جماليات

القول الملتزم وإنشاء الحياة

قراءة استعاديّة في كتاب أنطون سعادة: الصراع الفكري في الأدب السوري (5/3)

مقدمة

قُدّر لي أن أتعرّف إلى عظيمين مظلومين من بلادي.. وهذان المظلومان مبدعان.. متوقِّدان… سرى وهجهما الفكري والسياسيّ والفنيّ إلى قلب الأمة… ومع ذلك فلا يزالان مظلومين على الرغم من أنّ كلاهما قد أسس حزباً سياسياً رائداً…

فأُعدم الأول رمياً بالرصاص ظنّاً من رجال السلطة يومذاك أنّ في إعدامه تغييباً لصوته ولمنهجه في الحياة..

وشُرّد الثاني.. وجاع.. وماتت أمّه دون أن يستطيع شراء دواءٍ لها.. وكاد يُعدم جوعاً لولا أن تداركه الله بالرئيس حافظ الأسد الذي أعاد إليه في أواخر أيامه بعضاً ممّا خسر، في شبابه.. وقد يكون هو من أمر بطباعة مؤلفاته كامة.. ولولا ذلك لضاعت دون أن تضوع.

الأول هو أنطون سعادة…

والثاني هو زكي الأرسوزيّ…

الأول هو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي.. الذي يؤمن بالبعث القومي…

والثاني هو مؤسس حزب البعث العربي الذي يؤمن ببعث الأمة العربية وبوحدتها.

فكأن قدر هذه الأمة أن تقتل أنبياءها..

وكأن قدر أنبياء هذه الأمة أن يصلبوا أو يعدموا رمياً بالرصاص.. أو تشجّ رؤوسهم بسيوف مسمومة..

مراجعي في هذه المحاضرة كتابات الأرسوزي القومية وكتابات سعادة القومية.

القومية الأولى تقول عن نفسها أنّها هي سيف العروبة ودرعها وقلبها..

والقومية الثانية تقول إنّها هي الجسد العربيّ الزاخر بالحياة والممتد من المحيط إلى الخليج..

وأنا أقول:

  • لابدّ للجسد الحيّ من قلب نابض..

ولا يوجد قلب طبيعي نابض إلاّ في صدر الجسد الحيّ..

  • فهل نستطيع أن نبعث الحياة في سفرٍ نقدي جليل… فنتذوق عسله وقمحه.. لنكون من أبناء الحياة؟

من المعروف عند أصحاب النظريات الاجتماعية والسياسية والفكرية الرائدة أنّ الحياة تنشئ القول… كما ينشئ القول الملتزم. الحياة بكل تفتحاتها، لأنّ الإنسان الاجتماعي يتماثل مع الفكرة المنبثقة عنه تماثلاً تكوينياً يُفصح عمّا تحمله نفسه الأصلية من ميول كريمة تنهض بالفرد وبالجماعة نهضة متناسبة مع عمقها وأصالتها.. فيدرك الإنسان الكون والوجود والمجتمع من آفاق متفاوتة..

إنّ كلامنا، على كتاب المفكّر أنطون سعادة “الصراع الفكري في الأدب السوري /1942/” يشير إلى قضيتين متلازمتين:

  • يشير، أولاً، إلى أصالة فكر سعادة، وقدرة هذا الفكر على الصمود… وعلى اختراق الزمن… وعلى إنارة الحاضر والمستقبل، لأني أظنّ ظنّاً قوياً أنّ فكر هذا الرجل متوقّد توقّد صاحبه… والتوقّد – كما تعرفون – ينير الذّات والموضوع والمدى…
  • ويشير، ثانياً، إلى حاجتنا الماسّة لمنهج فكر سعادة الصراعي… لأنه يشكّل إحدى الصوى الفكرية والصراعية والمنهجية التي قد تنقذنا من ليلنا البهيم هذا.. من عصر الردّة والذلّ هذا.. ولأنّ السعادة قد تكون في منهج سعادة…

لقد استطاع سعادة أن يقدّم لأبناء الأمّة منهجاً فكرياً نقدياً رائداً على الرغم من أنّ الرجل ليس ناقداً أدبياً محترفاً.. ولكنّ منهجه الاجتماعي القومي قد أنار نفسه.. وأنار له الموضوع، فنظر إلى الفن نظرة مختلفة، مبدعة، لا تكتفي بإرجاع القصيدة، أو العمل الأدبي، إلى جمل،ثم ترجع الجمل إلى الكلمات، ثم ترجع الكلمات إلى الأصوات التي تتألف منها.. ثهم تحاكم هذا النص محاكمة قواعدية بمقياس الصحة والخطأ، والثبات والتحول.. والانحراف..

لم يكتف سعادة بذلك على الرغم من أهمية تفكيك النص وإعادة تركيبه.. لأنّ همه كان منصبّاً على المنهج الفنيّ الملتزم، وعلى النحو الذي ينحوه الشاعر أو الأديب، او الفنّان في استقطاب المعاني المتضمّنة في الأصوات والكلمات والجمل والفقر… والارتقاء بهذا الاستقطاب لبلوغ الإلهام مُنبثقاً فوق سلسلة الحوادث الذهنية.

فالجمال الشكلي، في عقيدة سعادة وفي منهجه، لا قيمة له إن لم يكن نوراً ينقل الأمة من عصر الظلام إلى عصر النور والسعادة..

والقدرة الفنيّة لا قيمة لها إن لم تُحوَّل إلى سلاح يرمي الأمّة.. والمجتمع.. ويحمي المتحد الاجتماعيّ ومن فيه وما فيه…”.

إنّ سعادة “يُحاكم” فنّاني الأمّة بهذا المنهج، فيقول إنّه قد قرأ بضعة مقاطع من ملحمة سعيد عقل “بنت يفتاح” في أواسط سنة 1935، ولكنه لم يستطع إكمال نصّ هذا الشاعر العظيم، فبماذا أحسّ أنطون سعادة حتّى رمى نص سعيد عقل من يده؟ وماذا قال؟

إنّ ثمار المنهج عند سعادة متعدّدة، ولكنني سأكتفي منها بعددٍ قليل ينشّطكم ولا يتخم عقولكم ويحفزكم إلى إعادة قراءة هذا السِفر النقدي النادر.

  • الثمرة الشهية الأولى هي إصدار الحكم الموضوعي لأنّ “من ينقد عليك هو كمن يولف معك” – حسب تعبير الشيخ عبد الله العلايلي – وهذا الحكم الموضوعي يجب أن يميّز الخبيث من الطيّب، فسعيد عقل، عند سعادة، شاعر ممتاز وشاعريته الممتازة هذه جديرة بتناول قضايا الحياة والنفس، ولكن هل استعمل الشاعر هذه الشاعرية استعمالاً مبدعاً يخدم قضايا الحياة والنفس؟
  • والثمرة الشهيّة الثانية هي تمييز الذات القومية من الذات اليهودية ومن الذوات الغريبة. هذا التمييز الصارم جعل سعادة لا يطيق قراءة (بنت يفتاح)، فألقاه من يده، لسببين:
  • الأول: أنّها تخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية.
  • والثاني: أنّها تخدم موضوعاً مختصّاً باليهود أعداء سورية.

فسعادة يميّز، إذاً، تمييزاً دقيقاً وواضحاً الموهبة الشعرية الممتازة والجديرة بتناول قضايا الحياة والنفس من الموضوع الذي أنتجه صاحب هذه الموهبة، وينبهنا بصرامة منهجيّة ملتزمة لا تقبل المساومة. ينبهنا إلى أنّ هذه الشاعرية لا تعدو اللغوّ والزخارف الشكلية إن لم تخدم الحياة والنفس السورية، ثم يجرّد حسامه الفكري / العقائدي الصارم ويقول إنّ هذه الملحمة (بنت يفتاح) ليست في خروجها عن المواضيع السورية فقط، بل في خدمتها موضوعاً مضاداً في انتصاره انكسار سورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها… وفي كسره ودحره وإزالته انتصار سورية… وسلام العرب… وطمأنينة الإنسانية…

بل إنّ سعادة قد أضاف سبباً ثالثاً إلى سببي الغربة وخدمة عدوّ الوجود والعقيدة وهو أنّ نصّ هذه الملحمة يصنّف في “أدب الكتب”. فمع كلّ الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة لم يجد فيها سعادة فتح مدخل جديد للأدب السوري، ولم يستطع مؤلفها أن يُحدث تغييراً في أدب سورية أو تجديداً له.

إنّ ملحمة (بنت يفتاح) مظهر من مظاهر “أدب الكتب”. و”أدب الكتب” هذا بعيد عن الحياة الطبيعية الاجتماعية وعن أدبها، و”أدب الكتب”، هو، في الأغلب

سعيد عقل (1912 – 2014)

الأعمّ، أدب لا نسغ فيه، ولاحياة، ولا تمثيل ولا تمثّل. هو شيء غريب مستعار وغير قابل للتعديل او للاستخدام أو للحياة، فهو كالشَّعر المستعار لا حياة فيه ولا مائيّة، ويُمثّل عِقَد صاحبه، وخوفه، وغشّه.. وإذا ما مَسّت يد الحبيب هذا الشَّعر المستعار سقط.. وكشف عن عورات صاحبه.. ولم يشعر اللامس إلاّ بالقرف والقشعريرة.. بينما يشبه “أدب الحياة” الذي طالب سعادة به، شعر الحبيبة الطبيعي.. المعّبر عن الشباب وقوة الحياة… ووعودها.. وإغراءاتها.. فإذا مَسّته يد الحبيب سرت رعشة الحب في أوصاله.. وتمتّع بالجمال وخيراته. وشعر بالرغبة في الاستمرار..

إنّ الأدب، في عقيدة سعادة، هو الذي يكشف عن عظمة مطامح الأمّة، وعن نفسيتها، وعن سموّ مراميها.. ومهمة هذا الأدب رسولية.. كشفية، إبداعية، ريادية.. تخلق المُثل والقيم أو تعيد خلقها، وتبعثها بعثاً يرسّخها في ذهنية الأمّة، وفي سلوكها، وفي منهجها في النظر إلى نفسها أولاً، وإلى الكون ثانياً، وإلى الأمم الأخرى ثالثاً…

الأدب الحيّ، في عقيدة سعادة، هي الذي لا يكتفي بأن يكون (مرآة للعصر)، أو للحياة، أو للمجتمع.. بل هو منارات المتحد الاجتماعي.. أدب حياة، هذا المتحد هو الأدب الذي يفهم حياتنا، ويرافقنا في تطوّرنا، ويعبّر عن مُثُلنا العليا، وعن أمانينا المتسخرجة من طبيعة شعبنا وتاريخه وكيانه النفسي ومقوّمات حياته.. وهذه من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكير سعادة في البعث القوميّ وأسبابه. والتي رأى أنّ تركيز الأدب عليها غير ممكن إلاّ بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة..

إنّ احترام القارئ، منهج سعادة النقدي الاجتماعي ينبع من أمانة هذا الرجل لمبادئه، ومن قدرته على تطبيق نظرته الاجتماعية والسياسية على كلّ أمور الحياة المتجدّدة في سورية سواء أكانت إنشاء حزب سياسي جديد..، أم إنشاء أدب حياة جديد…

  • والثمرة الشهية الثالثة هي ضرورة أن ينطبق الفن على مرمى التجدّد الماديّ والروحيّ في سورية.. والذي تتوق إليه الأمة توقاً داخلياً وخارجياً…
  • والثمرة الشهية الرابعة هي ضرورة انبثاق العمل الفني عن نظرة فلسفية يمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية.. ولا بدّ لهذه النظرة الفلسفية أن تكون ذات أصل راسخ في تاريخ الأمة، وفي فكرها، وفي منهجها، وفي نظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين وإلى الكون.. وإلاّ كانت عارضاً من العوارض التي تُلغي الشخصية والنفسية وخصائصهما، فتضلّ النفس، وتحار، ولا تدري ما حقيقتها ولا ما هي أوهامها…
  • والثمرة الشهية الخامسة، هي ضرورة وجود الحافز الروحي المستمد من فكرة أو من عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها.. وبدون هذا الحافز الروحي – الذي هو شيء حقيقي لا وهمي – لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها، ولا رونق، ولا شخصية..

وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد قراءة شكسبير وغوته.. ولا زيادة العلم.. ولا التعمق في الأدب القديم..

  • والثمرة الشهية السادسة، هي عدم سجن حقائق الأمة التاريخية، وأساطيرها التقليدية وصبغها بصبغة محلية ضيّقة.. لأنّ ذلك يُسيء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي..
  • والثمرة الشهية السابعة، هي في ضرورة تثقيف الأديب أو الفنان نفسه ثقافة اجتماعية قومية واضحة.. وذلك بدراسة تاريخ الأمة، واستيعاب مظاهره ومكوناته النفسية، بغية:
  • استخراج كنوزها..
  • واستئناف مجرى خططها السامية…

ليتمكن الفنان أو الأديب بفضل اتصاله بالنظرة القومية الاجتماعية من تحقيق عدد من القضايا المهمة، ومنها:

  • ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة…
  • إيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي..
  • استخراج المُثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب…
  • إبراز أجمل المظاهر النفسية، وأسمى المواقف المناقبية حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية..
  • والثمرة الشهية الثامنة، هي ضرورة إتقان اللغة العربية إتقاناً كاملاً، وضرورة استعمالها في كل أمور الحياة.. لتبقى لغة الأمة حيّة في النفوس وفي العقول وفي الاستعمال.. لأنّ اللغة هي الإنسان بمعنى من المعاني…

ولأن اللغة ليست وسيلة اتصال محايدة.. إنما اللغة والفكر توأمان.. ونحن نفكّر بكلمات… أو بأشباح كلمات.. واللغة تحكم نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين وإلى الكون.. وباللغة نتميّز من الآخرين.. لأنّ لكّ أمة لغة تُعرف بها، فيقال: الأمة الفرنسية، والأمة الألمانية، والأمة الروسية وهكذا…

أولم يدفع سعادة حياته ثمناً لأمانتة العلمية، ولصرامة منهجه النقدي؟ أولم يصرّ على التكلّم باللغة العربية الفصحى في كلّ شؤون حياته الخاصة والعامة.. وفي كلّ المناسبات؟ أو تتذكرون موقفه من اللغة العربية في لحظات عمره الأخيرة.. قيبل اغتياله؟ أولم يصّر على التكلّم بالفصحى حتّى مع جلاّديه؟…

إنه درس في الالتزام.. إنه تطبيق عمليّ للمنهج المبدع.. إنه حرية الالتزام.. إنه التزام الحرية… إنه السعادة في منهج سعادة الاجتماعي القومي…

خاتمة

سأحاول أخيراً أن أُحدّث منهج سعادة النقدي، وأن أجربه تجربة افتراضية، وأقول:

إذا اتبعنا، اليوم، منهج سعادة العلمي الصارم الذي استعمله هو مع سعيد عقل ما بين سنتي 1933-1936، وأحيينا هذا المنهج الاجتماعي القومي النقي المنقذ من الضلال، والموصل إلى شاطئ الحرية المبدعة الملتزمة وبعثناه في عقولنا وفي وجداننا وفي سلوكنا، وطبّقناها على بعض الأدباء والشعراء، الذين لم يكتف أحدهم بالخروج على مبادئ الزعيم النقدية، بل مدّ لبني (إسرائيل) يداً، وجرّد لمدحهم قلماً، واستعمل من أجل تطبيع العلاقات معهم منابر وأتباعاً، وتخلّى من أجل وهم جائزة “نوبل” عن شعب طيب عريق، وعن تاريخ فني وعلمي وفلسفي يتمنون لو كان لهم جزء بسيط جداً منه، وفعلنا ذلك ودرسنا إنتاجه الأخير في ضوء معايير سعادة النقدية، فما الحكم الذي يمكن لشعبنا أن يصدره؟

إنّ الفنان حر بمقدار التزامه قضايا شعبه وأمته وأرضه.. فحرية الإبداع.. وحرية الكلمة.. وحرية النقد.. وحرية اختيار المناهج والأساليب.. وحرية اختيار الفنون للتعبير عن حاجات الأمة وطموحاتها.. كلّ أولئك حق للمبدع الفنان الذي يتسلح بالالتزام وبالواجب.. وبحق أمته في الخلود…

إنّ أمتنا قد اشتقت كلمة “العقيدة” من “عَقَدَ الجنين أو الزهر” بما يشير إلى المناسبة بين حياة الأمة والمعرفة التي تتجلّى بها لذاتها.. وأنّ أمتنا قد عقدت جنينها على عقائدي أصيل سخّر منهجه المتوقد من أجل حياة الأمة وبقائها.. فالبقاء للأمة… دائماً وأبداً.

————————————————–

للاطلاع على الحلقة الأولى: sergil.net

للاطلاع على الحلقة الثانيّة: sergil.net

الحلقة القادمة: تأصّيل الحداثة. الدكتور مروان فارس.

 

د. عصام نور الدين

أستاذ العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، له مؤلفات عديدة في اللغة وآدابها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق