذي يصفه بأنه “محب لدولته إسرائيل” شموئيل موريه، صدمة تسببت بها مقالة واحدة تجرأ صاحبها على مقاربة الحقيقة في موضوع الفرهود وتهجير اليهود العراقيين من منطلق الدفاع عنهم ولكن ليس على حساب الحقائق، فاستشاط حبيب غضباً وراح يقذف بالشتائم يمينا وشمالا، وراح يعيد ويكرر متباهياً أنه كتب كتاباً يقع في ثمنمائة صفحة حول “يهود العراق ومواطنتهم المنتزعة”، مروجاً نفسه ومادحاً إياها بالقول (تبلورت لديّ أثناء دراستي ما سجلته من رؤية تحليلية واقعية وموضوعية) مؤكداً ببهجة لا تخفى أنه أورد في كتابه ذي الثمانمائة صفحة، وقبل عشر سنين من الآن (ما يكفي من البراهين والأدلة والوثائق التي يجد فيه القارئ والقارئة الردّ المفحم ضد ادعاءاته – علاء اللامي – الفارغة واتهامه السيء والمعيب والمسبق الصنع الذي طرحه علاء اللامي ضدي). ولكن لغة الوقائع على الأرض تقول لنا شيئا آخر:
لم يرد كاظم حبيب أو يناقش أياً من الأسانيد والوثائق – ومنها وثائق إسرائيلية سرية كشف النقاب عنها مؤخراً – والآراء والمعلومات التي أوردتها اقتباساً عن الدكتور عباس شبلاق، وعن الإسرائيلي نائب رئيس الموساد السابق نحيك نفوت، والأستاذة الجامعية اليهودية المنصفة إيلا شوحط، ولا للوثائق المهمة التي نشرها موقع “jewishrefugees” باللغة الإنكليزية والعائد بعضها لعصابات الهاغاناه الصهيونية، ولا لأقوال المحامي الإسرائيلي من أصل عراقي كوخافي شيمش والتي تؤكد كلها مسؤولية الكيان الصهيوني ومخابراته ومعها مسؤولية حكومة النظام الملكي الهاشمي في العراق عن أحداث الفرهود وتهجير اليهود العراقيين القسري وتنسف كل الثرثرة المملة التي كتبها كاظم حبيب في مقالته الأولى، وعاد وكررها في مقالته الجوابية وكأنه لم يقرأ من مقالتي سوى تلك الجملة ( يقول علاء اللامي: أن المقالة “لا تخلو من تملّق الكيان الصهيونيّ ومؤسّساتِه الإعلاميّةِ والسياسيّة”)، فثارت ثائرته وطاش لبُّه، كيف لا وقد تعود على تصفيق المداحين وردح الرداحين! عفواً، لقد اقتبس حبيب – والحق يقال – أربع فقرات من مقالتي ولكنه تركها معلقة كما هي في نص مقالته دون تعليق، فهل هذه طريقة جديدة في النقد والسجالات الفكرية؟
من جهة أخرى، لم يُثبت حبيب لقارئه كيف كان كلامي عن تملّقه للكيان الصهيوني “ادعاءات واتهامات تافهة وخبيثة ودنيئة من كاتب لا يحترم نفسه”، وهل ينكر أن مقالته تلك قد نشرت في موقع وزارة خارجية الدولة الصهيونية فعلاً، وأنني افتريت عليه وكذبت في هذا الصدد؟ ثم إنني لم أقل إن كاظم حبيب نشر مقالته هناك بل قلت حرفياً (بادرتْ وزارةُ الخارجيّة الصهيونيّة إلى نشر فقراتٍ ضافيةٍ من دراسته، ضمن مقالةٍ إطرائيّةٍ بقلمه أيضًا، حول مذكّرات الأديب الإسرائيليّ من أصل عراقيّ شموئيل موريه)، أم أنه يعترف بتلك الواقعة ويتبرأ من المسؤولية الشخصية عنها؟ وهنا، فهذه مشكلته هو، ولا علاقة لها بالسجال السياسي معه حول موضوع تاريخي وسيامجتمعي آخر، ومن الأفضل أن يتعلم كيف يجيد كتابة أفكاره في جمل وفقرات واضحة ودقيقة، فالتباهي بالمؤلفات وبعدد صفحات كتبه ومديحه لنفسه وطريقته في الكتابة “الموضوعية”، فكل هذا بات يعتبر في النقد الحديث نوعاً من النزعات النرجسية والانفصال عن الواقع.
لنعد إلى المقالة الرد لكاظم حبيب، غاضّين النظر عن السرد الطويل فيها حول الوضع السياسي في عراق الأربعينات، ومواقف الحزب الشيوعي العراقي من انقلاب الكيلاني الذي انقلب من التأييد الحماسي للانقلاب إلى المعارضة التامة، ومحاولات حبيب شيطنة الاستقلاليين العراقيين والقوميين منهم خاصة. وتحويل هؤلاء إلى نازيين هتلريين صرحاء رغم أنوفهم وأنف التاريخ، وليسوا ساسة استقلاليين ضد الاحتلال البريطاني يبحثون عن أي حليف دولي ليساعدهم على نيل استقلال بلادهم. ومتى؟ في وقت لم يكن فيه التعامل وحتى التحالف مع ألمانيا النازية العنصرية آنذاك وكما يعرف الجميع مثلبة أو جريمة. أقول هذا رغم احتقاري ورفضي كماركسي للنازية العنصرية التي لا تختلف كثيرا عن الصهيونية العنصرية المعاصرة ودولتها المسخ الخرافية الأيديولوجية “إسرائيل”، فقد عقدت الدول الأوروبية بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا مع هتلر اتفاقية ميونخ في 30 أيلول/ سبتمبر 1938، وعقد الاتحاد السوفيتي اتفاقية مع هتلر في عهد ستالين هي اتفاقية “مولوتوف – ريبنتروب” ووقعت في العاصمة السوفيتية موسكو بحضور ستالين شخصيا في 23 آب/أغسطس 1939، وتم بموجبها اقتسام بولندا بينهما، إضافة إلى استيلاء الاتحاد السوفيتي على إستونيا ولاتيفيا وليتوانيا وأجزاء من فلندة، واستقبال ستالين شخصيا لريبنتروب وزير خارجية هتلر. كل هذا حدث قبل سنتين فقط من حركة الكيلاني والعقداء الأربعة، وقبل سنة واحدة من زيارة مفتي القدس إلى برلين ولقائه بهتلر في تشرين الثاني / نوفمبر 1941. وهكذا يكون في عرف وموضوعية كاظم حبيب حلالاً على ستالين أن يوقع معاهدة دولية مع هتلر، وحرام على غير ستالين كالحسيني الذي تطارده بريطانيا كإرهابي بعد فشل ثورته المسلحة لتحرير فلسطين، التي ستمنحها بريطانيا لاحقاً للحركة الصهيونية زيارة برلين ولقاء هتلر! وعموماً، لن أتوقف طويلاً عند هذه التشنيعات، فقد قلت ما يكفي لتفنيدها في مقالتي ولم يرد حبيب على النقاط المحددة التي أثرتها بل راح يسهب ويلف ويدور ويكرر قناعاته الفاسدة ذاتها التي كتبها في مقالاته وكتابه.
ولكي يحاول حبيب التخفيف من تملقه للكيان الصهيوني، يكرر علينا الأفكار التبريرية ذاتها التي أخذت تكررها وزارة خارجية دولة عيال زايد ودول المتصهينين العرب الآخرين والمتساقطين في مستنقع التطبيع هذه الأيام، وكأنهم يقتبسونها حرفياً مما كتبه كاظم حبيب حيث قال مبرراً تطبيعيته وترويجه للدولة الصهيونية، لقد (اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل وكذلك عديد من الدول العربية وتقيم معها علاقات دبلوماسية منذ سنوات، منها مثلاً مصر والأردن، إضافة إلى دول عربية جديدة أخرى. كما إنها – إسرائيل- دولة عضوة في الجمعية العامة للأمم المتحدة). وبعدها يقفز حبيب إلى اعتبار العدو هو علاء اللامي وأمثاله لأنهم (جزء من النهج والسياسة والخطاب التدميري الذي تعرضت له القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني من جراء تلك المزايدات البائسة)، مسجلاً على اللامي “جريمة” جديدة وهي أنه يستعمل في مقالته تعبير “الكيان الصهيوني”، لأن هذا التعبير كما يقول حبيب هو (الذي تمارسه القوى القومية اليمنية المتطرفة وقوى الإسلام السياسي المتطرفة وإيران)! وباختصار ووضوح، فالسيد كاظم حبيب لا يكتفي بأنه ارتضى لنفسه الوقوع في مستنقع التطبيع والصهيونية بل يريد أن يجبر الآخرين على السقوط معه فيه، ويقسرهم على استعمال مصطلحاته الكتابية والتخلي عن مصطلحاتهم ولغتهم الخاصة بهم.
في نهاية مقالته، يتبرأ حبيب من عار نشر مقالته في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، فيحاول التخفيف من وطأته أيضاً: أولاً، بالقول إنها لم تكن مقالة تلك التي نشرها موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية بل مقتطفات من مقالة، وثانياً، بالقول إنه ليس (مسؤولاً عن هذا النشر، إذ أن عشرات المواقع الديمقراطية العراقية والعربية وغيرها قد نشرت هذا المقال). وطبعاً، لم يتوقف حبيب عند دلالات إقدام موقع الخارجية الصهيونية على نشر المقال كاملاً ويضمنه فقرات إضافية من مقالته حول الفرهود، ولم يتساءل: هل تنشر الخارجية الصهيونية مقالات لعراقيين أو عرب أو حتى ليهود تقدميين آخرين إن لم يكونوا يدافعون عن الكيان أو يتملقونه ويروِّجون قناعاته العنصرية الخرافية؟
لنلقِ نظرة الآن على مقالة حبيب الأخرى التي تبرأ من نشرها في موقع وزارة الخارجية الصهيونية، لنرى بوضوح أشد عدداً من المقولات الصهيونية التي يروجها كاظم حبيب ثم ينسى أو يتبرأ من أنه يروجها، ففي معرض امتداحه للكاتب الإسرائيلي الصهيوني -المولود في العراق – شموئيل موريه، يكتب في مقالته تلك دفاعاً حاراً عن إسرائيلية موريه و”حبه لدولته إسرائيل”، وقد لا يتوانى كاظم حبيب عن امتداح حب شموئيل للمنزل الذي يعيش فيه بعد أن اغتصبه – كسائر المستوطنين آنذاك كما نرجح – من أسرة فلسطينية تعيش في مخيمات اللجوء الآن، فيكتب (لا شك في إن الرجل المحب لبغداد – شموئيل موريه – وأهلها والذي أجبر على الهجرة إلى إسرائيل يحب بلده إسرائيل ودولته، سواء أكان موافقاً على سياسات الدولة وحكوماتها المتعاقبة أم اختلف ويختلف في بعض منها ومع هذه الحكومة أو تلك. وهو أمر طبيعي لكي لا يذهب بالبعض منا تصور خاطئ، وأعني بذلك إن حبه لبغداد وأهل العراق يجعله ضد إسرائيل أو غير محب لها. فإسرائيل وطنه الجديد بعد أن طرد من وطنه الأول، العراق… وأن حبه لوطنه إسرائيل وحبه لشعبه يتحركان فيه دوماً)! وكيف لنا أن نشك في “حب موريه لإسرائيل وشعب إسرائيل” فهو مفهوم؟ ولكن شكنا سيطول كل من يروِّج له ويدافع عن أمثاله ثم يدعي التقدمية، ولن ترهبنا اتهاماته بالتطرف والإرهاب، خصوصاً وأن هناك يهوداً عراقيين وغير عراقيين شرفاء ومناهضين للصهيونية رفضوا أن يعيشوا في دولة الكيان وعاشوا كسائر المنفيين والمهاجرين العراقيين في الدول الأوروبية وغير الأوروبية ومنهم أقلام وشخصيات تقدمية معروفة لكاظم حبيب وسواه، وقد عرفت بستة وثلاثين منهم، بينهم يهود عراقيون وعرب وأجانب في سلسلة موجزة ومصورة نشرتها في كتيب صغير تبدأ بالمناضل الماركسي الراحل إبراهيم سرفاتي من المغرب، وتنتهي بالروائي والحقوقي يعقوب كوهين من أصل مغربي يعيش في فرنسا ويحمل جنسيتها.
ولكن إذا أهملنا شتائم كاظم حبيب وتكراره لمقولات وزارات الخارجية في دول التطبيع والاستسلام الخليجية ومديحه لنفسه ولكتاباته فما الذي تبقى ليكون موجباً للرد على هذه الثرثرة الطويلة وكأنها صفة عريقة في كتابات الرجل الرتيبة والمملة؟ لا شيء تقريباً يستحق الرد أو الإشارة، ربما باستثناء رده على تعليلي لوقوع أحداث الفرهود المأساوية والمدانة بالظرف السياسي العراقي الذي كان قائماً آنذاك، أعني ظروف سحق القوات البريطانية لانقلاب مايس -آيار 1941 بقيادة السياسي العراقي رشيد عالي وحلفائه العسكريين العقداء الأربعة وإعدامهم وفرار الكيلاني لاجئا إلى السعودية وإعادة العائلة المالكة الهاشمية وعملاء بريطانيا إلى الحكم بالطائرات والدبابات البريطانية. إن كاظم حبيب يخطئني في هذا التعليل، فيكتب (كل الدراسات والبحوث المنشورة حتى الآن، وكل الوثائق التي تحت تصرفي والدلائل التي توصلت إليها من خلال قراءاتي لكثرة من تلك الكتب والأبحاث والاستقصاءات التي قمت بها واللقاءات التي أجريتها مع عدد كبير نسبياً ممن عاش تلك الفاجعة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، أو من عرفها عن قرب وعن تلك المرحلة، تبلورت لديّ أثناء دراستي ما سجلته من رؤية تحليلية واقعية وموضوعية، بشهادة من كتب عن الكتاب، لتلك الأحداث التي بدأت مع نهاية العشرينات وكل الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين في العراق، وكذلك ما كان يحصل في فلسطين وثورة الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات من القرن العشرين، سواء في المقال المذكور أم في كتابي المشار إليه: “يهود العراق والمواطنة المنتزعة”…) رغم ركاكة هذه الفقرة لغويا، وفوضويتها الأسلوبية المعيبة، يمكننا أن نفهم منها أن كاتبها يعتقد بأن أسباب واقعة الفرهود أو ما يسميها هو “فاجعة اليهود” بدأت في نهاية العشرينات وكل الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين، وكأن اليهود العراقيين كانوا يعيشون حالة حرب شُنت عليهم من الغالبية العربية المسلمة طوال ثلاثة عقود، وهذا رأي لم يقل به أشد اليهود العراقيين تطرفاً وصهيونيةً كالحاخام عوباديا يوسف زعيم حركة ساش الصهيونية المتطرفة – المولود في البصرة العراقية سنة 1924-، بل إن حبيب يوضح هذه الفرية الملفقة في عبارة أخرى يقول فيها (لقد بدأ التمييز والعداء لليهود في العراق بوقت مبكر من ثلاثينيات القرن الماضي وأصبح واضحاً حين أصدر، ولأول مرة، وزير الاقتصاد والمواصلات أرشد العمري في عام 1934، وبموافقة الحكومة العراقية ورئيسها علي جودت الأيوبي، قراراً بفصل 150 موظفاً في وزارته كلهم من يهود العراق بحجة النشاط الصهيوني). إن تعليلات كاظم حبيب لحدثي الفرهود وتهجير اليهود العراقيين تنطوي على تبرئة ضمنية ولكنها واضحة للكيان الصهيوني ومخابراته من جريمة استهداف اليهود العراقيين لدفعهم الى الهجرة وهي تبرئ أيضا الاستعمار البريطاني ونظام الحكم الملكي التابع له في العراق من المساهمة الفعلية في تلك الأحداث المأساوية.
أما الواقع التاريخي على الأرض فينسف كل هذا الهراء بضربة واحدة، ويقول لنا، إن حكاية تهجير اليهود العرب من بلدانهم كانت خطة صهيونية في الأساس، شاركت في تنفيذها الأنظمة الرجعية العربية في المغرب واليمن والعراق وكانت تبحث عن أي مبرر. لنقرأ هذه الخلاصة التي كتبها الروائي اللبناني نبيل خوري في مقالة له بعنوان “من قتل المهدي بن بركة – كيف مهدت إحدى أكبر الجرائم السياسية للتطبيع المجاني الحاصل حالياً بين دول عربية واسرائيل؟” كتب (الحكاية بدأت بعد موت الملك محمد الخامس، وتسلم الحسن الثاني العرش عام 1961. ففي الفترة الممتدة بين تشرين الثاني -نوفمبر 1961، وربيع 1964، أنجزت العملية التي يطلق عليها الاسرائيليون اسم “عملية ياخين”. وعملية “ياخين” هي جزء من سلسلة عمليات كان هدفها تهجير اليهود العرب: فكانت عملية “بساط الريح” في اليمن 1949-1950، وعملية “عزرا ونحميا” في العراق 1950-1952، و”ياخين” في المغرب. هذه العمليات الثلاث تمت بالتواطؤ والتعاون مع حكام هذه الدول، وكان لا بد من اليهود العرب لسد النقص الديموغرافي اليهودي في اسرائيل. هذه العمليات الثلاث كانت التطبيع الذي مهّد للتتبيع الحالي، لأنها كشفت أن الأنظمة الاستبدادية ساهمت في تأسيس دولة اسرائيل، وكانت شريكاً للصهيونية في طرد الفلسطينيين من أرضهم، وفي تأسيس ثنائية الاستبداد- الاحتلال التي تهيمن على العالم العربي/موقع صحيفة “السفينة” عدد 24 آب -أغسطس 2020).
وكعادته، لا يكلف حبيب نفسه عناء التساؤل فيما إذا كانت هذه الممارسات ضد اليهود العراقيين التي ينسبها مثلاً لرئيس الوزراء الملكي علي جودت الأيوبي وغيره من مسؤولين ملكيين عراقيين هي تصرفات فردية تحسب على من قام بها في مجتمع تعددي منفتح كالمجتمع العراقي آنذاك، أم إنها نتاج تعاون بين النظام الملكي الهاشمي العميل لبريطانيا وبين الكيان الصهيوني، وهو التعاون والتنسيق الذي اعترف به الصهاينة أنفسهم وذكرنا في مقالتنا أمثلة عليه وردت في وثائق سرية للموساد وغيره، ونشرت في كتب ومقالات لإسرائيليين، وبلغت درجة التفاوض بين توفيق السويدي وعميل الموساد شلومو هليل لاحقاً، كما يخبرنا د. عباس شبلاق في كتابه (هجرة أمْ تهجير: ظروفُ وملابساتُ هجرة يهود العراق) الذي اقتبسنا عنه، لتسهيل تهجير اليهود العراقيين إلى الكيان الصهيوني بكل الوسائل والدوافع والطرق بما في ذلك تفجير القنابل في كنيس “مسعودة شنطوف” ببغداد وقتل اليهود أنفسهم! في حين أفادت شهادات أخرى ليهود عراقيين كانوا من ضحايا التهجير إن المفاوضات جرت بشكل غير مباشر بين نوري السعيد وبن غوريون بواسطة شلومو هليل ومن هؤلاء المحامي شميش والناشط المدني صديق صديق الذي قال لصحيفة المشهد الإسرائيلي (“أنا مولود في العراق. وهاجرت إلى إسرائيل في العام 1951. ولم أهاجر وحدي، وإنما بلغ عدد العراقيين الذين جاؤوا إلى إسرائيل في هذا العام قرابة 130 ألف عراقي”. وقال ايضاً: ومجيئنا إلى إسرائيل تم من خلال مؤامرة وصفقة جرى تنفيذهما في العام 1949، في سويسرا بين [رئيس الحكومة العراقية] نوري السعيد ودافيد بن غوريون [رئيس حكومة إسرائيل]. وقضت هذه الصفقة ببيع يهود العراق، من خلال مغادرتهم لبلادهم والمجيء إلى إسرائيل”. وقال في المقابلة: “إحدى الوسائل التي استخدمت لإرغام يهود العراق على مغادرة وطنهم هي أن الحركة الصهيونية، بواسطة عملائها، نفذت تفجيرات في كنس اليهود، من أجل أن يقال إن العرب يفجرون الكنس كي يطردوا اليهود. لكن تم إلقاء القبض على يهود كانوا ضالعين في تفجير الكنس اليهودية في بغداد/ مقالة لمحمد محفوظ جابر على صفحة “الضفة الفلسطينية عدد 14 تشرين الثاني –نوفمبر 2012 ). الراجح عندي أن المفاوضات بين الحكومة الصهيونية والحكومة الملكية العراقية بدأت في حكومة السويدي التي انتهت عهدتها في 15 أيلول سنة 1950 واستمرت في عهد حكومة نوري السعيد التي خلفتها مباشرة.
إن تعليل أحداث الفرهود بـ “روح العداء لليهود لدى العرب والمسلمين” هي مقولة عنصرية أشاعها الإعلام الصهيوني الإرهابي نفسه، وقد رد عليها كتاب تقدميون وموضوعيون يهود وإسرائيليون كثر، أذكِّر هنا بما قالته الأستاذة الجامعية إيلا شوحط بهذا الصدد حيث كتبت – وكأنها ترد على ما كتبه كاظم حبيب تحديدا- (إنّ إدانةَ العنف الذي مورِس ضدّ اليهود خلال الفرهود يجب ألّا يُستغلَّ “لمساواة العرب بالنازيّين، وتكريسِ السرديّة المزوّرة حول العداء الإسلاميّ الأبديّ للساميّة.” وتمضي شوحَط أبعدَ من ذلك، فتتّهم الخطابَ الأورومركزيّ بإسقاط تجربة إبادة اليهود في أوروبا على ما حدث في العراق، مسجّلةً “أنّه خلال أعمال الفرهود حمى بعضُ المسلمين جيرانَهم من اليهود،” وأنّ أقلّيّةً من اليهود بقيتْ رغم الفرهود وبعد التهجير الجماعيّ في وطنهم العراق. ومن أسباب بقاءِ هؤلاء، في رأي شوحَط، “أنّهم اعتبروا أنفسَهم عراقيّين أوّلًا وأساسًا، و/أو لأنّهم اعتقدوا بأنّ هذه عاصفةٌ ستمرّ، و/أو لأنّهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم.”. وكمثالٍ على ذلك، تذْكر شوحَط عائلةَ كبير حاخاماتِ اليهود العراقيّين، الحاخام ساسون خضوري، إذ إنّ “أكثرَ أبنائه هاجروا إلى إسرائيل، فيما بقي بعضُهم الآخر في العراق،” وفي مقدّمتهم الحاخام خضوري نفسُه وابنُه شاؤول حتى وفاة الأوّل ببغداد سنة 1971) هذا الكلام للباحثة اليهودية المنصفة إيلا شوحط كنت قد اقتبسته في مقالتي ولكن كاظم حبيب لم يأبه له، أو ربما لم يره ويقرأه في غمرة انفعاله وغضبه من وصفه بالتملق للكيان الصهيوني. والحقيقة هي أنني ربما تسرعت في وصفه بالمتملق للكيان الصهيوني فهو أسوأ من المتملق بكثير بعد أن أماط هو اللثام عن أفكاره المتصهينة ويكشف عن حقيقة دوره كمروج للفكر الصهيوني، يكرر المقولات العنصرية الصهيونية ودون أدنى خجل أو ذكاء تحريري، ويطري ويمتدح الشخصيات الصهيونية وحبها لدولتها “إسرائيل” ويستقرأ وقائع التاريخ بعينين صهيونيتين عنصريتين تروجان للتطبيع ولما هو أسوأ من التطبيع، وهو في كل ذلك يغمض عينيه مزيداً من الإغماض عن فاجعة مستمرة أخرى هي فاجعة الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من وطنه ورمي به في مخيمات اللجوء ليستوطن في بيوته وقراه ومدنه أمثال صديقه شموئيل موريه، إذ يبدو أن كاظم حبيب لم يسمع بعد بفاجعة الشعب الفلسطيني أو أنه متخصص بنوع آخر من الفواجع.
حقا، لقد ألحق كاظم حبيب وأمثاله من تطبيعيين ومتصهينين، يحسبون أنفسهم على اليسار العراقي، عاراً ولطخة سوداء بتراث وسردية الحركة الشيوعية العراقية، التي عرفت تاريخياً بأنها الحركة الأكثر كفاحية وصدقاً في مناهضتها للصهيونية ماضياً، وانحازوا لانتهازية عبد القادر البستاني وجماعة باريس “اللجنة العربيّة الديموقراطيّة” في وثيقتهم المجللة بالعار (أضواء على القضية الفلسطينية). وها هي الجماعة المتصهينة تبعث من جديد في صورة كاظم حبيب وأمثاله، فتتآمر ضد تراث فهد وحزبه المناهض للصهيونية، وخانوا دماء شهداء اليسار العراقي بدءاً من شاؤول طويق، اليهودي العراقي اليساري المقتول برصاص الشرطة الملكية العراقية، لأنه تظاهر ضد الكيان الصهيوني ودفاعاً عن فلسطين وشعبها، ومروراً بشهداء العراق في صفوف المقاومة الفلسطينية ضد هذا الكيان. ولكن هذا العار وهذه اللطخة السوداء ستكونان – في حساب الأجيال والتاريخ – حكراً على هؤلاء المرتدين المتصهينين ولن تضر الشرفاء الأنقياء من جيل الثوريين الشجعان العظماء شيئا!
وأخيرا، فسيكون هذا هو ردي الأخير على السيد كاظم حبيب على الأرجح، إلاّ إذا تعلم كيف يساجل ويكتب ويرد على الآخرين باحترام ومنطق ولغة مفهومة وبلا شتائم لا تليق بسنِّه وأن يرد على نقاط محددة جاءت في مقالتي ردوداً واضحة ودقيقة!