مسار جلجامش

الدولة المستحيلة!!

معوّقات نشوء الدولة الحديثة في لبنان

-1-

عندما أقرت الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية المشروع باجماع أعضائها، واقترحته على رئيس مجلس الوزراء في 31 أيار 2006، ما كان يدري أحد من المتابعين أن النظر ممكن أن يصرف عنه في اللحظات الأخيرة ليتم استبداله في مجلس النواب بقانون يعود إلى نصف قرن، بعد تخلي اتفاق الطائف عنه واعتماد المحافظة في طريقة الانتخاب، نظرياً؛ ومن ثم خليط من القضاء كدائرة انتخابية واحدة، أو نصفي قضاء في دائرتين مغايرتين، محافظة، أو محافظتين في دائرة واحدة، حسب الأوزان والمقاييس، عملياً. ذلك أن أعضاء الهيئة أنفسهم ما كان يدور في أذهانهم أن أتعابهم ستذهب سدى، علماً أن إجماعهم دليل على إمكانية اتفاق مَن يمثلون على شأن سياسي هام كقانون الانتخاب لأن تشكيلتهم تختصر الأطياف السياسية اللبنانية كافة، بقواها وأحزابها وزعمائها.

لم يصدَّق المشروع الذي كان حصيلة قراءة ومناقشة 122 مشروعاً واقتراحاً قدمتها الفئات السياسية اللبنانية، على اختلاف توجهاتها، تبدأ باقتراح اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النسبية، وتنتهي باقتراح العودة إلى دائرة القضاء، على الأساس الأكثري. إلا أن ما يلتقي عليه الجميع، عدا الأقلية النادرة ذات التوجه العلماني، هو اعتماد التوزيع الطائفي الذي أعلن عنه الدستور، ومن ثم اتفاق الطائف.

ومع ذلك تَم تجاوز كل انجازات الهيئة، عدا بعض الاجراءات المتعلقة بفترة ما قبل الانتخابات وما بعدها، والعودة إلى القضاء، كدائرة انتخابية تنتج ممثلي الشعب اللبناني في الندوة البرلمانية.

هنا علينا أن نتساءل:

ماذا تعني لنا النتيجة التي آلت إليها الأمور في ما يتعلق بقانون الانتخابات النيابية اللبنانية؟

ألا تعني، من جملة ما تعنيه، أن القوى السياسية في مجلس النواب تتصرف بما يتوافق مع توجهاتهم في النظر إلى لبنان المجتمع والدولة، وعلى غير ما توصل إليه ممثلوهم، إن كان على صعيد اعتماد النسبية بنسبة 40%، أو على صعيد اعتماد دائرة القضاء أو المحافظة، حسب النظامين الأكثري والنسبي للمقترع الواحد. علماً أن المشروع نفسَه يلحظ التوزيع النصفي الديني، ومن ثم النسبي بين الطوائف والمذاهب والمناطق، كما نص عليه الدستور؟

ألا يعني هذا السلوك العملَ على إبقاء الدولة والمجتمع أسيرَي التوجه الطائفي، والتقسيمات التي ترعى هذا التوجه، في حالتهما البدائية، خوفاً من، أو تجنباً لـ، أية خطوة تغييرية، مهما ضؤل حجمها؟ ألا يعني هذا السلوك، أن الجميع، حتى الذين لم يتوجهوا هذه الوجهة في نظرتهم إلى لبنان واللبنانيين، كانوا، وما زالوا في خدمة القوانين والأعراف والتقاليد التي تعمل وبشكل دائم، ومهما طرأ من تعديلات، على انتاج، وإعادة إنتاج، السلوك الطائفي، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل أيضاً، على المستويات كافة، التي يسلكها المواطن اللبناني في ممارساته العملية لحياته اليومية؟

ألا يعني ذلك أن الدولة اللبنانية، ومجلس النواب المرتكز الأساسي لهذه الدولة، تبقى، وبوعي منه وفعل، في حكم الدولة المؤجلة؟ ألا يعني ذلك أن تأجيل قيام الدولة الحديثة بحد ذاتها (من حيث هي، على المستوى السياسي، ذات مؤسسات مستقرة تضمن الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان واحترام الأقليات وحمايتها)، أو أحد الارهاصات المبشرة بها، هو شأن واع ومدرَك من شؤون وإدراكات مجلس النواب؟ وإذا كانت الدولة مؤجَّلة، فبحكم القوانين الضابطة لشؤونها، إما بالعودة إلى قانون 1960 على مستوى الانتخابات النيابية، أو بتكريس، وإعادة تكريس، الشأن الطائفي في شتى أمور حياتنا، وبمنطق المحافظة على هذا المصدر الأساسي الذي جعل من جميع ممثلي الشعب نواباً بالقيد الطائفي؛ وهو المنطق المنبني على نظام سياسي ــ اجتماعي يرسخه ويكرّسه، ويعمل على تأبيده.

وباعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، لا أمل، بتقديري، في تغييرات تصدر بموجب قوانين من مجلس النواب. كما لا أمل، بتقديري أيضاً، في ثورة تقلب الأوضاع وتأتي بنظام سياسي اجتماعي بديل يعمل على إيجاد دولة حديثة في لبنان.

إذن، ما العمل؟

هذه الورقة تحاول أن تبين العلاقة بين المجتمع والدولة من ناحية إظهار معوقات نشوء الدولة الحديثة في مجتمع غير مهيأ لقيامه بهذا الدور، نظراً للعلاقة المفصلية بين الدولة والمجتمع، من جهة؛ وللمسؤولية الملقاة على عاتق كل من الدولة والمجتمع ليبدأ التحول من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني، إن كان على صعيد علاقة المجتمع مع ذاته، أو مع الدولة؛ وليبدأ التحول من الدولة المؤجلة إلى الدولة الحديثة، إن كان في علاقاتها مع عناصرها الأساسية: حكم/ معارضة، ومؤسسات، أو كان في علاقتها المفصلية مع المجتمع، من جهة ثانية. كما تحاول أن تبين خطورة ما آلت، وما تؤول، إليه الأمور كافة المبنية على الأساس الطائفي، مع تقديم بعض المقترحات التي يمكن أن تسهم في تحويل الدولة من حكم المؤجلة إلى دولة على طريق الدولة الحديثة.

-2-

البحث في إشكالية المجتمع الأهلي وعلاقته بالمجتمع المدني، والعوامل المؤثرة في تحول المجتمع الأهلي إلى مجتمع مدني، يتطلب منا، أولاً، البحث في مسألة الانتماء، والعناصر الاساسية التي يتشكل منها الانتماء على المستوى الشخصي وعلى المستوى الاجتماعي.

من المسائل البديهية التي لا نقاش حولها، اليوم، كما في أي يوم مضى، القول إن الانسان اجتماعي بطبعه وبطبيعته كإنسان. واجتماعية الانسان هذه لم تنشأ لفضائل أخلاقية يتميز بها أعدته للوجهة التي اتجه نحوها، أو لأسباب إنسانية بذاتها جعلته يتجمهر ويتجمّع مع بني جنسه، فهذه المسائل انوجدت عند غيره من الكائنات الحية التي انطبعت على التجمع والتجمهر، كما الانسان.

اجتماعية الانسان تأتّت من حاجته إلى بني جنسه وحاجتهم إليه للاستمرار في الحياة الانسانية واستكمالها بالتعاون والحماية والتنظيم؛ إجتماعياً، بما يكفل تأمين التفاعلات الاجتماعية بمختلف أشكالها؛ أو سياسياً، بإيجاد المؤسسات الكفيلة بإنتاج المجتمع السياسي، إبتداء من الشخص الذي يختصر السلطة السياسية غير القسرية، أو السؤدد، حسب تعبير ابن خلدون، أو القسرية بما تمارسه من أساليب السلطة التي احتكرت استعمال العنف وحصرته بمؤسساتها الشرعية بما يكفل الطاعة من المحكوم تجاه الحاكم.

 إزاء هذه العلاقة الاجتماعية والسياسية، لا يمكن النظر إلى مسألة الانتماء، كشعور وممارسة، إلا من خلال الاحساس الطبيعي بالانتماء إلى الجماعة الأولية، التي يولد فيها الانسان، ابتداء من الأسرة، مروراً بالأقربين، وصولاً إلى الجماعة التي تشاركه إيمانه الديني، وانتهاء بمنطقة وجوده التي تضفي على هذا الانتماء معناه الأهلي بروابطه الأولية التي لاعلاقة له بها إلا من خلال كونها الروابط المتواترة والطبيعية التي تعطيه معنى لانتمائه هذا، ووعياً لهذا الانتماء الذي لا يخرج عن كونه انتماء أهلياً إلا بقدر ما يمكن أن تضيفه مؤسسات المجتمع الأهلي نفسِه التي لا تبتعد كثيراً عن العناصر الأولية في العلاقات الاجتماعية الطبيعية.

 هنا يأخذنا الكلام للبحث في مقومات المجتمع الأهلي وخصائصه، وفي مقومات المجتمع المدني وخصائصه، ربما بهذا التمييز، ومن ثم المقارنة، ندرك الفرق بين كون المجتمع أهلياً أو مدنياً.

-3-

المجتمع الأهلي محكوم بروابط ومحدّدات أولية تحيل الانسان فيه إلى انتماءاته الأولية التي لا إرادة له فيها، وتجعله يعمل في الوقت نفسه، على ترسيخها وتقويتها بما يتعرض له من عمليات تنشئة اجتماعية متولدة من عمل مؤسسات أهلية، أو حكومية، تعيد انتاج عناصر انتماءاته،  وترتّب أولوياتها بما يخدم توجهات هذه المؤسسات، إن كانت مجسدة لمتحدات اجتماعية تتميز باختلافاتها الدينية، المذهبية، أو الاتنية ؛ أو معبّرةً عن توجّه أجهزة الحكم في الحفاظ على ما هو قائم، وترسيخه بتعميق جذور إيديولوجيتها المبنية على الوفاق والتوافق المنتجين بطبيعتهما للانقسام ومن ثم للتسوية.

المجتمع الأهلي له مقوّماته وخصائصه ومكوّنات وجوده وآليات الدفاع عن هذا الوجود. تتناسق جميعاً وتتكامل للمحافظة على وجوده وللدفاع عن كل ما يعيق تدبّر أموره. ويعمل على إقصاء ما يعطّل توجهه، ويستعمل في عملية الاقصاء هذه شتى أنواع العنف وصولاً إلى القتل الرمزي بهدر الدم.

المجتمع الأهلي لم يعد قائماً بخصائصه الناصعة، ومقوّمات وجوده المعزولة عن منطق العصر وموجبات العصرنة. فقد انضاف إلى هذه الخصائص وإلى هذه المقومات عناصر حديثة ومقومات عصرية اتكأت في مسببات وجودها على مؤثرات الحداثة المنتَجة في الغرب، وعلى تداعيات الثورة الصناعية التي أصابتنا بانتاجها، فكنا لها مستهلكين، وبأفكارها، فكنا بها متأثرين لدرجة تطبيقها ببناء صروحها المادية على أسس محفورة في الذاكرة عندنا وفي التاريخ. فكان الأساس لغير بناء، وكان البناء لغير أساس، فوقعنا بما وقعنا فيه من التخبط والبلبلة.

المجتمع الأهلي، بذلك، لم يعد مجتمعاً أهلياً، لأن مقوماته لم تعد قادرة على الثبات في وجه رياح التغيير، ولا على تلبية متطلبات الحياة الحديثة، ولم يتحول في الوقت نفسه إلى مجتمع مدني بخصائصه ومتطلباته وعناصر وجوده.

-4-

خسر المجتمع الأهلي نفسه ، ولم يحظَ بانتمائه المدني، ذلك ان المجتمع المدني، كمفهوم، ينهض على عناصر أساسية؛ أولها، الشعور والوعي بالانتماء الى المجتمع والدولة بوصفهما دائماً في طور التشكل من الوجهة المعيارية؛ وثانيها، المراقبة والمساءلة بما تتيحه الديموقراطية كنظام حكم ومنهج سلوك لإبقاء الممارسة العملية في ما هو متشكل فعلاً وواقعاً على طريق التوجه المعياري، وفي ما يمكن أن يكون، والعمل بموجب هذا التوجه في الممارسة العملية الفردية بما يعني الحقوق والواجبات والعمل بموجبهما حسب ما تقتضيه المواطنية ويفرضه الحس المدني في العلاقة مع الذات ومع الآخر.

بهذا المعنى، المجتمع الأهلي طبيعي باعتباره حصيلة الانتماءات الأولية للانسان، والمجتمع المدني مصنوع باعتباره حصيلة ما يقوم به الانسان نفسه، بالوعي والادراك والتنظيم الاجتماعي باعتبارها، جميعاً، عوامل أساسية في تحول المجتمع من طبيعته الأهلية إلى حالته المدنية. وأولى هذه التحولات نقل مسألة الانتماء من حالته القرابية والعصبية القائمة على هذا الانتماء الطبيعي إن كان على مستوى الاسرة أو العائلة، وهو الانتماء المخفَّف والبديل عن العشيرة والقبيلة ـ المرتكز الأساسي للانتماء العربي، أو على مستوى الانتماء الديني ومتفرعاته المذهبية والطائفية ـ المرتكز الرديف للانتماء ذاته؛ إلى حالته المدنية القائمة على الانتماء المشترك للناس جميعاً على اختلاف انتماءاتهم الفرعية. انتماء المواطنية الذي يتصدر الانتماءات جميعاً دون ان يلغيها. من هنا القول أن هذا الانتماء صناعة تنهض على التنشئة الاجتماعية والتربية المدنية بالقول والممارسة لإعادة ترتيب الأولويات ولجعل الانتماء الوطني والقومي الموجِّه لهذه الانتماءات والعامل على احتوائها.

وإذا كان المجتمع المدني صناعة، فمن هو الصانع؟

في كل الظروف والأحوال لا بديل عن الدولة. فهي صانعة المجتمع المدني بامتياز كدولة منوط بها تنظيم أحوال المجتمع في شتى المجالات. إلا أنها بسلطتها القائمة على احتكار العنف، من جهة؛ وعملها على استمرار ما هو قائم، من جهة ثانية؛ تصوغ المجتمع على صورتها ومثالها. ولا يتغير ما هو قائم إلا من ضمن آليات اشتغال الدولة ذاتها باعتبارها في طور التشكل بما يمكن أن تكون. وبإبداعها للمؤسسات المانعة للطغيان، والكابحة للإيديولوجيا الفردانية المطلقة، أوجدت ما يمكن أن يسمى بتداول السلطة بلحظها إمكانيات المعارضة والمساءلة والمراقبة والانتخاب من ضمن منطق الدولة نفسها، أو بما يمكن أن تساهم به المؤسسات المدنية في المجتمع الأهلي، وبما لديها من امكانيات، لنقله إلى حالته المدنية.

في المجتمع الذي لا يزال في مرحلته الانتقالية من مجتمع أهلي إلى مجتمع مدني تتداول النشاطَ فيه مؤسساتٌ رسمية ومدنية وأهلية تعمل إما على إبقاء المجتمع في حالته التي تتناسب مع توجه الدولة وإيديولوجيتها، فتعمل المؤسسات الرسمية، تربوية كانت، أو سياسية، اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، على ترسيخ هذا التوجه؛ أو على استكمال نقل المجتمع من حالته الأهلية إلى حالته المدنية بالعمل على نقل الفرد من تبعيته لروابطه الأهلية إلى الانخراط، بالارادة والوعي، في روابط مجتمعية مدنية من خلال العمل على إنشاء الوعي بالذات، ووعي الانخراط في مجموع تتأمن فيه مصلحته، ويحس فيه بحرارة الانتماء المتولدة من الاحساس بالارادة الواحدة والمصير المشترك الواحد المتناسبين بدورهما مع توسيع مساحة المصلحة العامة. وهذه جميعاً لا يمكن انتاجها إلا من قبل المؤسسات المدنية في المجتمع مهما كانت هويته: أهلية أو مدنية أو في مرحلة انتقالية بين هذه وتلك.

أما مؤسسات المجتمع الأهلي، فهي تعمل، وبأكثر الوسائل تحديثاً، على ترسيخ روابط المجتمع الأهلي بانتماءاته الأولية القائمة على العصبية القرابية مهما كانت تفريعاتها، والانطلاق منها كأولوية انتماء إلى بناء علاقاتها مع الخارج، إن كان هذا الخارج على حدود الولاءات الفردية التي تتحكم فيها اعتبارات القرابة والمكان، أو على حدود الطائفة التي تتحكم فيها اعتبارات الولاء الطائفي تجاه بقية الطوائف، أو على حدود الدين التي تتحكم فيها اعتبارات الولاء للدين الواحد تجاه بقية الأديان.

في هذا المناخ العام تقوم مؤسسات المجتمع بنشاطاتها على الصعد كافة. فكيف يمكن، والحال هذه، الافادة من هذه النشاطات في ترسيخ عناصر المجتمع المدني، إن كان على مستوى الممارسة اليومية بما تتيحه الديمقراطية في النظر إلى الذات وإلى الآخر، وفي قبول حق الاختلاف تحت سلطة القانون وحكم المؤسسات ومنطق المساواة كما تقررها العدالة الاجتماعية، أو كان على مستوى صوغ ما يمكن أن يحوّل الفرد إلى مواطن يدرك تماماً ما تعنيه المواطنية، وما يفرضه الحس المدني في الوعي والممارسة.

هنا تظهر الحاجة ماسةً إلى المؤسسات التي تعمل على ما يمكن أن يقوّي عناصر المجتمع المدني. ومن هذه المؤسسات: الأحزاب والنقابات والمنظمات الثقافية والروابط والاتحادات المدنية التي تأخذ من الانسان وحدة اهتمامها مهما كان توجهه، وتنصرف إليه من أجل تعزيز موقعه كصاحب مصلحة في التغيير إلى ما هو أفضل لمصلحته ولمستقبله، باعتباره مواطناً في النظر إلى ذاته، وفي نظر الآخرين إليه، وفي نظرته إلى الآخرين دون مفاضلة لأحد على آخر إلا بما يتيحه موقعه ودوره في المجتمع، وبموجب هذه الاعتبارات بالذات.

-5-

إذا كان هذا ما على المؤسسات أن تقوم به من أجل العمل لنقل المجتمع من حالته الأهلية إلى حالته المدنية، فما هو واقع الحال في لبنان المجتمع والدولة؟

في لبنان، تعمل المؤسسات، أحزاباً كانت أو نقابات أو روابط واتحادات بما يوحي به النظام السياسي ـــ الاجتماعي في لبنان أو يدعو إليه، من جهة؛ أو بما تنفرد هي به في علاقتها معه، إن كانت علاقة مواجهة، أو مهادنة بانتظار الفرصة المناسبة، من جهة أخرى. والفرصة هذه لا تتعدى الاشتراك في لعبة الحكم، أو المناورة على أمل الدخول فيها، إن كان على مستوى الأحزاب من داخل منطق اللعبة السياسية التقليدية اللبنانية؛ أو من خارج منطقها الطائفي. فيختلط هنا المنطق اللاطائفي بالمنطق الطائفي، ويقدم التوجه المغاير دعماً جديداً للنظام الطائفي، القادر بذاته، على إعادة انتاج منطقه السياسي الاجتماعي بمعزل عن منطق التغييريين واللاطائفيين والعلمانيين، فكيف بمشاركتهم؟

هذا طبعاً على المستوى السياسي، أما على المستويات الأخرى، من اجتماعية وثقافية ومعرفية في شكل عام، فإن طغيان الشأن السياسي، وخصوصاً ما يتعلق منه بشؤون الحكم وتقاسم النفوذ والسلطة، قد قضى على أي إمكانية للتغيير في عناصر هذه المستويات أو في ترتيب أولوياتها. وجاءت الأولوية السياسية والطغيان السياسي متمفصلين على انتماءات أهلية أقل ما يقال فيها إنها طائفية ودينية، فكيف، والحال هذه، يمكن أن تكون قابلة للتغيير؟

لروابط والجمعيات والنقابات والاتحادات المدنية تعمل على موجات أخرى في لبنان، ولكنها تصبّ أخيراً في مصلحة إيديولوجيا النظام، وتعمل على تجديد الدم في شرايينه، إن كان بالنسبة لاقتسام المناصب أو توزيع المهام على الأساس الطائفي، في شكل ظاهر أو مضمر؛ أو كان على مستوى المداورة في الترشح والانتخاب للنقابات ذات الرفعة، أو ما دون ذلك. ونبقى في إطار إعادة انتاج المجتمع الأهلي بأدوات ووسائل مدنية.

-6-

 في هذه الحالات جميعاً، كيف يمكن أن تتلاءم عناصر الدولة الحديثة مع واقع الحال؟ وهو الواقع الذي لا يزال خاضعاً بكليته للمنطق الأهلي وللزعامات التقليدية التي ينتجها المنطق الأهلي؟

هذا المنطق بطبيعته، منطق ذاتي لأنه مبني على المنطق الطائفي الذي يمثل التجليات العملية لذهنية ذاتية تجد أساسها في الانتماء الديني أولاً، والمذهبي الطائفي ثانياً. ولأن الانتماء الديني، وبالتالي الطائفي، انتماء طبيعي، كما اجتماعية الانسان، وكما جنسه وانتماؤه العائلي أيضاً، فإن تجليات هذه الانتماءات جميعاً لا يمكن إلا أن تكون ذاتية، وإن أرادت الموضوعية في مواقعها ومواقفها، وفي آرائها وسلوكها في شتى مناحي الحياة، وليس المنحى السياسي فحسب.

وعليه، فإن النهج الموضوعي الذي يتّخذ من الواقع أدوات تحليله، من أجل فهم هذا الواقع بآليّات حركته، وديناميّة متغيّراته، ليس من تجليات الطائفية والفكر الطائفي. طبعاً، هذا لا يعني أن الطائفية والفكر الطائفي لا يقيمان وزناً للموضوعية في النظر إلى الأمور والأشياء، وإلى السياسة منها، بوجه خاص؛ بل لأن الطائفية والفكر الطائفي، بحكم موقعهما من الموضوعية والوعي الموضوعي، لا تعني الموضوعية لهما شيئاً إلا بقدر خدمتها للذاتية وللمنطق الذاتي.

إذا كان المنطق الطائفي ذاتياً، وهو كذلك، بحكم تأسيسه على الانتماء الطبيعي للانسان باجتماعيته الأهلية التي لا ترى وعياً خارج قرابة الأهل وانتمائهم الطبيعي إلى العائلة والعشيرة، ومن ثم الطائفة والدين، فإن المنطق الموضوعي لا يمكن أن يتأسس إلا على الانتماء المدني المصنوع. و”الصناعة” هذه، إنتاج واعٍ ومدرك لما يجب أن يكون عليه المنتمي إلى الطائفة والمذهب والعائلة والعشيرة. صناعة تحويل المنتمي بالفطرة والولادة إلى منتمٍ من نوع جديد لا تنتجه أنماط التربية الأهلية. هو المواطن المدرك لحقوقه والواعي لواجباته، والعالم لما يصيبه في حال التلكؤ والمخالفة. ولا يخفى أن هذه العناصر تشكل النواة في الحس المدني والشعور بالمواطنية.

وإذا فشل النظام السياسي اللبناني في الملاءمة بين مقومات الدولة الحديثة وبين ذهنيات ومسالك مجتمعنا الأهلي، فكيف يمكن، والحال هذه، المطالبة بإلغاء الطائفية، والطائفية السياسية على الخصوص؟ وكيف يمكن المطالبة بإلغاء تجليات السياسة في الطائفية، والابقاء على ما عدا ذلك من تجليات؟ وإذا ألغيت طائفية السياسة، هل تلغى طائفية التوجه السياسي لدى أصحاب الحل والعَقد، ولدى “المواطن” العادي؟

أين موقع رجال الدين والقيّمين على الشؤون الدينية في حال إلغاء طائفية السياسة؟ ألا يحق لهم، من بعد، التعاطي في أمورها؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فبأي صفة يتعاطونها، هل بصفتهم أناساً عاديين، أم بصفتهم رجال دين؟ وكيف يمكن الفصل بين الانسان بصفته الوظيفية وصفته الإنسانية و”المواطنية”؟ وفي هذه الحالة، كيف يمكن الفصل بين الذاتية والموضوعية؟

وإذا كان الجواب بالنفي، ما هي الآلية التي تمنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة؟ وماذا عن التدخل في الشؤون الأخرى؟

والانسان العادي، كيف يمكن أن يتخلص من طائفية السياسة، ويُبقي على طائفية التوجّه والسلوك والانتماء، والنظرة إلى الآخر في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن أن يكون موضوعياً في مجال “السياسي” وفي الشأن السياسي، ويبقى ذاتياً في شتى أمور الحياة الأخرى؟

هل تعني هذه الجملة من التساؤلات أن نصرف النظر عن إلغاء الطائفية السياسية من باب ” إما كل شيء أو لا شيء” ؟ أو بالقول الذي أصبح مأثوراً “إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص” لنبقى كما نحن عليه؟ أو أن نطالب بإلغاء الطائفية، ونحن في الوقت نفسه، لا نفعل شيئاً، لا من حيث تعديل النصوص، ولا من حيث تطوير النفوس، لنصبح أكثر تقبّلاً لروح الديموقراطية، ولمفهوم المواطنية، وأكثر استعداداً لتنمية الحس المدني على حساب الحس الطائفي. ولا ننسَ أن رياض الصلح قال، ولا نزال في إطار الأقوال، أن إلغاء الطائفية سيكون ساعة مباركة في تاريخ لبنان، ولم يقصد، فقط، الطائفية السياسية. والأمرّ من ذلك، أننا لم نبقَ في إطار الأقوال، بل أصابتنا الردّة إلى ما هو أدهى؛ تراجعنا إلى موقع المقاومة لكل قرار، أو تشريع، يمكن أن يساهم في كسر حدّة الطائفية متسلحين بذرائع شتى متناسبة مع تفسير وتحليل الأسباب المضمرة خلف هذه القرارات أو التشريعات. حتى على مستوى اتفاق الطائف، لم يظهر منه حتى الآن، ولا مما أتى بعده، ما يمكن أن يخفّف من حدّة التوجه الطائفي، بل نَجزم أن العكس هو الصحيح.

إمكانيات الحل، بتقديري، متوفرة في ما يمكن أن تقوم به القوى الضاغطة في المجتمع، من مؤسسات مدنية، ونقابات، وهيئات اجتماعية وثقافية، وأحزاب سياسية، من موقع مغاير لكل تجاربها السابقة في ممارساتها العملية من ضمن منطق المجتمع الأهلي وتوجهاته. وهذا يعني أن على هذه القوى أن تعمل على جبهتين: الجبهة الممتدة داخل هذه الهيئات من أجل استصدار القوانين المنظمة لنشاطاتها، والمانعة في شكل عام وحازم لأي توجه طائفي مهما كان شأنه، من أجل تنمية التوجه المواطني السليم بحس مدني واع ومدرك، مهما كانت التضحيات والأثمان المدفوعة؛ والجبهة الممتدة خارج كل من هذه الهيئات، من أجل التعاون والتنسيق والتعامل فيما بينها، كمؤسسات، من جهة؛ ومع الدولة، من جهة ثانية، عن طريق الضغط، وبكل الوسائل الديموقراطية المتاحة لاستصدار القوانين التي يمكن أن تدفع في هذا الاتجاه. ويترافق ذلك مع المطالبة الدائمة والمستمرة، والنضال، لصوغ النظام التربوي والتعليمي والسياسي التدريجي – ولكن بخطى ثابتة وواثقة – من أجل إقامة دولة القانون والمؤسسات التي تسودها الحرية والعدالة والمساواة، كما تقتضيها الديموقراطية خارج إطار المنطق الطائفي.

في ما يخص قانون الانتخاب، وهو بداية ما طرحناه في هذه الورقة، وفي محاولة لفتح نافذة ولو صغيرة في هذا الجدار الطائفي المنيع، ماذا لو تم انتخاب 10% من مرشحي العدد النسبي في القانون المقترح على مستوى لبنان، كدائرة انتخابية واحدة، خارج القيد الطائفي، في دورة أولى؛ مع بقية العدد النسبي على أساس المحافظات؟ ومن ثم يتم إصلاح خلل التوازن في دورة ثانية، على أساس القضاء والتوازن الطائفي؟ وفي أربع سنوات تزيد النسبة خارج القيد الطائفي إلى 20%… وهكذا، بعد عقدين من السنين يصير لدى مجلس النواب نصف أعضائه منتخبين على أساس نسبي غير طائفي. وهؤلاء، بحكم انتخابهم اللاطائفي، سيمارسون دورهم باعتبارهم لا طائفيين. وسيكون خطابهم السياسي وتوجههم التشريعي مبنياً خارج القيد الطائفي. ومن الطبيعي أن يكونوا متضامنين، باعتبارهم اللاطائفي هذا، ويشكلوا محوراً للاستقطاب، بقوّتهم المبنية على هذا الاعتبار. ومن خلال التجربة والممارسة، تظهر فائدة التوجه اللاطائفي في الدولة وفي المجتمع، أو لا فائدتُه. وعلى أساس النتائج ينبني ما يمكن أن يكون.

-7-

 لا بد من التأكيد، أخيراً، على أن الطائفية والنظام الطائفي قاما بدور المعرقل للتوجه الديموقراطي في لبنان، والمانع لبلورته كحس سليم ومنهج حياة في المجتمع اللبناني. والطائفية، بهذه الوظيفة، لم تبقَ ظاهرة اجتماعية سياسية، بل تعدّت ذلك، بالاهمال والمراوغة، بالمماطلة والتمويه، إلى حالة مَرَضية عمّت مختلف مظاهر الحياة في لبنان، وكادت أن تصل إلى أبعد الناس عن مخاطرها. وبحكم منطق توجّهها وسيطرتها، أدخلت الجميع في شراك لعبتها السياسية، أولاً؛ ولا تزال تعمل على إدخال الجميع في توجهها الشمولي، ثانياً. والحالة المَرَضية هذه، أقرب ما تكون من الانفصام. وتتوغّل إلى ما يشبه الإدمان. نعرف مخاطرها وندرك ضررها، ونمارسها في حياتنا العملية، بعد أن استولت على بنيتنا الذهنية، في شكل مضمر حيناً، ومعلن أحياناً أخرى. ويجدد الحياة في شرايينها من يحسّ خفوتاً في نبضها، لأن في استمرارها استمرارَه، وفي حياتها حياتَه.

البحث في إمكانية إيجاد النظام اللاطائفي، أو إذا شئت، النظام العلماني (الدنيوي) في لبنان، لا بدّ أن تسبقه الممارسة اللاطائفية. وهذا يقتضي أولاً، وبطريقة بعيدة عن الخلفيات الايديولوجية الجاهزة، البحث في ظاهرة الطائفية، وفي مضارها العملية، وفي ما تفعله في لبنان، المجتمع والدولة، لنتأكد من بعد، إذا كنا بحاجة فعلاً إلى ترسيخ الطائفية، أو إلى إلغائها.

أنا على يقين أن لا دولة حديثة وديموقراطية في ظل الطائفية.

د. عاطف عطية

مفكّر وأستاذ جامعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق