لقد أظهرت الحرب على سورية (2011) دون أي لبس، صوابية رؤية أنطون سعادة منذ ما يقارب القرن، واستشرافه لمسار سورية الطبيعية حين حدد المواقف التالية:
أولاً، من غير الممكن مواجهة كل من الاستعمار الغربي والدول الاقليمية الطامعة، ودول سوراقيا قابعة تحت تقسيمات سايكس-بيكو(1)، فالمطلوب الغاء مفاعيل هذا الاستعمار، والبدء بصياغة الخطوات الآيلة إلى وحدة اجتماعية-اقتصادية أولاً، تتبعها وحدة سياسية.
ثانياً، قضية فلسطين قضية قومية سورية بالدرجة الأولى، ففلسطين جزء لا يتجزأ من بلاد الشام(2). قد تساند دول العالم العربي سورية الطبيعية في مسعاها إلاّ أنها لن تخوض الحرب نيابة عنها، ذلك أن الدول العربية خارج “سوراقيا” ترى خسارة قلسطين كقضية ثانوية لا تمس أمنها القومي.
ثالثاً، ضرورة انشاء تنظيم سوراقي شعبي مسلح للدفاع عن الوطن إلى جانب الجيش، فالكلام لوحده لا يكفي، والحق بحاجة دائماً إلى قوة تدعمه لينتصر(3).
الايديولوجيا كمنهجية فكرية
ما إن انهار الاتحاد السوفياتي في العقد ما قبل الاخير من القرن العشرين، حتى سارع المفكّر الشهير فوكوياما(4) إلى إعلان “موت التاريخ”! وهذه سذاجة مذهلة من مفكّرٍ يعلم أن التاريخ لا يتوقف ولا نهاية له إلاّ بنهاية الحياة على هذا الكوكب. إلاّ أن العديد من المثقفين العرب والصحافيين بادروا إلى ملاقاته عبر كتابات ومحاضرات تهزأ من الايديولوجيا وتعتبرها إرثاً ماضوياً يجب التخلي عنه، وذلك غير صحيح لأن المجتمعات لا تستطيع السير دون قيم أو أهداف. فالايديولوجيا، حتى ولو لم تتحقق، تقدم سلماً للقيم في سبيل تطوير المجتمع، فكل فكر منهجي هو نوع من الايديولوجيا؛ الرسالة الدينية، وإرساء الديمقراطية، والمشاريع الاستعمارية، والاشتراكية، وحرية السوق، كلها ايديولوجيات قد تكون ايجابية للبعض وسلبية للبعض الآخر، ما يعني أن المطلوب ليس إلغاء عالم الفكر أو الانظمة الفكرية، بل دراسة كل ايديولوجية على حدا لتقويم نتائجها على المجتمع الذي تحيا ضمنه.
انطلاقاً من هذا الواقع، أود الإشارة أن ايديولوجية الغرب الاستعمارية هي التي قررت تقسيم منطقة الهلال الخصيب إلى دويلات طائفية مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانكسار السلطنة العثمانية، فوضعت خطوطاً وهمية لدول مصطنعة، ثم الًبتها ضد بعضها، وحين نبادر نحن، أهل المنطقة، إلى رفض هذه الخطوط، نواجه من قبل مفكرينا بتهمة أننا “ايديولوجيون”، فقد تحولت هذه الكلمة مؤخراً الى مذمة كبرى!
شبّت الحرب العالمية الأولى نتيجة الصراع بين دول الغرب الكبرى للاستحواذ على مستعمرات في البلدان المتخلفة تنموياً واجتماعياً وسياسياً في القارتين الافريقية والاسيوية، وكانت نتيجتها خسارة المانيا ودول المحور أي نفوذ لها في هاتين القارتين، ودخول الولايات المتحدة الاميركية كلاعب كبير على الساحة استطاع مع نهاية الحرب العالمية الثانية ازاحة الأوروبيين والاستيلاء على تركتهم، واخضاعهم لمشيئته، وتقاسم نفوذ العالم مع الاتحاد السوفياتي.
في خضم هذه المعارك حاول سعادة جاهداً بناء منظومة “سوراقية” مستقلة عن المحورين الاميركي والسوفياتي، خاصة وأن الصهيونية استطاعت أن تشدّ الجبارين إلى مشروعها الاستيطاني، عبر إظهار نفسها، من جهة، على أنها القوة المتقدمة للاستعمار الغربي الطامح للسيطرة على النفط في منطقة الشرق الأوسط، ولفتح الأسواق أمام استهلاك السلع الغربية، ومن جهة أخرى، بشرت الصهيونية الاتحاد السوفياتي بأنها ستقيم أنظمة زراعية على النمط الشيوعي، مثال الكيبوتس. وبعد الاعتراف بـ “اسرائيل” عام 1948 من قبل الدولتين العظميين، انتقلت الصهيونية إلى لعب دور الحامي للمصالح الاميركية في منطقة الشرق الاوسط.
أحد ادوات المعارك الايديولوجية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية هي نقض مفهوم القومية لأن المبدأ القومي يقف عائقاً أمام التوسع الامبراطوري الأميركي. غالباً ما كتب مفكرون غربيون من اليمين واليسار عن موت القومية، ويستطيع هؤلاء المفكرين التحدث بحرية حول الموضوع كون قوميتهم قد تبلورت ضمن حدود جغرافية واضحة، ولم يعد من الضروري لهم طرح هذا الموضوع، بل تم تخطيه إلى مفاهيم “ما فوق القومية”، كالاتحاد الاوروبي وغيره. ويغرب عن بال المفكرين العرب أن هذه الاتحادات مبنية على أساس قومي، ولولا استقرار هذه الدول القومية لكان من المستحيل التعاون فيما بينها، والانتقال إلى مرحلة أعلى تناسب مصالح جميع هذه الدول القومية. ويظن العديد من مثقفينا أنه من الممكن القفز عن الهوية القومية والالتحاق بمنظومة أكبر، فتكون النتيجة الفشل لأن لا أسس ولا قواعد متينة لهكذا اتحادات. وهذا الفشل مثل جزءاً كبيراَ من تجاربنا المرة خلال القرن العشرين. لذلك نحن بحاجة إلى بناء منظومة قومية/وطنية تجمع المواطنين ولا تفرقهم بحسب انتماءاتهم الدينية أو العرقية. فللقومية تعريفات مختلفة، ولقد شجب سعادة كل مفاهيم القومية التي تقوم على العرق أو المذهب أو الطائفة، فكانت له نظرة متقدمة على من جايله في تحديده لهذا المفهوم اذ أكًد ان الدولة القومية :
” جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية-المادية في قطر معين، يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات” (5)
أي مفهوم آخر للقومية غير “الحياة المشتركة على أرض محددة” يعني الدخول في متاهات الانقسامات الداخلية التي تؤدي إلى حروب أهلية وفناء الدولة القومية. أما تاريخ هذه الدولة القومية فهو تاريخها منذ بداياتها، أي رفض تحديد بداية تاريخ محددة حسب انتماءات الشخص الاثنية أو الدينية، فها هي تركيا القومية التي يدين شعبها بالاسلام، تكتب تاريخها كما حصل، ولا تأنف من عرض كنيسة الآيا صوفيا كجزء من تراثها وحضارتها؛ كذلك اسبانيا لم تقض على معالم الحقبة العربية في الاندلس، ولا على قصر الحمراء في قرطبة، لأن هذه كلها مظاهر حضارة شعب معين عبر تاريخه.
سوراقيا في مواجهة “اسرائيل الكبرى”(6)
لم تبدأ الحرب على سورية الكبرى من منظور أنطون سعادة عام 2011، بل هي بدأت مع الحرب العالمية الأولى، حين سيطرت فرنسا وبريطانيا على المنطقة، وقامتا بتقطيع أوصال سوراقيا عبر إنشاء كانتونات طائفية من جهة، ومن جهة أخرى، سلخ أراضيها لمصلحة الاتراك شمالاً (اتفاقية لوزان 1923) – (لواء الاسكندرون، 1939)، والكيان الصهيوني جنوباً (1948):
“في سنة 1932 لألقيت خطاباً في حفلة افتتاح نادي الطلبة الفلسطينيين في الجامعة الاميركية في بيروت، دعوت الأمة السورية فيه إلى النظر في الخطرين
الجنوبي والشمالي، الأول خطر النمو اليهودي في فلسطين، والثاني خطر التقدم التركي على حدودنا الشمالية”(7).
إن الحراك الاجتماعي/الاقتصادي في منطقة الهلال الخصيب (سورية، لبنان، فلسطين-الاردن، العراق) كان مؤمًناً عبر التاريخ، فالحدود مفتوحة والتفاعل متوافر تحت حكم الامبراطوريات القديمة والوسيطة وصولاً إلى السلطنة العثمانية، إذ إن مفهوم الدولة القومية لم ينشأ قبل القرن الثامن عشر في الغرب. إلاّ أن الوضع ًتغير جذريا بعد قرار الدول الاوروبية القومية الاستيلاء على تركة “الرجل المريض”، وفتح الباب أمام استعمار من نوع جديد.
الهدف الرئيسي من تقسيم منطقة الهلال الخصيب إلى دويلات طائفية هو السماح للكيان الصهيوني بالتأسس على شكل “دين” بين بقية الدويلات الدينية. ولقد فسر المؤرخون العرب اتفاق سايكس-بيكو على أنه يعاكس مشروع الشريف حسين، شريف مكة، الذي كان قد وعده البريطانيون بتنصيبه ملكاً على المشرق العربي إن هو وقف جانبهم ودعمهم في حربهم ضد العثمانيين. لكن الواقع يدحض هذا التفسير ذلك أن ابناء الشريف حسين تبوؤا السلطة في الاردن والعراق وسورية مع نهاية الحرب العالمية الأولى بعد أن تنازلوا عن فلسطين كما ثبت حاييم وايزمان في رسائله. المقصود من تقسيمات سايكس-بيكو لم يكن معاكسة الشريف حسين، بل فتح الطريق امام تنفيذ وعد بلفور لإنشاء “وطن قومي” لليهود في فلسطين، وعمل اللورد سايكس الصهيوني جاهداً لتقسيم المنطقة بشكل يسمح باقامة دولة “اسرائيل” على أرض فلسطين(8).
إذاً، سايكس-بيكو ووعد بلفور مشروعان متلازمان، ولم يكن من الممكن تنفيذ أحدهما دون الآخر. ولا يزال هذا الأمر قائماً إلى اليوم، فلا تسمح الولايات المتحدة الاميركية بأي تقارب بين دول سوراقيا، لأن ذلك سيؤدي إلى تهديد وجودي لاسرائيل، لذلك تمركزت الولايات المتحدة الاميركية في الحرب على سورية عام 2011، على الحدود بين العراق والأردن وسورية لمنع التواصل بين دول سوراقيا.
لقد وعى أهل بلاد الشام أهداف هذا المخطط وعبروا عن رفضهم لتقسيمهم كما ورد في تقرير لجنة كينغ-كراين الاميركية (9) والتي تجولت في المنطقة عام 1919 للاستقصاء حول تمنيات سكانها الذين تنبهوا للمخططات الصهيونية بعكس بقية البلدان العربية من خليجية وشمال افريقية والتي اعتبرت بشكل عام أن القضية هي قضية دينية تتمحور حول احضار يهود مضطهدين إلى المشرق العربي، فيما كان الصهاينة يرفضون هذا الطرح ويصرون على حصولهم على وطن قومي، أي المطالبة باعتراف دولي لشرعية دولة قومية، لا لدين يهودي. وكتبت القيادة الصهيونية بنفسها نص وعد بلفور كي لا يحصل أي التباس حول أهداف هذه الحركة بإنشاء قومية استيطانية جديدة تحل مكان أهل فلسطين في البدء، ثم تتوسع لتشمل كل دول “سوراقيا”. ولهذا السبب لم تضع “اسرائيل” يوماً حدوداً لدولتها، فهي تعتبر أن حدودها غير مكتملة، وهي الدولة الوحيدة في العالم المعترف بها في الأمم المتحدة بالرغم من أن دستورها لا يلحظ حدودها الجغرافية!
من هنا القضية الفلسطينية هي قضية سورية بامتياز، فلا جنوب لبنان، ولا الجولان اللذان استولت عليهما “اسرائيل” هما جزء من فلسطين، بل جزء من “اسرائيل الكبرى” الذي خطط له الصهيونيون. وكانت الوكالة الصهيونية تصر منذ عشرينات القرن الماضي على الاستيلاء على الجولان، وسهل حوران، والليطاني كضرورة من أجل بقاء “اسرائيل”، ومن ثم توسعها(10).
لم تعمد دول أوروبا إلى تقسيم دول شمال افريقيا العربية، بل استعمرتها كما هي لأن مشروع “اسرائيل الكبرى” يحتم تقسيم سوراقيا فقط. لذلك انطلق انطون سعادة بخطة مضادة ليؤكد ان القضية الفلسطينية تختص بسورية الطبيعية دون سواها، وانه من العبث انتظار الدول العربية الاخرى، أو الاتكال عليها لتحرير فلسطين، لأن هذه الدول حكاماً وشعوباً، لا تعير قضية فلسطين أولوية، فهي ليست مهددة في وجودها كما هي الحال بالنسبة لسوراقيا، فالصهيونية لا تعير اهتماماً لأراضٍ في المغرب العربي أو الجزائر أو تونس أو غيرها من الدول العربية، لذلك حرص سعادة على المطالبة بوحدة سوراقيا اذ من دونها لا امكانية لمواجهة المشروع الصهيوني واسترجاع فلسطين، وأكد أن عدم وحدتنا سيؤدي إلى فقدان المزيد من الأراضي “السوراقية” كما حصل لاحقاً في الجولان (1967)، وجنوب لبنان (1982) :
” مع كل الكوارث الجسام، ظلت الأمة السورية في شلل، تجاه إطباق القوات والمطامع الاجنبية عليها لأن الفئات التي تصدت للمعالجة السياسية، كانت كلها من
النوع الرجعي الديني، أو الاقطاعي، أو العشائري، وكلها قامت تعمل عمل الشركات المحدودة الرسمال…هكذا تحددت قضايا ما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، فلم تكن هنالك قضية واحدة تضم كل الأجزاء، وتجتمع فيها كل القوى، ويخطط لها عمل موحد…”(11).
بالاضافة إلى ذلك، استفادت “اسرائيل” من تقسيمات سايكس-بيكو لتؤلب دول المشرق العربي بعضها ضد البعض الآخر، فتضعفها وتسيطر هي، وآزرتها الولايات المتحدة الاميركية في زرع الفتن والانقلابات بشكل لا يسمح بتآلف وتقارب دول سوراقيا، وتبين أن السلاح الأمضى للوصول إلى هذا الهدف هو إثارة نيران الحروب الطائفية. كانت اسرائيل تعرف جيداً أن الخطر الأكبر لوجودها هو تكوٌن هوية قومية سوراقية، لذلك انصبت جهودها كما جهود الولايات المتحدة الاميركية على منع هذا التطور. هذا ليس بشيء جديد أو طارئ، ولقد بدأ العمل منذ سايكس بيكو، لتكوين “لبنان الكبير” تحت عنوان اعطاء المسيحيين دولة، والتزاماً بالخطة نفسها سارعت فرنسا إلى تقسيم ما تبقى من سورية إلى دويلات درزية وعلوية وسنية. ما منع ترسيخ التقسيم الطائفي آنذاك ليس فقط رفض السوريين لهذا المشروع، بل وجود الاتحاد السوفياتي الذي مثًل توازنا في العلاقات الدولية وسمح للدول الناشئة والصغيرة ببعض الاستقلالية التي سرعان ما خسرتها عام 1990 مع تفكك الاتحاد السوفياتي، والهيمنة الكلية للولايات المتحدة الأميركية على العالم فيما عُرف باحادية القطب، فعادت سياسات تقسيم الدول على أساس طائفي-ديني بدءاً من يوغوسلافيا، مروراً بالعراق، وأخيراً سورية.
احتلت الولايات المتحدة الاميركية العراق عام 2003، دون أي مسوغ قانوني، وبادرت إلى القضاء على جيشه، وتقسيمه إلى كانتونات اثنية ومذهبية، كجزء
من برنامج أميركي كتبه عام 1996 المحافظون الجدد الذين تبوؤا السلطة خلال رئاسة جورج بوش الابن، وهم: نائب رئيس الجمهورية، ديك تشيني، ومكتبه المؤلف من جون بولتون، ورئيس الموظفين سكوتر ليبي، ودافيد ورمزر، وغيرهم، وسُميت هذه الخطة Clean Break (12)، لأن هدفها قطع طريق المفاوضات بين اسرائيل ودول المشرق العربي بما فيهم الفلسطينيين، واللجوء إلى إعلان الحرب على مناوئي الصهيونية. احتوت الخطة على خمسة بنود، منها اغتيال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، واحتلال العراق واطاحة نظام صدام حسين، واعلان الحرب على سورية، والقيام بحملات عسكرية ضد ايران،و القضاء على انظمة عربية كدولة ليبيا. ولقد حققت هذه الخطة أربعة من بنودها!
أول ما فعله بول بريمر، الحاكم الفعلي للعراق، حين استلم السلطة، كتابة دستور جديد قسم فيه العراق إلى ثلاثة أقاليم: شيعية وسنية وكردية(13)، أي أنه طبق النظام الطائفي العنصري اللبناني، كأفضل وسيلة لشل العراق، ودفعه إلى احتراب مكوناته فيما بينها. وأرفق هذا التقسيم السياسي بسيطرة كاملة على الاقتصاد العراقي كما صرح آنذاك لجريدة الواشنطن بوست(14)، عبر خصخصة كل مرافق القطاع العام، وافهام العراقيين أن أيام اعتمادهم على الدولة قد ولت إلى غير رجعة. وعلق الصحافي في جريدة النيويورك تايمز، طوماس فريدمان قائلاً بأن تحرير الرساميل يسمح لأميركا بأن تفتعل أزمة مالية في أي بلد من البلدان النامية. ويساهم كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في رفد هذا الاتجاه، إذ إنه يجبر أية دولة تريد الاقتراض بقبول الخصخصة وتحرير الرساميل.
لم تتوقع الإدارة الأميركية نشوء مقاومة لوجودها في العراق، فهي صدًقت ما كانت تنشره على صفحات وسائل اعلامها مدعية أنها “تحرٍر” العراق من الدكتاتورية، وظنت أنها ستحكمه بشكل دائم عبر عراقيين موالين لها. أدت المقاومة في العراق إلى تأجيل الحرب على سورية، فاستعاضت الولايات المتحدة الأميركية عنها بمحاولة انهاء المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، عام 2006. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، صريحة جداً حين أعلنت أن الولايات المتحدة الاميركية وحليفتها “اسرائيل” بصدد إنشاء شرق أوسط جديد تهيمنان عليه بشكل كامل.
ولم تكد تنصرم خمس سنوات على فشل المغامرة الاميركية-الاسرائيلية في لبنان، وفشلها قبلاً في العراق، حتى شُنت الحرب على سورية.
هذه الحروب على سوراقيا، واستفراد دولها لإذلالها واستعبادها منذ قرن دليل ساطع على صحة موقف سعادة الذي أكد مراراً وتكراراً، أن الصهيونية تستهدف ليس فقط فلسطين، بل كل دول سوراقيا، ورأى أن الدول العربية الأخرى لن تمد يد المساعدة(15)، لا بل وصل الأمر ببعضها، ومنها قطر والمملكة السعودية، إلى إرسال الارهابيين وتسليحهم لإسقاط الدولة السورية. أما بالنسبة لتركيا، توقع سعادة أنها ستتحين الفرص للانقضاض على سورية وأخذ أراضيها حين تضعف هذه الاخيرة.
بالإضافة إلى العوامل الخارجية، تقف العوامل الداخلية من اثنية وطائفية حاجزاً أمام اللحمة الوطنية، وبدلاً من اعطاء الأفضلية للمنحى القومي/الوطني الجامع
تحاول المجموعات الاثنية كالأكراد الحصول على حكم ذاتي والانفصال عن سوراقيا، فيما تؤجج حركات الاخوان المسلمين والسلفيين الانقسامات الداخلية حين تطالب بتبوء السلطة باسم الدين رافضة مبدأ المساواة ضمن المواطنة، ورأى سعادة أن الطائفية هي العقدة الكأداء التي تمنع الوحدة القومية(16). هذه الطائفية تجلت في مشاريع الكانتونات اللبنانية إبان الحرب الأهلية (1975-1989)، وأضحت واقعاً دستورياً في العراق بعد الاحتلال الاميركي، وها هي تبرز في الحرب على سورية، ويخشى أن يُلحظ تغيير في الدستور السوري يؤدي إلى إعطاء الجماعات الاثنية والطائفية حقوقاً ستكون، لا محالة، على حساب مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين، كما ستؤسس لحروب اهلية لاحقا، ذلك ان الطائفة والمجموعات العرقية تعطي الأولوية لنفسها لا للدولة القومية/الوطنية. الدولة الوطنية هي الوحيدة التي تستطيع أن تجمع كل هذه العناصر المختلفة ضمن بوتقتها الجغرافية، وأن تؤمن لها حرية التعبير والعمل ضمن أحزاب لها برامج سياسية مختلفة تتصارع فيما بينها بناء على برامجها الهادفة لتطور الوطن ككل، لا إلى تبوء السلطة على أسس طائفية عنصرية، لأن الطائفة موروثة وليست خياراً حراً، بينما الالتحاق بحزب سياسي لا طائفي أو اثني هو خيار المواطن الذي يستطيع في أي وقت الانتقال إلى حزب آخر حين لا يجسد حزبه طموحاته.
مما لا شك فيه، أن سعادة اعتبر أن لا امكانية لدول سوراقيا أن تحافظ على استقلالها ووجودها إلاّ عبر وحدتها، كما أنه اعتبر أن عوامل التفكك الداخلية من اثنية وطائفية ومذهبية هي أخطر على سورية من الأسباب الخارجية، فضعف دول سوراقيا سيكون محفزاً مستداماً للاستيلاء عليها من قبل قوى خارجية، اقليمية أو دولية. ولقد نجحت مشاريع تقسيم فلسطين التي هي جزء من سورية أو بلاد الشام، في أربيعينيات القرن الماضي، لأن الدول الكبرى استطاعت أن تحول الموضوع من قضية قومية/وطنية إلى قضية مسلمين عرب في مواجهة صهيونيين يهود. ففي البداية، وافقت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين وإعطاء قسم لـ “اليهود” وقسم “للعرب”! أي أن الهوية الفلسطينية الغيت بالكامل وبموافقة الدول العربية، واستعيض عنها بكلمة مطاطة لا تعبر عن هوية الجغرافيا- السياسية الفلسطينية، فيصبح بالإمكان اتمام عملية ترانسفير لهذا “العربي” من منطقة عربية إلى منطقة عربية أخرى. وفي الوقت نفسه انتُزعت هوية الفلسطيني القومية، أي مشروعية حقه في أرضه، واستُبدلت بهوية دينية مقابل “يهود”! بينما الحقيقة وواقع الأمر أن الفلسطيني لا يمثل هوية دينية بل هوية قومية يشترك فيها الفلسطيني المسيحي واليهودي والمسلم، وقبوله بهذا التقسيم كما قبول قيادات الدول العربية به وعلى رأسهم مصر والسعودية آنذاك يعني تحويل قضية قومية إلى قضية دينية، والدين كما نعرف، لا حدود جغرافية له، ورسالته روحية، ويبغي إصلاح الإنسان، أي إنسان مهما كانت هويته، وليس هدفه بناء دول قومية. ولا تزال “اسرائيل” تعمل على الخط الديني لإزالة فلسطين من الوجدان القومي، وتغيير المعادلات من مواجهة قومية إلى مواجهة دينية، وتبرع كبار المفكرين الصهيو-أميركيين لدعم هذه النظرية من دانيال بايبس، الى برنارد لويس الى صموئيل هانتنغتون(17)، تحت مسمى صراع حضارات، ووُضعت الحضارة اليهودية في جلباب حضارة الغرب المسيحية في مواجهة عالم اسلامي عنفي ومتخلف. وكان أنطون سعادة قد نبه عبر مقالات عديدة من الوقوع في فخ التفسير الديني لأنه سيؤدي إلى خسارة فلسطين:
“المسألة الفلسطينية ليست مسألة إسلام ويهود، بل مسألة قومية من الطراز الاول”(18)، فالصهيونية ليست ديناً، بل مشروعاً قومياً تحميه وتؤازره دول غربية قوية لها مطامع ومصالح في سورية الطبيعية.
تنظيم شعبي سوراقي مسلح
عملت “اسرائيل” والدول الغربية الاستعمارية على خطين من أجل القضاء على أي محاولة لاسترجاع الأراضي التي استولت عليها “اسرائيل”. تمثل الخط الأول بملاحقة ومتابعة وسحق أي محاولة لمقاومة المشروع الصهيوني، وتمحور الخط الثاني على منع أي تقارب بين دول سوراقيا يؤدي إلى إلغاء خطوط سايكس-بيكو.
مطرقة الحروب على سوراقيا لا تتوقف: من لبنان إلى العراق، إلى سورية، إلى غزة، مراراً وتكراراً: حرب اقتصادية، واعلامية، وعسكرية، وتدميرية، تشعلها الولايات المتحدة الأميركية ورأس حربتها “اسرائيل”.
لقد حذر سعادة السوريين (السوراقيين) من مغبة الاتكال على غيرهم من الدول العربية لاسترجاع فلسطين، لأن وضع المشرق العربي في مواجهة الكيان الصهيوني مختلف تماماً عن المغرب العربي أو الخليج، ونجد اليوم أن هذه الاخيرة مستعدة أن تعقد سلاماً مع “اسرائيل”، بينما لا تستطيع دول المشرق العربي إلاّ متابعة القتال.
لقد نشأت ونمت المقاومة ضد العدو الاسرائيلي في أرجاء سوراقيا وليس في أي مكان آخر، لأن أطماع “اسرائيل” تكمن في الاستيلاء على أرض “سوراقيا” كما تحددها الايديولوجية الصهيونية. اذاً، لا مجال أمام سكان هذه المنطقة إلاّ المواجهة والدفاع عن أنفسهم وحضارتهم، أو الموت. لا مكان للصلح هنا، فاما هم باقون أو نحن، لذلك كل الاستنهاض للدول العربية الأخرى، حكاماً وشعوباً، لم يؤد إلى نتيجة، لأن هذه الدول لا تشعر كما يشعر السوراقي بأن وجودها مهدد. تستطيع “اسرائيل” أن تعقد اتفاقيات صلح معها، فلا نزاع على الأرض، بل اعتراف من قبلهم بوجودها، فيما هذا الخيار غير متاح لنا، لأنهم يريدون اقتلاعنا من أرضنا، لذلك حين تنازل بعض حكام سوراقيا العرب وطالبوا سراً بعقد سلم مع “اسرائيل” كرئيس جمهورية سورية حسني الزعيم(19)، أتى الرفض من “اسرائيل” التي تزعم أنها لا تريد إلا السلام!
وجد سعادة أن مقومات صمود سوراقيا هزيلة للغاية بفعل الاحتلال العثماني لأربعة قرون، وايضاً لأن سلطات دول سوراقيا مرتهنة للخارج، والسبيل الوحيد هو في بناء مقاومة شعبية مسلحة تدافع عن حدود بلادها المستباحة من قبل المستعمر. ولقد برزت مقاومة شعبية في فلسطين والتحق بها العديد من السوراقيين، لكنها بقيت ضعيفة، تفتقد المال والسلاح، ولم تبرز مقاومة جدية استطاعت أن تواجه الجبروت الاسرائيلي إلاّ مع نشوء مقاومة حزب الله ابان احتلال “اسرائيل” الدائم لجنوب لبنان عام 1982. فالمقاومة المسلحة الشعبية حق لأي شعب تُحتل ارضه، ويعجز الجيش عن استرجاعها. هذا الحق تكفله المواثيق الدولية وشرعة الأمم المتحدة، لذلك من العبث التكلم عن ازدواجية للسلطة والطلب بسحب المقاومة في سورية أو لبنان أو العراق، طالما أن الجيش لا يستطيع القيام بمهمته الأساس ألا وهي حماية الوطن والمجتمع.
إن الحرب على سورية من منظور فكر سعادة، أدت إلى النتائج التالية:
أولاً، الحرب على الدولة السورية هي في الأساس حرب على قرارها بمواجهة “اسرائيل” وعدم توقيع صك الاستسلام لها، ولو كانت سورية التحقت بمعاهدات ككامب دايفيد، لما كان من ضرورة لمواجهتها.
ثانياً، لو كانت الدول العربية وشعوبها تعتبر نفسها حقيقة جزءاً من أمة عربية، لكانت سارعت إلى نجدة سورية والوقوف جانبها، لكن ذلك لم يحصل، لا بل حصل العكس، ووقفت غالبية دول الخليج جانب الولايات المتحدة الاميركية، ولم تجد في “اسرائيل” أي تهديد لوجودها ومصالحها. كما أن شعوب هذه الدول أقامت تنظيمات مسلحة لمحاربة الدولة السورية، ولم تبرز فيها أي تنظيمات شعبية مسلحة تحارب “اسرائيل”.
ثالثاً، الأمر نفسه ينطبق على مصر، حيث طالب رئيس جمهوريتها السابق محمد مرسي المصريين بالجهاد ضد النظام السوري.
رابعاً، ظهر للعيان أن أغلب الدول العربية، بقياداتها وشعوبها، تعطي الأولوية للصراع الديني لا الصراع القومي، وتعمل ضمن منطق الدول الدينية.
خامساً، وجدت سورية نفسها بحدودها الحالية وكما نصت عليها سايكس-بيكو عاجزة عن الدفاع عن نفسها دون مؤازرة دول سوراقيا لها.
سادساً، لم تقف حكومتا لبنان والأردن جانب سورية، لكن المقاومة اللبنانية تصدت للعدوان على سورية لأنها عرفت أن سقوط سورية يعني سقوطها وانتصار “اسرائيل”، وكذلك فعل الحشد الشعبي العراقي، أي أن المقاومة الشعبية العربية تمثلت فقط في دول سوراقيا.
سابعاً، إن مؤازرة الشعب السوراقي لسورية أدى إلى دحر المشروع الاسرائيلي-الارهابي، ما يؤكد مقولة سعادة بأن لا امكانية للانتصار على أعدائنا إلاّ بالوحدة.
أخيراً، الحرب على سورية أدت إلى سقوط خطوط سايكس-بيكو المصطنعة، وفتح خط عسكري يمتد من بيروت إلى بغداد وصولاً إلى طهران الداعمة لخط المقاومة، ما يشكل تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني.
هذه التجربة المشتركة بين فلسطينيين وعراقيين وسوريين ولبنانيين، لا تقدر بثمن، فلقد تم تواصل شعبي رائع، ويتوقف الأمر الآن على المثقفين للعب دور خلاق في ترسيخ مبادئ الحوار والتآخي والتعاون والتكاتف بين دول سوراقيا بعيداً عن التشنجات الاثنية والمذهبية.
المصادر
1 – انطون سعادة، الاعمال الكاملة، بيروت:مؤسسة سعادة للثقافة، 2001، الجزء الاول، صفحة 12، 189-193.
2 – انطون سعادة، الاعمال الكاملة، كل الاجزاء (11 جزءا) تشمل موضوع فلسطين لأن فلسطين بالنسبة لسعادة قضية سورية. راجع ايضا، في المسألة الفلسطينية، صفحة 142.
3 – انطون سعادة، في المسألة الفلسطينية، بيروت:دار فكر،1991، صفحة 136، أيضا، الاعمال الكاملة، الجزء الثامن: 429.
4– Francis Fukuyama, The End of History. New York: Free Press, 1992.
5- انطون سعادة، نشوء الامم ، بيروت:دار سعادة للنشر، 1999، صفحة 165.
6– Shahak Israel, “Greater Israel”, Global Research, April 29, 2013.
7 – انطون سعادة، في المسألة الفلسطينية، صفحة 143.
أيضا، انطون سعادة، الاعمال الكاملة، الجزء 8: 450.
8– Chaim Weizmann. The Letters and Papers of Chaim Weizmann. Rutgers University: Transaction Books, 1979, volume 2: 109, letter 112, June 1922. التقى الاميرفيصل بن الحسين حاييم وايزمان في لندن عام 1925 وقدم خدماته للمساعدة في استيطان يهودي في الاردن والعراق. كما أكد حاييم وايزمان ان الامير فيصل واخيه عبدالله وافقا خطيا على اقامة دولة يهودية في فلسطين، وقبلا بالانتداب البريطاني. راجع:Chaim Weizmann, volume 12:409-425; volume 22: 124; volume 23: 33
9– Document: The King-Crane Commission report. August 28, 1919.
10– Chaim Weizmann, The Letters and Papers of Chaim Weizmann, volume 9, p. 265.
هذه رسالة من حاييم وايزمان موجهة الى رئيس وزراء بريطانيا، لويد جورج، يقول فيها:
“The Zionist Organization has from the beginning put forth the minimum requirements essential to the realization of the Jewish National Home. It goes without saying that in no circumstances could the Sykes-Picot line be accepted by Zionists, even as a basis of negotiation. It would not only divide historic Palestine and cut off the source of the water supply of the Litani and the Jordan, but it would do far more. It would deprive the Jewish National Home of some of the most promising fields of colonization in the Golan and Hauran, upon which the success of the whole project largely depends”.
11 – انطون سعادة ، في المسألة الفلسطينية، صفحة 140 وما يلي.
12 – “Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm”. Information Clearing House, 1996.
13 – Saad Jawad, “The Iraqi Constitution: Structural Flaws and Political Implications”, London: LSE Middle East Center. Paper Series 01, 2013.
14– Moshe Adler, “Let the Iraqis Decide What to Privatize”, Washington Post, August 5, 2003, page A15.
15 – انطون سعادة، الاعمال الكاملة، الجزء الثامن، صفحة 256-258:
16– انطون سعادة، في المسألة الفلسطينية، صفحة 122، 136.
17– Samuel Huntington, “The Clash of Civilizations”, Foreign Affairs, volume 72 (summer 1993).
18– انطون سعادة، الاعمال الكاملة، جزء 15:145.
19- “Al-Zaim Proposal for an Israeli-Syrian Peace (1949)”. ECF, 2015. Itamar Rabinovich. The Road Not Taken. Oxford University Press, 1991. Chapter 3: “Israel and Husni Zaim” pp. 65 ff .
————————————————————————————–
تنويه: تمت كتابة هذا البحث في أيلول عام 2018، ونشر على موقع مركز دمشق للدراسات والابحاث في 25 اكتوبر 2018. ينشره سيرجيل بإذن خاص من الكاتبة السيدة صفيّة سعادة.