مقدمة: بدأت الدكتورة صفيّة مقالتها (القومية: اتنيّة…أم مواطنيّة؟) بفكرة تمهيدية تشير فيها إلى أنّه في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، وبسبب انتشار الفكر اليساري في عالمنا العربي، تم النظر للفكر القومي أو للنظرية القومية بالعموم على أنها نازيّةٌ أو فاشيّة، دون الإطلاع الكافي على المضمون الخاص لفكرة كل باحث أو مفكر قومي، ومنهم سعادة.
وتشير مُحقّة في بداية مقالها إلى أن سعادة كان رجلَ علم وحقائق علمية، وأنّه يجب تصويب كل نتيجة أو خلاصة فكرية نكتشف أنها تتعارض مع الواقع أو المكتشفات العلمية الحديثة. وتؤكد أن ما خلُص إليه سعادة في كتاب نشوء الأمم من عوامل نشوء وتكوّن الأمّة لا زال مطابقا للنتائج العلمية في هذا الصدد: ((والمعطيات العلمية التي استند عليها سعادة لتحديد ماهية الدولة-الامة (The nation-state) لا تزال هي نفسها كما وردت في كتاب نشوء الامم، وهي متقدمة جداً على النظريات القومية الأخرى لأنها لا ترتكز على العامل الديني في تحديد القومية، أو على العامل الاثني/العنصري، فيما غيرها من القوميات فعل ذلك، ما أدى إلى تشوّش كبير في مفهوم القومية لدرجة أنها أصبحت موازية لكلمة “اثنية عنصرية”، فنجد في وضعنا الحالي من يرفض مبدأ القوميات على أساس أنها مرادف لعصبية اثنية))،،، الأمر الذي رغبت الدكتورة صفيّة في إظهار خطورته على الفكر السوري القومي الاجتماعي، وإعاقة انتشاره، وإفساح المجال لنمو الأفكار الدينية في نشوء الأمم على حساب الأسس العلمية لنشوئها، سيّما في سوريا.
وأوردت في مقالتها تعريفَ سعادة للأمّة كما ذكره في كتاب نشوء الأمم، لتؤكّد ابتعاده عن تضمين فهمه للأمّة أيّ بعدٍ عنصري، حين أشارت إلى ما ساعد في تحديده حيث قالت:
((إنَّ تحديد سعادة لمفهوم الدولة-الأمة نابع من تراث “سوراقيا” أو منطقة الهلال الخصيب، ذلك أن هذه الحضارة بُنيت منذ القدم على التنوع الاثني والديني، فلم تُقصِ أيّاً من الوافدين والمستقرين على أرضها. لذلك مفهوم القومية عندنا لا يستطيع إلاَّ أن يكون منسجماً مع تاريخنا)). وتستخلص أنّ اتكاء بعض الأفكار المغلوطة للقومية على عنصري الإثنية والدين ساعد الصهاينة في تحقيق مشروعهم.
حتى الآن يمكن أن نتفهم ممّا استعرضته الدكتورة صفيّة، خشيتها أن توصَم نظرية سعادة بهذه السِمة، فنتلمّس في المقالة سعيَها الحثيث لإبعاد أيّة نفحة عنصرية اثنية أو دينية عن فكر سعادة، وهي أيضاً مُحقةٌ بذلك، ومنه انطلقت لتعالج ما وجدت أنه قد يشير إلى هذه النفحة فيما ورد بالمحاضرة الرابعة من كتاب المحاضرات العشر حول السلالات البشرية ومواصفاتها، والمزيج السلالي، حيث رأت تناقضاً فيما ذكره سعادة بكتابه نشوء الأمم، وبين ما ورد في المحاضرات العشر، فاستخلصت أن ما ورد فيه ليس دقيقاً بل أدخله جورج عبد المسيح الذي كان مكلّفاً بتدوين محاضرات الزعيم التي ألقاها في الندوة الثقافية عام 1948: ((في هذا الصدد لا أستطيع إلاَّ أن اشير إلى أنَّ المحاضرات العشر لم يكتبها أنطون سعادة، بل ألقاها امام مجموعة من الطلبة، ودونها جورج عبد المسيح الذي أصبح أول رئيس للحزب السوري القومي الاجتماعي بعد استشهاد سعادة، لذلك أي تناقض فكري بين ما كتبه سعادة وما دوّنه غيرُه من الكتاب يقودني تلقائياً إلى إهمال ما كتبه آخرون بالرغم من تأكيد البعض أنَّ سعادة أعاد قراءة ما دُوِّن))،،، وتؤكّد أن سعادة لم يتبنَ المقومات الاثنية أو الدينية أو العرقية في تحديده لمفهوم الأمة: ((وليس أدل من ذلك، نفي سعادة في مجموع رسائله انتماءه إلى الفكر العنصري، بما فيهما الفاشية والنازية، وحذر القوميين منهما))،،، وتشير باعتقادها إلى قصدية جورج عبد المسيح آنذاك في تبني هذه الأفكار وإدخالها إلى الحزب: ((فيما تبدل الوضع مع تبوء جورج عبد المسيح رئاسة الحزب، فأدخل عقلية التمييز العنصري بين القوميين الذين تمسكوا بهذا الموقف معتقدين أنَّ هذا هو فكر سعادة! ومن المؤسف أنهم أعطوا انطباعاً خاطئاً عن فكر سعادة التقدمي في نقاشهم ضمن مجتمعهم السوراقي.) )،،، وتذهب لتلوم مفكري وقيادات الحزب حينها وإلى اليوم الذين لم ينتبهوا لخطورة ما قام به عبد المسيح: ((والغريب في الأمر، أنَّ أحداً لم يدرس أو يلاحظ التناقض بين ما أسّس عليه رئيس الحزب آنذاك، جورج عبد المسيح، من عنصرية في كتابة “المحاضرات العشر”، وبين ما قاله سعادة في المحاضرات نفسها))….
في الحقيقة أمام ما أوردته الدكتورة صفيّة لم أجد نفسي مدفوعاً للدفاع عن شخص، أو لأبرّر ما قام به رئيس الحزب الأول جورج عبد المسيح، بل شعرت بأن من واجبي محاولة إيضاح أن حزبنا لم يكن عبر هذه السنين ضحية شخص تمكّن بغفلةٍ أن يُدخل مفهوماً عنصرياً يُعاكس به ما طرحه واضعُ أفكاره ومبادئه وفلسفته، سعادة، وبأن هذا الحزب غنيّ بمن تمكّنوا من فهِم سعادة فهماً كافياً وجسّدوا أفكاره….
من هنا رأيت وبتواضع أن أوضّح بعض النقاط، وإن كنت على يقين من حرص وخشية الدكتورة صفية على نقاء فكر وحزب سعادة.
إذا حاولنا التدقيق فيما أشارت اليه الدكتورة صفيّة لوجدنا ما يلي:
أولاً: من الواضح أن سعادة في كتاب نشوء الأمم وحيث استشهدت بكلامه الدكتورة صفيّة يتبنى نظرية اختلاط السلالات ويجدها الأصحّ في اعتماد مقوّمات نشوء الأمم حيث قال:
“يجب ألّا يُستنتج أن هنالك مواهب عقلية سلالية خاصة، مكتسبة من الشكل السلالي، ومقتصرة على السلالة، ومتوارثة فيها، لأن الواقع قد برهن عكس ذلك. فحيث امتزجت السلالات قديماً، كانت المدنية أرقى، وإن اسبرطة كانت تمنع الاختلاط مع الأجانب محافظة على نقاوة دمها، ولكنها كانت في المدنيّة دون أثينا التي كثُر فيها الاختلاط الدموي بمراحل”…
هذا النص إن لم ندقّق فيه جيداً قد يدفع بنا للالتباس، وأعتقد أن ما أورده سعادة هنا جاء لينفي نظرية احتكار سلالة بعينها لمواهب عقلية خاصة بها، مقتصرة عليها، ومتوارثة فيها، ولا نجدها في سلالات أخرى، وكذلك جاء في معرض الردّ على من يدّعي أن النقاء السلالي أفضل في تحديد رفعة الأمم وتميزها، وليس لنفي اعتقاده بالتباينات السلالية، إذ نجده في الكتاب نفسه (نشوء الأمم) يقول في فصل السلائل البشرية، فقرة نشوء السلائل وعددها: “والأمانة لغرض هذا الكتاب تقضي ألّا نتوسّع في هذا البحث أكثر ممّا يجب، ولذلك يحسن بنا للتّوفيق بين غرض الكتاب وهذا الموضوع، أنّ نقسّم السّلالات البشريّة إلى قسمين: أوليّ (Primitive)؛ ومرتقٍ، وهذه الأخيرة هي شعوب آسيا وأوروبّا أصلاً.” ونجده في الفقرة التي تليها (السلائل والعقليات) يقول “إنّ السّلالات أمر فيزيائيّ واقع والأدلّة على وجوده متوفّرة. ومّما لا شكّ فيه أنّ هنالك فوارق بين السّلالات في الارتقاء والتّمدن والاستعداد لهما عند السّلائل الأوّليّة، فالثابت أنّ بعض السّلالات التي ضربت في الأودية الخصبة كوادي النّيل ووادي الفرات ووادي هوانهو أو الأراضي الخصبة كسوريا أنشأت بما كان لها من الاستعداد، مدنيّات رفيعةً في حين أنّ سلالات أخرى نزلت أودية أميركة الخصبة ولكنّها لم تستفد منها شيئاً ولم تنشىء مدنيّةً تستحقّ الذّكر. وقد يكون ذلك نظراً لعدم اكتمال تطوّرها”.
ويتضح أكثر قصدُ سعادة في الفقرة التي تستشهد بها الدكتورة صفيّة عدم ركونه للذين يعتبرون النقاء السلالي هو عمود الارتقاء في الأمم ويشجعون على عدم الاختلاط في قوله بذات الفقرة “إنّ نظريّة ضرورة نقاوة السّلالة شرطاً للارتقاء العقليّ وإنشاء المدنيّات واطّراد التّقدّم قدّ أصبحت واهيةً جدّاً، إذا لم نقل فاسدةً بالمرّة تجاه المعلومات العلميّة الحديثة، خصوصاً ما تعلّق منها بالمدنيّات الأولى، فمدنيّة بابل الّتي يعدّها العلماء أو جمهورهم، أولى المدنيّات الّتي أثّرت على سير التّمدّن العامّ نحو الارتقاء لم تكن عمل سلالة واحدة، أو قوم أصفياء، كما كان الظّنّ القديم، بل نتيجة احتكاك واختلاط الشمريّين بالساميّين”.
وهنا يبدو أنّنا إن لم نفهم ما رمى إليه سعادة في إقراره بوجود سلالات لها صفات أعلى من أخرى ومؤهلات ارتقاء أكبر، بأنه شأن علمي تاريخي وجودي، ليس فيه من رغبة أو ميل لسعادة الباحث المجرّد، وبأن التمازج والاختلاط بين السلالات سيّما ذات المؤهلات العالية يقيم المدنيات والارتقاء أكثر بكثير من المحافظة على النقاء السلالي، نكون قد اعتبرنا سعادة متناقضاً في ذات الكتاب لا بل في ذات الفصل منه.
ثانياً: يتكرر ذات الأمر فيما ورد في كتاب المحاضرات العشر في إشارة سعادة لموضوع السلالات ” أمّا أفضلية خلوص الأصل ونقاوة السلالة على الامتزاج السلالي (خصوصاً بين السلالات الراقية المتجانسة) فقد قام الدليل على عكسه فإن النبوغ السوري وتفوّق السوريين العقلي على من جاورهم وعلى غيرهم أمر لا جدال فيه، فهم الذي مدّنوا الإغريق ووضعوا أساس مدنية البحر المتوسط التي شاركهم فيها الإغريق فيما بعد. لقد كان النبوغ الإغريقي في أثينة المختلطة لا في إسبرطة الفخورة بأنسابها، المحافظة على صفاء دمها.” فهنا أيضاً جاء كلامه تعزيزاً لوجهة نظره في موضوع أهمية الاختلاط السلالي ودور ذلك في العمران والتطوّر والتمكين.
لكننا نجده يستأنف القول “مع ذلك لا بد من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية ووجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة، وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم أسباب تفوّق السوريين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق بل إلى نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانساً قويًّا مع نوعية البيئة.” في تأكيد منه على الفوارق السلالية، وإشارة إلى أن المزيج السلالي السوري تكوّن من سلالات ثقافية ذات مقدرات عقلية كبيرة في عملية التطور والتفاعل والتمكّن من البيئة.
فإن لم نكن موقنين بأن سعادة كان مقتنعاً بالعلم المجرّد بوجود فوارق سلالية، وبأهمية التمازج السلالي، لا بل بنوعية هذا المزيج وتجانسه، وبأنّه من هنا جاءت إشادته بالمزيج السلالي السوري، فكأننا نقول أن سعادة كتب بالعاطفة أو كان متحيّزاً لأمته في كتاب علمي بحت، أو كان فعلاً ذا نزعة عنصرية، لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
ثالثاً: ما يجب الاشارة إليه أن هذه الفقرات التي استندت إليها الدكتورة صفية وذكرت بأنّ جورج عبد المسيح أدخلها في كتاب المحاضرات العشر ولم يكن لسعادة أن يقولها، كان سعادة قد ذكرها في كتيّب (التعاليم السورية القومية الاجتماعية – مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته – مشروحة بقلم الزعيم) الذي وضعه في العام 1936 والذي دقّقه عدة مرات في طبعات متلاحقة.
رابعاً: صحيح أن الدكتورة صفيّة تُبرز اعتماد سعادة على الحقائق العلمية لكننا نجدها في موضوع تحديده للأمة تشير الى أنه نابع من تراث سوراقيا (سوريا):
((إنَّ تحديد سعادة لمفهوم الدولة-الأمة نابع من تراث “سوراقيا” أو منطقة الهلال الخصيب، ذلك أن هذه الحضارة بُنيت منذ القدم على التنوع الاثني والديني، فلم تُقصِ أيّاً من الوافدين والمستقرين على أرضها. لذلك مفهوم القومية عندنا لا يستطيع إلاَّ أن يكون منسجماً مع تاريخنا))،،، وهذا برأيي يُضفي مضموناً عاطفياً على المنحى العلمي المجرد في تقصّي وتحديد سعادة لمفهوم الأمة.
خامساً: تشير الدكتورة صفيّة ألى أن إدخال هذا النص من قبل جورج عبد المسيح على كتاب المحاضرات العشر أسّس لوجود ثقافة وعقلية عنصرية بين القوميين منذ فترة رئاسته حيث تقول: ((أمام هذه الشواهد، وأمام فكر سعادة العقلاني والرافض لأي تمييز ضمن مجتمعه، كما الرافض لتمييز البشر على أساس سلالات منحطة وأخرى راقية كما أسلفنا، يحار المرء كيف دخلت نصوص عنصرية، تمييزية، مجحفة في متن الندوة الثقافية التي عُرفت من قبل القوميين والقرّاء عامة باسم “المحاضرات العشر)).
((فأدخل عقلية التمييز العنصري (التي رفضها وحاربها سعادة) بين القوميين الذين تمسكوا بهذا الموقف معتقدين أنَّ هذا هو فكر سعادة! ومن المؤسف أنهم أعطوا انطباعاً خاطئاً عن فكر سعادة التقدمي في نقاشهم ضمن مجتمعهم السوراقي.))
وهنا لا بدّ من توضيح أن قول سعادة بوجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة لم ينطلق من نزوعه للتفاخر والتباهي بانتمائه لإحدى السلالات الراقية، فهو واضح أنه لا يتبنى هكذا طرح، ودلّل على أهمية الاختلاط والتمازج السلالي، بل قال ذلك انطلاقا من الحقائق العلمية ونتائج بحثه وتقصّيه المضني، وليس من نزعة عنصرية شوفينية أو نازية… التي من الواضح جداً محاربته لهما في كل ما كتب وحاضر.
ونرى الدكتورة صفيّة ذهبت بقناعتها أن مجرد كلام علمي له عن وجود فوارق سلالية (ليس لسعادة رغبة فيها أو دور في حصولها)، يصيبه بلوثة عنصرية لا ترتضيها له، وترى أنّه إن قال ذلك يكون قد أخطأ، مما يدلّل على حساسيتها المفرطة تجاه هذا العنوان (العنصرية)، ومحاولتها الحثيثة رفع الاتهام غير الواقعي الذي وُجّه لفكر سعادة في ستينيات القرن الماضي من قبل اليسار العربي بأنه فكرٌ عنصري، نازي أو شوفيني، وهنا برأيي رغم أن فكر سعادة أبعد ما يكون عن ذلك، لكن لا يجوز لتأكيده أن نذهب لإخفاء أو إنكار الحقائق العلمية التي طرحها سعادة واتكأ عليها في دراسته للاجتماع البشري والمجتمعات والأمم بمنهجية علمية لا عاطفية.
العنصرية، برأيي، تتأتى حين يقال بمزايا حصرية لسلالات بعينها، أو من الإدعاء بأن نقاوة الأصل السلالي أفضل من الاختلاط في ارتقاء الأمم وتطورها، وإصدار قوانين وضعية أو دينية تمنع ذلك، وبالتالي نشوء نزعة شوفينية فوقية يتم من خلالها التعاطي مع باقي الشعوب أو الأمم كالعنصرية النازية أوالصهيونية أوالأوروبية عموماً أو عنصرية اللون الأبيض تجاه الأسود..الخ، ونجد سعادة قد فنّد هذه المضامين ونقضها جميعها، لا بل قال بالمزيج السلالي، وهنا يكمن الاستخلاص الفكري أنّه كان غير عنصريّ بالمطلق.
أما أن يقدّم نتائج أبحاثه العلمية المجردة فيقول بوجود سلالات وفروقات ثقافية وإمكانيات متباينة لهذه السلالات، فهذا من طبيعة البحث العلمي وهوما تميّز به سعادة ويُحسب له لا عليه.
سادساً: أن تقول الدكتورة صفيّة أنّ جورج عبد المسيح بإدخاله هذا النص إلى المحاضرات العشر، أدخل عقلية التمييز العنصري بين القوميين، فيه مجانبة برأيي للحقيقة، ووسمٌ للقوميين بما هم ليسوا فيه أو هو منهم!! وأن تسعى لإبراز خطورة ما تراه حصل في الحزب بعد استشهاد سعادة وبوجود هذا النص المعارض لقناعته بموضوع السلالات حيث قالت:
((منذ استشهاد سعادة انقسم القوميون السوريون الاجتماعيون إلى تيارين: تيار يؤمن بالديكتاتورية ويرفض الديمقراطية التمثيلية (أنطون سعاده بين الديمقراطية “التمثيلية” والديمقراطية “التعبيرية”) ويطبق المبدأ الديكتاتوري ضمن الحزب وخارجه أيضاً، كما يؤمن بالنظريات العنصرية، من تفوق سلالات وانحطاط أخرى، ويحارب اليهود على أساس عنصري، لا على أساس قومي ناتج عن استيلاء الصهيونية على أرض سوراقية، هي أرض فلسطين؛ وتيار آخر يرفض ذلك بناء على الركائز الفكرية لسعادة كما وردت في جميع كتاباته، باستثناء ما كتبه جورج عبد المسيح باسم سعادة في “المحاضرات العشر”. ولسوء الحظ، هيمن التيار الأول على الحزب في مسيرته الطويلة، فيما انفضّ التيار الثاني، وترك محازبوه الحزب.
هذا التيار الفكري الأصيل لطروحات سعادة يتبناه وينشره اليوم من هو خارج الحزب، ومن يعمل جاهداً لنصرة القضية القومية/الوطنية، الديمقراطية، العلمانية الموحٍدة لكيانات “سوراقيا”، ويتصدى لكل المقولات العنصرية والديكتاتورية التي طبعت تياراً كبيراً في الحزب السوري القومي الاجتماعي.))
هذا أيضاً كلام أجد فيه من الخطورة التي تستدعي وقفة فكرية جادة من كل الباحثين القوميين الاجتماعيين، اذ أنني أرى فيه اتهاماً ليس لجورج عبد المسيح وحسب، بل للحزب بالعموم وللقوميين معظمهم، فأنا من بعد عقود على انتمائي أسمع للمرة الأولى أن في الحزب تياراً انتصر على تيار آخر في مفهومين متعاكسين عن الديمقراطية…! والأخطر من ذلك أنني للمرة الأولى التي أقرأ فيها عن أن ما وصفته بالتيار الديكتاتوري يجابه اليهود من منطلق عنصري وليس لأنهم احتلوا جزءا من أرضنا (فسطين) أولأنهم يحملون عقيدة تشكل خطراً وجودياً علينا بالمطلق كأمة…!
هذا، برأيي، كلام خطير على غير مستوى، فصحيح أننا في الحزب لسنا بالحالة الصحية التي يجب أن يكون عليها، وأنّ أمراضاً كثيرة تنتشر فيه من أخطرها النزعة السلطوية التسلطية لدى أفراد أو مجموعة صغرت أو كبرت، لكن ذلك ليس في سياق صراع تيارين متعارضين في فهمهما للديمقراطية، أو في تبنّي أحدهما النزعة العنصرية ومحاربة الآخر لها!!
أن نرشقَ حزبَنا وأعضاءه وننسب إليهم التعارضات الفكرية الجوهرية فوق ما فينا من الضعف البنيوي التنظيمي أجد فيه أجحافاً حقيقياً بحقّ هذا الحزب ودوره وغايته وماهيته.
سابعاً: أستغرب من الدكتورة صفيّة إصرارها في معظم كتاباتها على استخدام كلمة “سوراقيا” حين تقصد سوريا الأمة، فهي عبارة ذكرها سعادة بمرحلة استكمل فيها بحثَه عن الأمة السورية والجغرافيا السورية وتوصّل فيها لإزالة الإبهام وتحديد الحدود الشرقية، وهو على علمي استخدم هذه الكلمة مرات قليلة، (إثنتان فقط على الأرجح)، حين أراد أن يدلّل على أهمية هذا التعديل العلمي بعد استكمال بحثه، وأعلن بأن العراق أو منطقة ما بين النهرين جزءٌ لا يتجزأ من سوريا حتى لو أسميناها (سوراقية)، لكننا لم نجده يستخدمها في التعبير عن الأمة ابداً، فمنذ وضع مبادئ الحزب كانت (سورية للسوريين…)، فما الفائدة من أن نستخدم اسماً في صيغته اللغوية إيحاء بأن سوريا جزء والعراق جزء متمم؟!!.
خاتمة: حين التحدث والدلالة على نقاط ضعفنا الحزبي والمشاكل العميقة فيه، يبرز فارق كبير بين الإشارة إلى نزعة سلطوية تسلطية، وجموح البعض للإستئثار بالحزب في أكثر من مفصل، (الأمر الذي دفع بالكثيرين من الأعضاء للإعتكاف عن العمل التظيمي)… وبين الإندفاع للقول بوجود نقاط تباين فكري مبدئي بين تيارين أو أكثر فيه.
الضعف البنيوي المؤسساتي يبقى الأهون في عملية تصويب الحزب ووضعه على الطريق الصحيح الذي أراده مؤسّسه وزعيمه، وهو حين يتحقق نجد كلّ المعتكفين أو معظمهم عادوا للإنضواء في العمل المؤسساتي… أما حين بروز خلافات عقائدية فكرية فذاك يعني شبه استحالة أن نعود حزباً واحداً، ولذا أعتبر رغم ضعفنا المؤسساتي البنيوي الراهن والأمراض التي تتنازعه، أنّ وحدتنا العقائدية والتعاقدية تشكّل الضامن للعودة بالحزب لفاعليته ليكون دولة الأمة السورية القومية كما اعتبره سعادة.
————————————————
اقرأ في المسألة نفسها: الفرق بين السلالة العرقيّة والسلالة التاريخيّة عند سعادة – شحادة الغاوي.
رابط المقال: https://majalatalfiniq.com
مقال مهم يغني النقاش.
تحيا سوريا
شكرا نقاش جيد
تحيا سوريا
شكرا رفيق ماهر لهذا الاغناء الثقلفي و الفكري
جيد