الشرع الأعلى

الموسيقا والمواجهة الثقافيّة

ما هي الموسيقا التي تعبّر عن نفسيتنا؟

طالما تاقت نفسي إلى إيضاح ما نسمعه في ترهات يغلب تسميتها بالموسيقى الشرقية تارة، وتارة أخرى بالموسيقى العربية؟ وهي على الأصح موسيقى هجينة لا تمت بصلة إلى الحضارة المتقدمة في عصرنا الحاضر، على حضارات العالم القديم، وهذا قدر جميع الحضارات.

إنّ الاستعداد النفسي والروحي لسماع الموسيقى الجادة الآتية من الغرب الأوروبي نتيجة لجهد فني استمر عقود وقرون من الزمن، ما هو إلاّ إيقاظ لما ترسّخ من فعل حضارةٍ سبقت زمانها بآلاف السنين في نفسية شعبنا ذي القدرة على إستيعاب ما تنتجه تلك الحضارة الحديثة نسبة إلى ما أعطته الحضارة السومرية – السورية عبر آلآف السنين.

هناك فئة مجبولة على تقبّل ما تؤتمر به من المستشرفين “الأوادم”! نحن جماعة المتعاملين مع الإبداع الفني في كل مجالاته – وقد بلغنا سن الرشد من المعرفة الثقافية الموسيقية – أصبحنا خطراً على مخططهم “المفبرك” الداعي إلى التمسك بأذيال ما أفرزته “صالونات” قصور المماليك وورثتها العثمانيين لاغية التراث والثقافة الموسيقية المتوالدة عبر العصور، دافعة بنا إلى أحضان ما يسمى في حاضرنا بالعولمة – حتى لتراثنا الموسيقي الذي استحضرناه وأعطيناه زخماً فنياً علمياً ليماشي لغة العصر.

على أثر هزيمة حزيران 1967، لم يكتفِ اليهودي بانتصاره العسكري المتفوق وعربدته في العالم أجمع إنه هو مالك لزمام الأمور في سورية; بل كان ينتج ويفاخربتفوقه الحضاري – الثقافي، وبالموسيقى خاصة، مقارنة إلى تخلفنا بنظر الغرب الأوروبي والأميركي. وكان قادراً على فعل ذلك نظراً إلى تملكه لناحية الآوركسترات السمفونية الكبرى في كثير من بلدان الغرب، إضافة إلى ما تصدّره بعض الأقطار العربية من “نفائس” الفرق الموسيقية – الغنائية…! فدفعني ذلك الحال إلى كتابة عمل موسيقي هو الأحدث والأصعب تركيباً في القرن العشرين، والذي ظهرت بوادره في مدينة “فيينا” في الستينات (شونبرغ) وهو التأليف الموسيقي اللا- مقامي Atonale، وهدفي كان إسماع المراكز الثقافية في أوروبا، وكان أن قدمت سمفونية “الإنسانية” في العام 1970 في المبنى العالمي للموسيقى الذي ينظمه “المجلس العالمي للموسيقى” في الأونسكو في أحد قاعاتها في باريس، وقد سجلته أوركسترا المعهد الموسيقي الوطني في بيروت بعد أن نال جائزة أحسن عملٍ فني موسيقي في مباراة 1969.

وكان هذا العمل ضمن أعمال موسيقية اشتركت فيها معظم الدول الغربية والشرقية في أوروبا وأميركا، وقد صّنف من ضمن العشرة أعمال التي نالت القبول في هذا المنبر العالمي.

كان النشاط اليهودي – الصهيوني بالنسبة للموسيقى منتشراً في أكثر بلدان العالم – وقد تألفت له فرق موسيقية وغنائية وراقصة في الشام ولبنان وتونس والمغرب، وقد جاؤا حاملين موسيقى وأغاني تلك الأقطار- وهم كانوا يعزفون ويغنّون من نتاجها الغنائي فتلقّاهم الكيان الإسرائيلي وشكّل منهم فرقاً تعرض هذا التراث، وقد تحولت الكلمات العربية إلى اللغة العبرية – وهي لغوياً قريبة بجذرها من اللغة العربية الأم. وكان يصاحب هذه الجوقات منظرون علماء برتبة “بروفسور” ليبرهنوا عن أصالة وجودهم في أرض فلسطين – جنوبنا المحتل المقاوم – منذ عقود وقرون – مما يثبت أنهم هم أصحاب الأرض الأصليين زاعمين بالقول وبالفعل “هذا تراثنا يدل علينا”..؟!

في المجمع العربي للموسيقى – جامعة الدول العربية – جائتنا تقارير عن نشاط هذه الجوقات ومنها تقرير من مندوبها في كندا يعلمنا بأمر أحد هذه الفرق وكيف تتصرف بتراثنا الغنائي على أنه تراثاً عبرياً محضاً. فتحركنا لمجابهة هذه المسألة الخطيرة – وأقول تحركتُ وقمتُ بحملة إعلامية عبر وسائل إعلامنا المختلفة في مقابلات وأحاديث شددت فيها على خطورة هذه المسألة. وتالياً تقدمت بمشروع إنشاء فرقة موسيقية – غنائية مهرجانية على مستوى ما كنا نقدمه في بعلبك وفرقة الأنوار العالمية، وقد لمسنا في أثناء عروضها في المدن الأوروبية مدى إقبال الجمهور واستحسانه لها من باريس إلى فيينا وفرنكفورت وفيزبادن إضافة لبعض العواصم العربية.

على أن تتشكل هذه الفرقة الكبيرة والتي ستعرض تراثنا على حقيقته من أبرز العناصر الفنية العربية – لكن مساعينا اصطدمت بالخلافات المتفشية والمعروفة وانعكست على المشروع برمته، إضافة إلى عدم الاهتمام الرسمي وتقدير مدى فعالية الثقافة الفنية الراقية في مساندة قضايانا المصيرية.

لقد قمتُ بجهود إنتاجية لأعمال موسيقية عبّرت فيها عما اكتسبته من الثقافة والفكر القومي الاجتماعي:

  • “القصيدة السمفونية” ببيروت 1982 “عن احتلال الجيش الإسرائيلي لمدينتي بيروت حتى انسحابه منها.
  • سمفونية “السلام” – السلام لا الاستسلام ولا سلام “الشجعان”…! بل سلام العز والعنفوان.
  • سمفونية “فوق البنفسجية” التي تعبّر عن مدى تأثرنا بالأحداث العلمية العالمية والتي كنا من المبتكرين الأولين لها.

وهذه الأعمال منشترة على CD سمفونيات لتوفيق الباشا

وإني أعتبر كل ما قمت به من نشاط موسيقي وثقافة موسيقية هو نتيجة ليقظة نفسية – روحية حملتني مسؤولية الترفع في مهمتي في مجالي الذي اخترته – الموسيقى، مما دفعني للاتقان في كل عمل قمنا به ومناهضة كل ما يسيءإلى سمعتنا الفنية، إنها المدرسة القومية الاجتماعية التي تعلمنا فيها من زعيمها سعادة – وإذا كان هناك من رأي آخر؟ فلنعد إلى فكره في ما أرسله على لسان سليم بطل قصة “فاجعة حب” المثالية عندما سأله صديقه بهيج: “ما رأيك يا سليم في موسيقانا؟!

سليم: “الحقيقة، يا صديقي، إنه ليس لنا موسيقى تُعدّ نتاج نفسيتنا “نحن السوريين من حيث أننا قوم لنا مزايا خاصة بنا”، ويتابع سليم: “إن الألحان التي نسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا بل هي “مما دخل على تقاليدنا وعادتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب”.

ويضيف سليم: “إن الفن الموسيقي أصبح مطلباً أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه، ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف “السامية والأفكار الكبيرة التي تعبر عنها موسيقى أمثال “بيتهوفن (Beethovin)  الذي بلغ من الفن الموسيقي “حد الألوهية، لأن مؤلفاته السمفونية استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة؟ وكأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس، وهذه هي صفة الموسيقي العبقري كما هي صفة الشاعر والأديب”.

… نعم، قرأنا الرسالة وعملنا بها لأنها ما زالت – كما الرسالات الخالدة – تعرض لحالتنا الموسيقية، سلباً وإيجاباً، لترشدنا إلى الكمال في الإنتاج والترفع في العطاء.

———————————-

تنويه: مصدر المقال: مجلة فكر – العدد 80 كانون الثاني – أيار 2003.

توفيق الباشا

مؤلف موسيقي وقائد أوركسترا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق