عندما نلقي نظرة على مواطن الحضارات القديمة نجد أن معظمها قام على ضفاف الأنهار، ومن أهمها حضارة الهلال الخصيب التي قامت على دجلة والفرات، والحضارة المصرية الفرعونية غلى نهر النيل، وحضارة الهند على وادي نهر السند، وحضارة الصين على النهر الأصفر (هوانغ هو)(1). العامل الاهم في قيام هذه الحضارات كان وجود المياه التي استقطبت الإنسان، الذي أسس لإقامة مجتمعاته بالقرب من الموارد المائية الطبيعية، وشملت هذه الحضارات كل نظم الحياة من زراعة وصناعة وتجارة عبر الأنهار وتربية مواشي وغيرها.
الانسان الذي قطن على مصب نهري دجلة والفرات استطاع أن يواجه التحدي البيئي من صحراء مجاورة وفياضانات موسمية، فسّخّر هذه البيئة لتطوره، وحفر القنوات واستغل المياه لتحسين معيشته، فكانت الزراعة وكان أول تأسيس لاجتماع بشري حضاري فاضت خيراته عن احتياجاته. لتصريف هذا الفائض ابتدأ السومريون أعمال التجارة ووضعوا الشرائع والقوانين لتنظيم المجتمع الذي توسع شمالاً على طول ضفاف النهرين، فتفاعل إيجابيّاً مع البابليين ومن ثم الآشوريين، ولم يوقف وهجه وامتداده الحضاري إلاَّ الفواصل الطبيعية من جبال طوروس وزغروس في الشمال والشرق والصحراء في الجنوب.
اللقاء الآشوري – الآرامي – الكنعاني
هذا الاشعاع الحضاري الآتي من ضفاف دجلة والفرات في الشرق، لم يجد له منفذاً إلاَّ على ضفاف المتوسط في الغرب، حيث لاقاه إشعاع حضاري كنعاني-أوغاريتي-آرامي كان هو الآخر قد وضع مداميك أساسية في نقل الانسان من عصره الحجري إلى مسيرة التمدن من خلال أحرفه الأبجدية وتبادله التجاري لإنتاجه الصناعي مع شعوب حوض البحر المتوسط. هذا اللقاء الآشوري-الآرامي-الكنعاني أدى إلى نشوء التفاعل الطوعي المتجانس، الذي أغنى هذه الحضارة الفتية وأكمل إشعاعها على كامل بيئتها الطبيعية الخصبة من زغروس إلى المتوسط ومن طوروس إلى الصحراء العربية. وبالرغم من أن الآشوريين انتصروا على الآراميين عسكرياً، لكنهم تبنوا لغتهم لسهولتها وأصبحت الأحرف الآرامية-الكنعانية لغة الأمة الآشورية، (الأرجح أن اسم آشور (ِAssyria) تطور في ما بعد ليصبح سوريا)، وأصبحت هذه الأحرف في ما بعد أسس كل اللغات في العالم. بين هذه الأبجديّة والتّجارة “اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة) وسيطرة العقل على كنوز الطّبيعة ومواردها فنشأ “اتجاهاً ثقافيّاً جديداً انتهى إلى عصر الآلة الصّناعيّة الّذي هو عصر التّمدن الحديث” (2).
الانشطار والتجويف الصحراوي
هذا الإبداع الحضاري اهتزت أركانه وجمّد في العام 539 ق.م. بعد الغزو الفارسي لسوراقيا من الشرق وقضاؤهم على الدولة البابلية، واستمر هذا الانكماش الحضاري بعد الغزوات الأخرى التي تبعتها من إغريقية ورومانية وغيرها دامت حوالي 11 قرناً، أي إلى القرن السابع م. أخطر ما حصل خلال هذه الفترة هو انشطار الأمة السوراقية إلى شطرين: شرقي تحت سيطرة الفرس، وغربي تحت سيطرة الإغريق ومن ثم الرومان. هذا الانشطار زاد في تجويف بادية الشام و”كاد يفصل بين الشّام والعراق أو بين شرق سوريا وغربها لولاّ النّهران السّوريان العظيمان الفرات ودجلة اللّذان حفظا استمرار العمران السّوريّ وإمكانية تكاثره وتوثيق الحياة القوميّة ضمنه.” كما ذكر أنطون سعاده في كتابه نشوء الامم(2).
بعد أكثر من 1100 سنة من الجمود والتراجع بسبب الغزوات والهجرات المتتالية، استطاعت هذه الأمّة أن تستوعب كل الهجرات الجديدة التي أتت إليها خلال هذه الفترة ونهضت بها ثانية بعد الفتح العربي، عند انتقال قيادة الدولة الإسلامية إلى دمشق في العام 661م ومن ثم إلى بغداد في العام 750م. خلال هذه الفترة عوْلمت بلاد الشام والعراق الإسلام لتقود الإمبراطورية الإسلامية من الصين إلى أوروبا، ولتقدم للبشرية الكثير في علم الرياضيات والفلك والطب وغيرها. رغم هذه الإنجازات لم تستمر هذه النهضة أكثر من ثلاثة قرون، حيث تفككت الدولة المركزية في بغداد وغزاها المغولي والمملوكي-العثماني التركي والصفوي الفارسي، وظل التجويف على حاله بسبب انشطار الأمة إلى شرق وغرب في الكثير من المراحل التاريخية.
بعد سيطرة الإنكليز والفرنسيين في بداية القرن الماضي على أمة حمورابي وآشور-بانيبال وهنيبعل وهشام وهارون الرشيد وصلاح الدين، وإنشاء دول سايكس-بيكو “المستقلة” من عراق في الشرق وسوريا الشام ولبنان وأردن في الغرب ودولة صهيونية / في أرض فلسطين في الجنوب، ظلَّ الوضع على حاله فلم تقم أية مشاريع لزيادة التواصل المجتمعي بين العراق والشام وتقليص التجويف بين الشطرين. الجدير بالذكر أنه رغم هذا التفتيت السياسي ومرور أكثر من 70 سنة على قيام (دولة إسرائيل)، لم تنهزم إرادة وروح هذه الأمة في البقاء والنهوض. ترتكز إرادة المقاومة وتحدي المخاطر المصيرية إلى النظام الحياتي / الوجودي التاريخي للهلال الخصيب، حيث تشكل شبكة الأنهر شرايينه وتحفظ وحدة بيئته، من دجلة والفرات وروافدهما في الشرق إلى بردى والعاصي والأردن والليطاني في الغرب، إضافة للثروة النفسية-الروحية المتمثلة بشعب حي أجاد استعمال هذه الثروة فكراً وصناعة وغلالاً.
تعمل الصهيونية العالمية وحلفائها على عدة خطط لتفتيت النظام الحياتي التاريخي لبيئة الهلال الخصيب، بشكل يصعب إعادة تواصله. ومن أكثر هذه الخطط خطورة هو سلب هذه الأمة ثروتها التي ضمنت لها النهوض والإبداع بعد مخاطر وتراجعات تكاد تحيلها إلى أمة منقرضة.
استراتيجيّة الأتراك لقتل الفرات ودجلة
عندما عرض الأتراك مشروع جنوب شرق الأناضول المعروف بالـ”غاب” (GAP) على الاميركيين كان الرد أن المشروع محدود ويمكن أن يكون أكثر طموحاً وشمولاً. عملت تركيا بنصيحة واشنطن ووسعت المشروع على دجلة والفرات ليشمل 22 سداً لري أكثر من 1,7 هكتار و19 محطة لتوليد الكهلاباء، وبذلك تحجب عن الشام والعراق أكثر من 70-80% من مياه دجلة والفرات التي مصدرها جبال طوروس وتهدد البلدين بالتصحّر. الاسرائيليون بدورهم أبدوا اهتماماً ملحوظاً بالمشروع بعد العام 1993 فقدموا الهبات والقروض والمساعدات التقنية التي كانت عاملاً أساسياً لضمان استمرار المشروع، ووقعوا على بروتوكولات مع الحكومة التركية سمحت لهم بشراء الأراضي في منطقة المشروع المتاخمة للحدود الشامية-العراقية.
لقد أُنجز حتى الآن (2021) أكثر من 95% من مشروع الـ”غاب” وأهمها سد أتاتورك على الفرات الذي تم تشغيله في 1990 وسد أليسو على دجلة الذي بدأ بتخزين بحيرته في 2019. النتائج الكارثية على الشام والعراق تتجلى بتكرار وتكاثر مظاهر الجفاف عاماً بعد عام على حوض الفرات بنسب متفاوتة وذلك حسب الاستراتيجيّة التركية في قطع المياه، وما ينتج عنها من خسائر، ففي 1990 تجلّت بخسارة العراق 1,3 مليون دونم تقريباً من الأراضي الزراعية الخصبة بعد تشغيل سد أتاتورك. وفي 2009 تجلّت بتهجير 300 ألف سوري من منطقة الجزيرة إلى دمشق والساحل. وفي 2018 وصلت إلى مرحلة حظر العراق لزراعة الارز والذرة. هذا الجفاف آخذ بالامتداد أيضاً إلى حوض دجلة بعد أن بدأت تركيا بتخزين سد اليسو في 2019 الذي تسبب بخسارة العراق 50% من المياه المتدفقة من الحدود التركية الحالية.
في كل الحالات، يتوقع الخبراء أن تتصحر ما قد يصل إلى 60% من الأراضي الزراعية المروية وهجرة 5-10 مليون نسمة من الريف إلى المدن(3) بعد الانتهاء كلياً من بناء السدود وتشغيلهاعلى النهرين. هذه الكوارث اختصرت في تقريرين منفصلين للمنظمة الدولية للبحوث ولمنظمة المياه الاوروبية في 2007 الذين استنتجوا موت نهري دجلة والفرات في العراق في العام 2040 بسبب السدود التركية. كذلك حذر منها العالم الياباني، أكيو كيتوه، من معهد متيولوجيكل للأبحاث في اليابان، الذي يدرس تحولات الطقس وتأثير السدود التركية، عندما توقع في 2009 “زوال الهلال الخصيب القديم في هذا القرن والعملية قد بدأت”.
أمام هذا الواقع المرير من سيطرة تركيا كاملة على أهم نهرين في سوريا الطبيعية والتوقعات الخطيرة بزوال النهرين في 2040 إذا اكتملت السدود بدون أي محاولة من دمشق وبغداد لوقف هذا الخطر، لا بدّ من إلقاء الضوء على المضاعفات الاجتماعية التي قد تنتج عن زوال معظم النهرين جنوب الحدود التركية الحالية وهجرة 5-10 ملايين نسمة من ضفاف النهرين إلى المجتمعات الخصبة المحيطة. رغم الانقسام السياسي بين شطري الأمة الشرقي والغربي في الكثير من المراحل والحقب التاريخية والهجوم الصحراوي من الجنوب، ظل الفرات السد المنيع أمام الزحف الرملي وكان عاملاً طبيعياً فعالاً في استمرار دورة الحياة الواحدة على مجرى النهر، وبذلك ساهم بتمكين الأمّة السوراقية من الحفاظ على وحدة مجتمعها ولو بنسب متفاونة خلال العصور والصمود والبقاء امام كل العزوات والهجرات والانقسامات السياسية.
أمام التهديد بانقطاع هذا النهر جنوب الحدود التركية الحالية، وأمام وجود أمة تركية حيوية تعمل جاهدة لربط وضم أطراف الأمة السوراقية إلى مجتمعها في بلاد الاناضول، فمن المتوقع أن ترتبط منطقة شمال سوريا بين الحدود التركية وجبال طوروس ارتباطاً أوثق بالمجتمع الاناضولي. هذا سيؤدي إلى انشطار المجتمع السوراقي إلى مجتمعين منفصلين كلياً في الشرق والغرب وفاقدين لـ ‘المناعة القومية‘(4) بالكامل، وبذلك سيكون من السهل على المجتمعات الحيوية الأخرى المجاورة كإيران وتركيا ومصر والسعودية والمحتلة كالكيان الصهيوني من بسط سيطرة استراتيجيّة على أجزاء كبيرة منها وإخضاعها لنفوذها وسلب ثرواتها. إن الامة السوراقية تحتضر بين الحياة والموت وإذا لم يواجه قطع مياه دجلة والفرات بكل الامكانيات والطاقات المتاحة فحياتها التي بدأت بالفرات قد تنتهي به.
المصادر:
- الماء وحضارة المجتمعات الإنسانية/ أميمة سميح الزين
- نشوء الامم – أنطون سعاده
- هل سيموت دجلة والفرات في 2040 – راجي سعد، موقع سرجيل
- محاضرة “الأراضي السورية المحتلة – قراءة في المعاني الجيوسياسية” – نزار سلوم https://www.youtube.com/watch?v=6bNoc7V6_vY