الصُرّة
(على هامش التغريبة الركَاويّة)
[هذه القصة حقيقية، بأمكنتها وأشخاصها ووقائعها التي جرت في سبعينيّات القرن العشرين. لكن أن يكتبها ويؤرخهاً أدباً، الدكتور الشاعر يوسف بوزو، فذلك بحد ذاته واقعة استثنائية مشبعة بالدلالات. لماذا نصف الأمر على هذا النحو؟
في العام 2016، كانت مدينة الرقة قد استحالت إلى خراب… إلى رماد أسود… الوعي المُختطف كان حاكماً في ذلك الوقت… كان ثمة من يذبح أمه في إحدى ساحات الرقة بفتوى من طرف لسان معتوه… هام الرقاويون الوضّاحون على وجوههم في تغريبة سيكتبها يوسف بوزو كملحمة تؤرخ لهذا العصر وأحداثه وأفكاره وتفاصيله… الخراب الكبير ورماده الهائل يُعمي البصر والبصيرة… في هذا الوقت تماماً يجد يوسف لنفسه فسحة على هامش ملحمته الركاويّة، ليوثّق واقعة استشهاد خليل ابن الرقة في أرض فلسطين.
ما هي الدلالة هنا؟ وماذا يعني أن يلوذ شاعر رقاوي بفلسطين من هذا الخراب والسواد الذي يطوّقه؟
يعني بوضوح، أن ذاكرة يوسف ظلت نقيّة بيضاء كالثلج لم يتمكن دخان الموت الزؤام واختلاطات الكارثة التي تضلل المعرفة بالضحايا، كما تضلل المعرفة بالقَتَلة… كل ذلك وما يرتبط به لم يتمكن من اختطاف نسيمة من روح يوسف الجياشة بحب من تعلّم على محبته، ولا اختطاف ذرة من وعيه النوّار المسكون بالقضايا التي أقامت فيه منذ التفت نحو الجنوب، وهناك رأى بوضوح قضيته حيث ومن دون أي التباس يمكن تمييز الضحية من القاتل.
دون أدنى شكّ، عندما يكتب يوسف بوزو هذه القصة في العام 2016، فهذا يعني أنه ينتصر على الخراب ومعناه، ويعيد تلك الصرخات التي كان يسمعها من ساحات الرقة: عاشت فلسطين. ن. سّلّوم]
سيارة ” الدوزوتّو “ الحمراء المجنّحة والتي انطلقتْ من كاراج رشيد الخاروف من محلّة “بستان كل آب ” في حلب، ظلّتْ تنهبُ الطريقَ المؤدّية للرقة الوضّاحة بعجلاتها الجديدة كأنّها طيرٌ تمايلَ بجناحيهِ على سدّةِ الأفق. ستستغرقُ أكثر من ثلاث ساعاتٍ لتصلَ الجسر “العتيج” حين ينعكسُ خيالها على خدِّ الماءِ وهي تحمل الآمال والآلام، كأنّها تحكي قصة أهالي الرقة الطيبين وتنثرها رذاذاً من غيمٍ، أو تعيد صلاة روحها التي رفرفت من بعيدٍ في الوقت الذي ينعطف فيه ” أبو كَارو ” بالدركسيون وهو يدخّن لفافة التبغ، ويضعُ يده اليسرى على النافذة نافثاً دخان اللفافة كغيمةٍ راحتْ تفضي بأسرارها آخذةً بروحهِ إلى جبال الآرارات، ولا تلبث أن تتمايلَ وتتماهى مع دخان سيارتهِ الجديدة. وبين الحين والأخر يتلمّس قبعته الصوفيّة ويحاول شدَّ انتباه الركّاب إليه، ولا يلبث أن يطلبَ من الراكبَيْن أحدهما شاب في عشرينيات عمره والآخر في الأربعينيات، واللذان جلسا معه من الأمام أن يبتعدا عنه قليلاً مبَرّراً لهما ذلك حاجته للمناورات السريعة التي تتطلّب منه الحذر والدقة والسرعة في ” الغيار ” خصوصاً حين ” يدوبل” السيارة التي تسبقه على الطريق والذي كان ذهاباً وإياباً حيث يضيق في أكثر من مكان/ يؤكّد أبو كارو بأنّ هذا الضيق ما بعده إلاّ الفرج، ويصرُّ على أنّ الأفئدة تقترب من بعضها بشكلٍ حميمي كهذا الشريان الطريق الذي يأخذ إلى عينيها.. / كما أكّدَ عليهما ألاّ يغفيا ويغلب عليهما النعاس حينها ستقع الكارثة…!
كلاهما يلبس بنطالاً ما أثار حفيظة ” أبي كَارو ” للسؤال عن وظيفتيهما…؟ يجيب الأول الجالس جنبه بأنّهُ جاء من دمشق بعد تقديم امتحاناته في قسم الفلسفة حيث يعمل معلماً في مدرسة الرشيد الابتدائية، وهنا يتدخّل “أبو كَارو ” :
– يعني بجنب الكاراج خالو..
– نعم .
أمّا الثاني فكان جوابهُ وهو يمسك بحقيبة جلديّة في حضنه ويضعُ عدساتٍ سميكة على عينيه حاسر الرأس :
– أنا المفتّش ” عبد الحق ” وأتيتُ للرقة بمهمة تفتيشية على دوائر الدولة كلّها…
يبتسمُ أبو كَارو متلمّساً قبعته :
-” دواير…دواير..؟!…هاي رقة بابا ..بلد بسيطة والله…وما فيها رأس مال لحتى تفتشو عليه بابا…؟! ”
يصدُّ المفتشُ برأسهِ ممتعضاً، وينظرُ إلى السهول الخضراء امتناعاً عن الجواب…؟
– بابا ..والله هاي رقة مو متل حلب الكبيرة…يا هو ..”
يتململ المفتّشُ بينما تدور عجلات الدوزوتّو المجنّحة الحمراء وهي تهتزُّ على الطريق، وحين تعبرُ بعض الحفر الترابيّة فإنّها تثيرُ الغبارَ الذي ظلَّ يلاحقها كأنّها رفوف من الدرّاج راحت تفتح درباً آخر في البادية، ولا تلبث رفوف الكطا وهي تفزعُ من ” عنين ” موتورها محلِّقةً وملامسةً بأجنحتها سقف السيارة بكلِّ حنان كأنّها تودِّعُ ولفها الداشر …في الوقت الذي راح فيه خيالُ طالب الفلسفة المعلّم يركضُ إلى وسط الحوش مسابقاً روحه وخفقان قلبه تحت الدالية وشجرة التوت، وخيال ” فضّة ” حين يفتح باب الحوش الكبير ويمشي على الحصى البارد ليصلَ حبل الغسيل وهو يلوّح له من بعيد خلف ” كَصيرة الكودلي ” ، فيغيب في لمسة يديها الحريريتين، وكيف سيشرح لها عن الأسبوع الذي أمضاه في دمشق بعيداً عنها…؟ يرتعشُ من هذه الومضة التي لمعتْ في خياله مراقباً الطريق من الواجهة البلّوريّة الأمامية للسيارة التي تنهب الأرض بعجلاتها، وتغافل رفوف الدرّاج حين تقترب منها لتلامسها بكل ذاك الحنان.
” الفضاءُ مدىً واسع كعينيها ” …يكلِّمُ المعلّم نفسهُ منتظراً اللحظة التي سيكون فيها فوق الجسر العتيج، لحظتها ستطير فراشات روحه إلى خيال ” فضّة ” ودالية الحوش.
” أبو كَارو ” يواصلُ توصياته والتي يكرّرها على الركاب يوميّاً عندما تكون السيارة قد ودّعت ” ساعة حلب ” باتجاه الميدان، ثمَّ شرَّقتْ على طريق الرقة الذي لوّحَ باخضرارهِ على جانبي الدرب.
المقعد الخلفي يشغلهُ ثلاثةُ ركّابٍ بينهم امرأة واحدة كانت تجلسُ قرب النافذة خلف أبي كارو، وشخص بدا أنّهُ زوجها من خلال الحوار الذي كان يدور في فترات الاستراحة من أحاديث، وأغاني أبي كَارو، ونصائحه وتأمّلاتهِ.
الشخص الثالث الوحيد في المقعد الخلفي والذي بدوره جلس قرب النافذة على اليمين كان يتأمّلُ الفضاءَ، وأجنحة الطيور حين تصفّقُ محلِّقةً في سموات الله ومسحة حزنٍ بدت في تعابير وجههِ المتعب، وبين الحين والأخر يتلمّس عقاله / البريم ، وشماغه/ الجمدانة ، ثمَّ يفتحُ ” صفط التتن ” مسافراً في ذاكرتهِ المنهوبة، آخذاً الماضي إليها ومستحضراً المستقبل فيها، ويلفُّ لفافتهُ التي ستتوهج حتماً حين يلوح له شجر الغَرَب من بعيد…يعبُّ منها كأنَّهُ عطشٌ يشرب من دلو ماء…فاتحاً أبواب ذاكرة صباه إلى بادية ” طوال العبا ” حين كان يسرح بخياله الذي يقود قطيع أغنامه إلى الماء…يا له من ثغاءٍ جميل…وكأن الأغنام تبدي فرحها وإعجابها ببهاء البادية وفضائها الجميل. موسيقا رافقت روحه لسنوات…
خمسيني العمر بدا ذلك من تجاعيد وجههِ المبكّرة ومن عينيهِ الغائرتين في البعيد، فهو لا يشارك في الأحاديث التي تدورُ في السيّارة.. ربما لديهِ مشكلة…؟! لكنّهُ كان يبتسم بين الحين والأخر رغم المرارة التي سكنتْ روحه حين وصلهُ خبر ابنهِ خليل…خليل البطل كما قال رفاقه له، واللحظةِ التي تسلّم فيها ” الصرّة “ الصغيرة من رفاقهِ ورمى بها في ” الطبّون ” دون أن يرى محتوياتها، والذي أحزنهُ أكثر تأكيد رفاقهِ على تحقيق وصيّة خليل.
الصرّة، وذاكرته راحتا تتماهيان في ذاك الفضاء الذي بدا كأنّه بلانهاية…!
ذاكرتان، إحداهما في ” الطبّون ” والأخرى في خيال برهوش تتوثّبان إلى الحُلمِ الذي راح يركض في براري روحه أخضر المحيّا ليعيدَ له صباه في براري ” طوال العبا ” ،وكيف كانت تتقافز الجدايا أمامه فاتحةً دروب الحبِّ إلى القبلة الوحيدة واليتيمة على اللمى العطشى…
برارٍ من الحبِّ مفتوحة إلى الله وذاك المدى الذي لن ينتهي…
الصرّة تحتوي أسرار خليل ولا يعرف ما هي…؟وذاكرته المنهوبة التي تهيّأت لتسعفه في هذه اللحظات حين يرى البادية من زجاج نافذة الدوزوتو المجنّحة وهي تنهب الطريق إلى الرقةِ الوضّاحة فتتكثّفُ الصورة وتتداخل في المخيّلة كأجنحة الطيور وهي تصفّق فاتحةً النهار على مصراعيه.
إنّهُ” برهوش “ حين سألهُ ” أبو كَارو “: من أيّ العمام أنتَ…خالو ؟، وكرّرها خمس مرات وبصوتٍ عالٍ…فكان الجوابُ: من ” طوال العبا ” عشيرة التيس../ هي البداوة التي تكنّى أبناؤها بأسماء النجوم والحيوانات / والذي توافق مع وقف هدير موتور الدوزوتّو الواقفة أمام المحطة لتتزوّدَ بالوقود قبل انطلاقها إلى الرقةِ سمرة الخدِّ ومرابع الروح وملاعب الصبا، وذاكَ الغروب الذي كان ينتظرها فوق الجسر العتيج، والهباري التي لاحتْ ولوّحت من بعيد وهي تقطفُ أجراسَ القطنِ البيضاء على ضفتي النهر، وتملأ ” الشلول” الواقفة كأنّها تملأ أحلام النهار البهي وزقزقاتهِ في وسائد مطرّزة ومنضودةِ في دار ” النضد “.
إنّهُ برهوش الأصم…؟
يسألُ أبو كَارو نفسهُ :
كيف يسافر إلى حلب وهو أصمٌّ..؟! فقد تدهسهُ سيارة في الطريق لأنّه لا يسمع زمّورها…!
لا يدري أبو كَارو بأنَّ ” برهوش ” قد استعاض عن حاسة السمعِ بأحاسيسه الأخرى، فروحه تتلمّسُ الغروبَ والشروقَ والغيابَ والزقزقة وهديل الحمام وحفيف الأشجار، وطقطقة حطب الهداد وهو يتجمّرُ في المواقد خلال مربعانيّة لا ترحم، وأجراس شجيرات القطن وهي تتفتّح وخرير النهر ورقرقتهِ، والنواح وثغاء الأغنام، وحين ينقر بإصبعهِ على ” الدبشيّة / البطيخة ” ليسمع روحَ نضجها ويتراءى له احمرارها الجميل كخدّيها، وحلاوتها في فصل صيفٍ قائض الحرِّ …!
روحهُ التي تلمّستْ آذان أبي عبدو الضرير بشجوه وشدوه وهو يطاردُ غزالاته الشاردة أوّل الحُلمِ، حين يرى اللمبةَ الخضراءَ أعلى المئذنة فيخفق قلبه، ويركضُ في براري الروح الخضراء التي تركها عند تخوم ” طوال العبا “…حين طبع قبلته الأولى، وثغتْ صغار الجدايا فرحةً على العشب الداشر هناك..! نعم يذكرُ هذا، ويتذكّر كيف غادر براري الله ليسكنَ في الرقة بجوار الجامع “العتيج، هو و” أبو البيب ” يشتركان في حائطٍ فخّاريٍ واحد، وشجرة الكينا التي تتوسّط “حوش ” أبي البيب كان تميلُ وترمي بظلّها أيضاً على حوش برهوش أبو خليل فيصبح المدى رحباً بهما وبدجاجاتهما اللتان تسرحان معاً، وكم تماهى دخان تنوره مع هباب لمبة ” أبي البيب ” ليلة الجمعة حين يعود من سهرته الصوفيّة تاركاً اللمبة تشتعل حتى آخر الروح..! وكم تمنّى في هذه اللحظة لو أنّهما كانا يشتركان في الروح أيضاً / يا ريت ” أبو البيب ” عايش ويسمع شسوّى خليل كان ركب العوربانة ودار في حارات الرقة كأنّهُ يزفُّ خليل إلى الجنة وهو يصرخ: سوّاها أبو ابراهيم…والله سوّاها… أنا أبو البيب حمود أخو هلالة خيّال الزركَة، وبغله يهزُّ برأسهِ حين يسمع..! يكلّمُ نفسه والدمعة تجرح طارف خدّهِ /
أبو كَارو لا يدري كيف كان برهوش يصغي بروحه للداية أمّ حسن التي كانت تولّدُ زوجتهُ وهو في غرفةٍ مجاورة…!
يحدثُ هذا بُعيد العصر في أواخر خمسينيات القرن الماضي. السيارةُ تنهبُ الأرضَ ، والأرضُ تكملُ دورانها لتقتربَ من ” مريبط ” حيث استراحة الشاي على كراسي القش الصغيرة، والصحو يأخذ السماءَ برفوف حمامها وبطّها المهاجر نحو الجنوب والذي استراح على ضفة النهر ليردَ الماءَ…مارّاً بالبادية في رحلة البحث عن الدفء حين يوزّعُ رسائل الأحلام على أصقاع الأرضِ…لحظتها يكون عبّاد الشمس قد تهيّأ لاستدارة الغروب.
رائحةُ الكبابِ قد فاحتْ عندما بدأ يتجشّأ ” أبو زهيّة ” من مقعدهِ الخلفي جانب زوجتهِ التي شعرتْ بالدوار، وهو يتمتمُ لها :
/ نسينا نشتري “الملبّس “، والله ألاّ تفضحنا عنود، ” بس يا الله هاي اشترينا لهم مستَتْ يكفّي ” /..
تبتسمُ زوجتهُ التي بدتْ حاملاً من انتفاخ بطنها، وتحرّكُ ” التراجي ” فيهتزّ الرنينُ ليغادرَ السيارة متماهياً مع عنينِ موتورها، ومصفِّقاً مع رفوف أجنحة الحمام الداشر خلف الأفق…!
– ساعة ونصل الجسر العتيج…/طَوْلي بالك يا ” مَرَة ” بس تشمّين هواها ما يظل دوخة وتردّ روحك عليك، وبطريقنا نشتري وصفة الدكتور” موريس كوسا ” من صيدلية ” طاطوز “.. “هالْحَزْ” ننزل ونستريح ونشرب الشاي الخمير بمريبط / قال” أبو زهيّة ” لزوجته التي ظلّتْ تبتسمُ له رغم الدوّار الذي تعاني منه أثناء السفر…بينما ظلّ يحرِّكُ
“عقالهُ”، ويثبّتهُ كلما مالت السيارة أو حاول أبو كَارو أن ” يدوبل ” سيارةً أخرى.
شجيراتُ عبّاد الشمس التي لاحتْ جانبي الطريق كانت تمتصُّ اصفرارَ ووهج الشمس الحارقة وهي تنتظرُ الغروب الجميل لتنامَ ليلها الطويل في عيون النهار الآتي، وتتدلّى برؤوسها ملاحقةً إيّاه حين يوشك على الغروب، وأبو كَارو يلقي التحيّةَ على السيارات الآتية من الرقة باتجاهِ حلب رافعاً يده اليسرى من النافذة …كأنّهُ يوزّعُ الحبَّ والسلام الذي كان ينشد .
أبو كَارو يكرهُ استخدام ” غمّاز ” السيارة و” زمورها ” كما قال للراكبَيْن من الأمام، فبرأيهِ مثل هذه الأعمال ” تلبّكُ” السائقَ الآخر…فهو يستخدمُ الزمّورَ فقط حين” يدوبل ” السيارة التي تسبقهُ، وحين يكون فوق الجسر العتيج معلناً وصوله وحاملاً تلال الحبِّ، والبقلاوة، والمستت، وعلب الحلاوة، وحنّة فتوح وكرزة، والفستق الحلبي، والزبيب، والتين المجفّف، وأقمشة المخمل، والشيفون، وصناديق البيرة، والعَرَق، والنبيذ… مستقبلاً وجه الرقة البهيِّ، وفاتحاً غروبها الجميل، وملوّحاً لأشجار الغَرَبِ، وصاعداً مع دعسات المازوت طلعة ” القلّة ” مروراً بمحطة ” رفول آرو ” وصولاً إلى كاراج الحاج ” دعيس.
يخطفُ بنظره على المرآة يميناً وشمالاً ليرى حال الطريق وخلوّه من السيارات والشاحنات، ثمَّ للأعلى ليرى ركاب المقعد الخلفي وكيف يهامس أبو زهيّة
زوجته، وكيف يسرح خيال برهوش في تلك البراري الداشرة على جانبي الدرب وهو يبحثُ عن حُلمٍ تمنّى أن يراه.
إنّهُ أيلول بشجيرات قطنهِ الخضراء والتي لاحت منها أجراس بيضاء كانت تتفتّحُ من شدّةِ الحنين حين تقطفهما ” شمسة “بأناملها الحريريّة لتجمعَ ما يعادلُ ثمان كيلوات، وتدحيه في الشلِّ الواقف وسط الحقل…تعبُ يوم كاملٍ من الشروق إلى الغروب… سيحتاج الشلّ أكثر من عشرة أيّام ليمتلئ، وسيحتاج أكثر من مئة بيت من” الموليّا ” كي يحفرَ الحبُّ في نسيج الشلِّ أخاديدَ الجمالِ واللونِ، ولمسة يديهِ..” حمود “..!
– الشَعّارْ ” عم ” يلبّكنا بطلباتهِ من الرقة / قال أبو كَارو وهويسعلُ بينما تهيّأتْ السيارة للوقوف في مريبط من حركة يديه وهو يفرّغ ” الفوتيس ” بمهارةٍ وحذلقةٍ عجيبة…لتهرَّ السيارة وتقف عند الاستراحة وكأنّها تعرف مكان ظلّها المعتاد…” مريبط “..!.
تنام مريبط على كتف النهر في علوٍّ مهيبٍ حيث تستيقظ السهول من غفوتها تاركةً سحر التاريخ وهو يختبئ برقَمه الأثرية لشروق يومٍ جديدٍ يأخذُ الصحوَ من مراعي الحُلم، حينها يتعالى ثغاء الأغنام في البراري الخضراء الداشرة، ويكتبُ النهارُ ميلاده على الوديان، ويدفنُ سرّهُ في حليبها” خاثراً” ولا أبيضَ من ندف القطن الراكض على ضفافِ النهر الحالمة.
يجلس أبو زهيّة وزوجته على كرسيّي قش يشربان الشاي الخمير، وأمّ زهيّة تلفُّ بطنها الحامل بِـ “زبون الشيفون” وبين الحين والأخر تتلمّس بطنها حين يتحرّك الجنين و ” يدفرها “، ليهمسَ أبو زهيّة: ابنكِ ” لقّاسْ “يا ” مَرَة “..!
وظلَّ أبو كَارو مع المفتّش والمعلم يكملان حديثهما عن الرقة الوضّاحة ويشربان الشاي المجهّز خصيصاً له.. بينما راح يتمشّى ” برهوش ” أمام الاستراحة سارح الفكر والخيال وهو يعدِّلُ ” عقاله / البريم “، ويعبُّ من لفافة تبغه التي سافر دخانها حاملاً أحلامه المؤجلة والمنهوبة…
يبتسمُ…يكلِّمُ نفسهُ: ” خليل ” ابني البكر، ثم يبتسمُ ويتنحنحُ ويعدّل من قامتهِ المحدوبة الألم، وينفثُ دخان اللفافة إلى سمواتٍ بعيدة راحت تلوح له من بعيدٍ…أبو خليل…أنا أبو خليل… ويهزُّ برأسهِ…!
تسافرُ مخيّلتهُ في المستقبل لتعودَ إلى الماضي وما حوى من ذكريات ظلَّ وقعها في نفسهِ يرسمُ تفاصيلَ روحهِ المعذّبة..
يتداعى أنين زوجتهِ الماخض ” هَدْلة ” عبر جدار الغرفة الجصيّة إلى روحهِ فيتألّم لآلامها الجارشة …إنّهُ الولدُ البِكر خليل…!
كان يحدثُ هذا في خمسينات القرن الماضي، والداية أمّ حسن تستخدم كلّ مهاراتها في فنِّ التوليد خبرةً اكتسبتها من والدتها في صفد قبل الشتات، وهي على اتصالٍ دائمٍ مع الدكتور ” مرداش ” توخّياً من المفاجآت التي قد تحدث خلال سير المخاض…
“برهوش” يشعر بأنينها الذي تعالى إلى سمواتٍ بعيدةٍ ما حدا به أن ينظر من النافذة المفتوحة على زريعة الحوش الجميل ليرى الداية أمّ حسن تدهن بطن زوجته بالزيت، وتقرأ الفاتحة والبسملات و ” سورة مريم “، لكنها تخرج من جيبها ورقة من أشجار الغَرَب وتقرأ عليها بعض الآيات، وتتمتم، ثمّ تنفخُ على ورقة الغَرَبِ وتلصقها ببطن زوجته وتصغي من خلالها لتسمعَ دقات قلب الجنين…قلب خليل، وتنصت إلى ذاك الفضاء الذي يحيط به وكأنّها كانت تحاوره وتحاكيه، لا بل قد تداخلَ الفضاءان…جوف الرحم، وفضاء الحوش الجميل…!
ولا تلبث أن تخرج مسرعةً من الغرفة إلى ” العرزالة ” حيث أجَّ الجمر تحت ” لكَن ” الماء لترفعه وتضع بدلاً عنه ركوة ماء تلامس الجمرَ المتوهّجَ وترمي فيها ثلاث ورقات من الغَرَب، وخصلة من الزيزفون، والريحان، ثمّ تُخرجُ زجاجةً صغيرة من ” عبِّها ” لتضيفَ منها بضع قطراتٍ من الزيت الذي ظلَّ يرافقها في رحلة الشتات من فلسطين، ولا تلبث أن تقرأ عليهما ” آية الكرسي ” ودعاءَ الفرج الذي تعلمته من جارتها في صفد حين تعود من زيارة كنيسة المهد، وتسكب من هذا المزيج السحري في كأسٍ زجاجية، وتسقيها لزوجتهِ :
-اشربي…اشربي يا ” هدلة ” الله ييسّر لك ويفتح لك من عنده ..” شوَي…وبتخلَصي ” .
لا تدري أم حسن بأن أبواب السماء قد فُتحتْ…غَرَبٌ، وزيزفونٌ، وريحانٌ من شتلاتٍ تناثرت في ” سطولٍ ” أمام عتبات البيوت، وزيتٌ من فلسطين مهد المسيح عليه السلام، والمسجد الأقصى المبارك حوله…كلُّ هذا سيفتحُ السماء العاشرة بكلِّ تأكيد .
وبرهوش يراقبها عن كثب ويفركُ بيديهِ ملتّاعاً ومتحسّراً على صراخ زوجتهِ..
يجلسُ تحت ظلال شجرة التوت متلمّساً جذعها سارحاً بخيالهِ ونافثاً بلفافة تبغهِ إلى البعيد…حيث تماهى الماضي بالحاضرِ والمستقبل، وتراكبت الصور في مخيّلتهِ المنهوبة والمثقوبة بالألم…!
/ هل كانتْ تعرفُ بأنَّ خليل هذا سيستشهدُ في عمليةٍ فدائيّةٍ في الجليل الأعلى شمال فلسطين كانت قد أرعبتْ العدو…؟ آآآه لو كانت تدري لمسحت بطن والدته “هدلة” وأغرقتهُ بذاك الزيت المبارك والمعصور من شجرتي الزيتون الواقفتين أمام بيتها في صفد، والتي خبّأت منه قليلاً حين غادرت البيت في رحلة الشتات التي لم تنتهِ بعد، ولقرأت عليه سورة ” يس “، و” الرحمن “، وما تعلّمتهُ من جارتها من تمتمات صلاةٍ حين كانت تعود من كنيسة المهد وقد حضرت قدّاس الأحد…!/
يسمع برهوش الداية أمّ حسن وقد تهادى صوتها من بعيد :
” أوراق الغَرَب يا بنتي هي حبل الوداد الذي أتواصل منها مع جنينكِ، وما الزيت إلاّ البركة بعينها. إنّه روحُ الحبِّ وعصارة الزيتون في هجرته ودورتهِ مع الاخضرار
والحياة…! ”
لا ينسى ” برهوش ” منظر تلك الدمعة التي جرحتْ طارفَ خدِّها وهي تكلِّمُ زوجته الماخض حين ذكرت الزيتون وفوائده…مؤكّداً بأنّ قلبها ركضَ إلى هناك…بيتها في صفد…وخيال ابنها الشهيد حسن، و” بارودته ” المعلّقة على حائطِ الجص في الغرفة الوحيدة.
لازال رنين كلماتها يدوّي في روحهِ سارحاً في سهول مريبط الخضراء إلى أن رفرف سرب البطِّ المهاجر قاطعاً سلسلة مخيّلته التي تأخذُ به دوماً إلى خيال التين وسط الحوش، وبراري ” طوال العبا “…تلك المخيّلة التي صارت ترسمُ الجبال في شمال فلسطين حيث يرقد ابنه خليل…!
” ديرُمْ كراسيهمْ لمَكْسَرْ فيّهمْ… هذي كَهاويهمْ وهذا زيّهمْ “
لازال رنين صوت أختهِ ” القوّالة ” يرنُّ في أذنيهِ من فناء الحوش الجميل حين جاء خبر استشهاد ابنه خليل، والدمعةُ التي اختلطتْ مع ” هلاهل ” فرحٍ لمّا تزلْ تتدحرج من عينيهِ الغائرتين في صمت الأبد، حين جلس تحت ظلال شجرة التوت مندهشاً من هول الموقف، باكياً بقلبه، وفرحاً بروحهِ…!
– ” يا لله بابا…يا لله دوبنا نوصل قبل الغياب…بابا…جاهزين ؟ ” قال أبو كَارو وهو يتأهّب لقيادة الدوزوتّو الحمراء
المجنّحة بينما حلّقتْ رفوفُ البط المهاجر بعيداً في سماء البادية متجهةً إلى الجنوب الدافئ وهي تتزوّد من حبّ النهر وشمس نهاره الذي رافقها في رحلتها.
السيارة تشرِّقُ نحو الرقة الوضّاحة كأنّها تسابقُ البط المهاجر في رحلتهِ. يرفعُ أبو كَارو قدمه عن دعسة المازوت حين تهرُّ مسرعةً على نزلة ” الثْدَيين ” ليعاودَ مناوراته العجيبة والسريعة وهو يودّعُ ” هنيدة ” و”شلول ” القطن الواقفة في الحقول وقد تشمّست بشمس ذاك النهار…
تلوحُ الرقة من بعيد حين تنزل الحمراء المجنّحة نزلةَ ” أبو قبيع ” ملامسةً صفحة الأفق الجميل، وموّدعةً ذاك الغروب البهي الذي انعكس على لون “الدوزوتّو” فزادهُ احمرارَ، بينما ظلّتْ تلال البِشري تكتمُ حزنها، ونواح كَطاها، وتكظم غيظها مرتعاً للعشب الداشر الذي راحتْ تتراكضُ فوقه الجدايا وهي تفتحُ بثغائها نهاراتِ الله لغروبٍ آخرٍ، وشروقٍ جديدٍ، في الوقت الذي تمايلت فيه رؤوس عبّاد الشمس إلى الغرب وهي تكملُ دورتها في الحبِّ، والمشتهى…!
تتمايلُ السيارة ، وتتهادى فوق الجسر العتيج لحظتها راح يركض قلب المعلم إلى دالية الحوش، ورائحة الخضيرة التي تتعطر بها ” فضّة “، ومقاعد مدرسة الرشيد وجرس الباحة وهو يرنُّ معلناً انتهاء وبداية الحصّة… بينما فتّحَ وجه أمّ زهيّة وهي تشمُّ هوائها من النافذة والتي رافقتها ابتسامة أبي زهيّة، وتلويحته للغَرَبِ بيدهِ اليمنى وكأنّهُ يرحِّبُ من بعيدٍ بضيفٍ عزيز على قلبه. يرمي أبو زهيّة بلفافة تبغهِ ويهمس بأذن أمّ زهيّة:” ها…ترى وصلنا والشمس لسّع ما سقطتْ بالمَيْ..!”
ظلَّ المفتشُ عابساً وهو يتأمّلُ النهر الرقراق، وحاضناً حقيبته الجلدية التي حوت أسرار الدولة كما يعتقد.
أبو كَارو يشعل لفافته الأخيرة وينفث منها ما تطاير من أحلام هذه الرحلة، مدركاً أن لا سيارة تسبقُ الحمراء المجنّحة والتي سيتباهى بسرعتها في مقهى السرايا يوم الأحد، ويرمي بحجر النرد..” دوشيش…!” ليربحَ من أبي أرشاك وحمدان. سيركنها أمام البيت ولديه إحساس بأنَّ أم كَارو ستتباهى بها أيضاً أمام جاراتها وهي تسردُ لهنَّ عن مغامرات أبى كَارو على طريق حلب الرقة والتي حكاها ليلة الأحد حين كان يطبعُ قبلتهُ الأخيرة على شفتيها وهي تذوب في أحضانهِ كقطعة
الجليد في كأسه البيضاء والتي يتبعها ببحّةٍ ممزوجةٍ مع سعالٍ جاثمٍ على صدره منذ أوّل النهار…!
تهرُّ السيارة صاعدةً القلّة أمام كراج الحاج دعيس لتتوقّفَ، وينزل الركّاب، بينما يقف برهوش أمام ” طبّون ” السيارة آخذاً صرّتهُ الوحيدة التي لم يفتحها بعد كأنّها قلبه الآخر الخافق في الصدر…!
يمشي مشرِّقاً في شارع القوتلي فاتحاً أبواب حزنه متلمّساً الصرّة، ومتجاوزاً مدرسة الرشيد الابتدائيّة التي درس خليل على مقاعدها. إحساسٌ غريبٌ تملّكهُ ولا يلبث أن يقفَ نهاية سوق القبو ليجلسَ على الرصيف، والشمسُ تميلُ إلى غروبها البهي مكلِّماً نفسهُ: لقد وصلتُ الرقةَ، وأمانة رفاق خليل قد تمّتْ…
يحاولُ أن يفتحَ الصرّةَ والدموع تنهمر من عينيه لابل الخوف مما هو متوقّع…؟
لباس خليل، وهويته الشخصيّة، وعلبة صغيرة فيها خاتم كان قد أوصى به خليل أن تضعه خطيبته ” خود ” في خنصرها كي تظلَّ روحه ترفرف في خيالها وهو الخاتم الذي اشتراه من بيروت، وخرزة زرقاء مغروزة على “حجاب ” مثلثي الشكل كانت قد أوصت به أم خليل أن يلازم ابنها ليله ونهاره، ورسالة فتحها وهو يشعل لفافة تبغٍ، وراح يتذكّر كيف محا أميّته عند الشيخ عبّاس في الجامع الكبير…
وبدأ يقرأ :
/ أمّي الحبيبة…والدي الحبيب..
أتمنى أن تكونوا بخير…كما أتمنى أن يكون خالي” هوّاش “قد تماثل للشفاء من مرضهِ وقد خرجَ ابنه من الحبس ليكمل ما تبقّى له من دراسته الجامعيّة. كيف حال الجيران…؟ أتمنى أن يكونوا بخير كذلك…ماهي أخبارموسم قطاف القطن …؟ وكيف أصبحت الدالية …؟ هل تعافت شجرة الرمّان من مرض ” المنّ “؟ هل أثمرت شجرة التوت كثيراً هذا الصيف؟ وكيف كان مذاقه؟
هل ” صبّيتم سكيّة الحوش” ؟وهل غطّاها ظل شجرة التين؟
لقد حزنتُ كثيراً لموت ” أبو البيب ” وبغله إنّهُ جار الرضا، ماحال لمبته الدمشقيّة، وشجرة الكينا التي يملأ ظلها “حوشه ” الواسع…؟ هل بكى بابه الخشبي بمساميره الصدئة وأقفل على تاريخٍ جميلٍ حافلٍ بذكريات حرب الـ 48؟
ما هي أخبار الخطيبة ” خود “…؟ لقد أرسلت لها هديّة وإن شاء الله تعجبها…
كيف حال ” سيباط القبيات ” على ضفة النهر…؟ ألا يزال خياله يتراقص على خدِّ النهرِ كأقمار اللهِ في ليلة السَحَر؟ أما زلتم تبنونهُ من عَمَدِ التوتِ الحنون وتغطّونهُ من سعف النخلِ والسوسِ؟ سلامي للنهر وما كتب…
أكتبُ لكما هذه الرسالة قبيل تنفيذي العملية الاستشهاديّة في الجليل، وكم حكيت لكما عن فلسطين يا والديَّ…؟ ففيها سهول خضراء تشبه ” طوال العبا ” التي كنتما تحكيا لي عنها قبل النوم، وتوعداني برحلةٍ إليها في الربيع حينما كنت صغيراًـ كما أنّها تشبه سهول حوران التي حكى عنها ” أبو البيب ” أخو هلالة…! إنّهُ الأخضرُ الجميلُ يا والدَيَّ الذي طالما بحثتُ عنه في أحلامي.
قبلاتي لها …للرقة الوضّاحة، وليديكما.
ابنكم خليل /
تعالى نشيج بكائهِ ولفَّ الصرّة، ومسحَ دموعه، ورمى بلفافة التبغ متلمّساً عقاله وهو منتصب القامةِ ينظر إلى الجنوب… النهرُ الذي لاح له من بعيدٍ وأشجار الغَرَب التي لوّحتْ تلويحتها الأخيرة كأنّها تودّعُ ولفها الداشر في الجليل الأعلى على سهول فلسطين، ثمَّ يتّجه بثباتٍ نحو البيت الجميل بداليتهِ الوارفة الظل وحنين شجرة التوت إليهِ، وذاك الدنّ الواقف والصامت، والغروب أوشكَ أن يحلَّ..
يكلّمُ نفسه: كانتْ تسمعُ خفقان قلبهِ حين تضعُ ورقةَ الغَرَبِ على بطن أمّهِ …ليتها عاشت لمثل هذا الوقت ! ويغذُّ خطواتهِ وهو يترحّمُ على الدايةِ أمّ حسن مسرعاً ومتجاوزاً سينما غرناطة حين لاحت له اللمبة الخضراء من مئذنة الجامع الكبير حيث تعالى صوت أبي عبدو الضرير في سموات الرقة الوضّاحة مؤذِّناً المغرب وكأنّهُ يقدِّمُ العزاءَ لروحِ خليل التي رفرفت فوق تلال وسهول فلسطين ..كان آذاناً حزيناً شجيّاً يحزُّ بقلب أبي خليل من سكين الأبوّةِ والوداد، بينما تماهى خيالهُ مع حيطانِ الرقةِ الفخّاريّة سرّاً من أسرار ذاك المساء الحزين وهو يقتربُ فاتحاً أحلامهُ المنهوبة إلى دهشةٍ لن تنتهي…!
يحدثُ هذا في سبعينات القرن الماضي حين دقَّ سقّاطةَ باب بيتهِ لتردَّ عليهِ أم خليل : – منو..؟
– آني أبو خليل ،”وَلِي ” افتحي…افتحي ويجهشُ في بكاءٍ راح يتعالى في سماء الحوش مع هديل الحمام الحزين آخذاً ما تبقّى من زقزقات عصافير الدالية التي أوشكتْ أنْ تنامَ في أعشاشها إلى سمواتٍ بعيدةٍ، بينما هجَّ في السماء آخرُ رفٍّ من الحمام منهياً شوطهُ الأخير في الحبِّ مصفّقاً بجناحيهِ حول شجرة الكينا التي نهضت باسقةً من جديد وهي تتوسّط حوش ” أبو البيب ” كأنّهُ ينتظرُ وصيّةَ خليل ليدفنها في أعشاشٍ هاجرتْ في الذاكرة..!
هامش: شرح معنى بعض الكلمات العاميّة التي وردت في النص برهوش: اسم علم ابراهيم ويقال للدلال. |
دمشق – غادرتني المربعانيّة إلى ربيعها الأخضر، وظلّتْ صورة ” الدوزوتّو” الحمراء المجنّحة تأخذُ بخيالي إليها، وإلى أجراس القطن البيضاء وأنا على الدرب الطويل في ترحاليَ المتعبِ..!- 2016… يوسف. |
سرد وصفي رائع أعادني إلى ذكريات الطفوله بتفاصيلها ومناطقها وحاراتها ومدرستي الرشيد والأمين ، تلك الفتره التي عشتها في الرقه بين عامي 1960 إلى أوائل عام 1967 :كانت مليئة بالذكريات والتفاصيل الجميله والبسيطه كماهي ذكريات أبو كارو وبرهوش .
أبدع الدكتور يوسف بكل تفصيل وبوح على لسان شخصياته . شكرا.