دعونا نتفق أننا لم نتفق بعد على تسميتها أو لقبها، ربما شيء ما خفي في نسيجها الاجتماعي والوطني يجعلها عابرة للتسميات …. قد تكون “أرملة المدن “، أو ” كعكة الدبابيس “، أو ” المدينة المَنسيّة “، أو “المهشّمة والمهمشّة “، لكنها بالنهاية تبقى القامشلي الخاصرة الشمالية الشرقية لسوريا.
ربما كلما ابتعدت عن المكان تبدو ملامحه أوضح، وحقائقه أوجع، وتناقضاته أقسى، ففي خضم حياة صاخبة بالأزمات اليومية قد لا تتوقف أمام شارع أو ناصية أو امتداد عمراني، بل تمضي مثقلاً بأعباء الحياة وبتركة ثقيلة تركها لك أهل وأجداد أسسوا مدينة وسُرقت منهم كشاةٍ تساقُ إلى الذبح.
ذاكرة الفرح والجمال…والحب
عندما أتذكر الآن منزلنا الترابي العتيق في شارع تغلب بحي الوسطى، ومجاورته لفندق هدايا وقربه من السوق ومكتبة اللواء، أدركُ تماماً أهمية موقعه وأهمية العمود الخشبي المنتصب في زاويته لينقل كهرباء خجولة للبيوت، فمن عند هذا العمود كان بالإمكان أن ننحرف شمالاً لنبدأ رحلة غريبة المعالم متناقضة التفاصيل في شارعٍ يمتد إلى الأعلى، وبشكلٍ أو بآخر يلخص هذه المدينة ….
في الناصية الأولى للشارع يتقابل بنائين حجريين يوحيان بالأرستقراطية والغنى، الأول بناء حجري من عدّة طوابق جميل وبديع التصميم يخص آل ميرخان، والثاني بناء حديث إلى حدٍ ما لآل زافارو، لكن بعدهما بأمتار أكثر من بيت ترابي عتيق يبدو متماسكاً لكن الترميم السنوي للأسطح والجدران بالطين والتبن والملح الخشن يبقيه على قيد الحياة.
نمشي قليلاً … لا جديد أيضاً … بيوت ترابية وبناء حجري في الزاوية الأخرى قد يكون لآل حانا، ثم كنيسة الأرمن الكاثوليك ومدرستهم الخاصة وبناء حجري أنيق آخر …
في وعينا الطفولي كنا نعيش حالة من اللا فهم لما تراه عيوننا، ونطرح التساؤلات التي ستبقى مجرد تساؤلات عن هذا التناقض الصارخ بين البساطة والغموض، وعن أبنية لا تشبه بيوتنا، فنرسم في مخيلتنا صوراً عجيبة لما تحويه بداخلها، ونستغرب ببراءة كونها لا تحوي حوشاً ودالية عنب وخابية ماء!!
عندما نبلغ عتبة الشارع الطويل الممتد على الطرفين بشكل أنيق، تحدّه من اليمين ما اصطلح على تسميته في سوريا (السبع بحرات)، وطبعاً لا أعرف حتى الآن ما دلالة هذه التسمية ؟!، ومن اليسار دوار يقال أنه بداية ما يسمى (الكورنيش) وهذه التسمية أيضاً غامضة وغير مفهومة، علماً أنَّ ما يشبه نصباً تذكارياً فقيراً يتوسط الدوار وعلى ما يبدو يعبر بفقره عن ما يليه من حارات؟!.
تباً للاستطراد …
عنما كنا نقطع الشارع الطويل المسمى رسمياً (شارع القوتلي) وشعبياً (شارع العشاق)، وعلى ما يبدو تم اصطلاح اسم (مدينة العشاق) على القامشلي، وهي تسمية أخرى لا تبدو واقعية كثيراً.
نقطع الشارع لنمرّ في شارع ضيّق يحاذيه سور المشفى الوطني حيث غرفة صغيرة بشبابيك مكسورة ومفتوحة كنا نخاف الاقتراب منها أو التلصص عليها ونحن صغار لأنها كانت غرفة المشرحة، لا تنتهي هنا التناقضات فعلى بعد أقل من متر يبتر حاجز اسمنتي الشارع لتتهيأ نفسياً وانت تقترب من منزل ضابط أمني فتمرّ مسمّراً في مشيتك لا تلتفت للحارس في غرفة الحراسة أمام بيت الضابط أو تخشى أن ترمق باب البيت المغلق بنظرة تُفسر ألف تفسير، لكن بموازاة المشرحة في الأعلى ينتصب عش للقالق، كان هذا العش فوق مدخنة المشفى حكاية جميلة من حكايات المدينة، وأغنية يرددها الأطفال ليدللوا اللقالق أكثر فأكثر كي لا تغادر عشها وتهجر المدينة.
ربما كنا نجد في هذه اللقالق جيران وأصدقاء وأحبة صامتين يفردون أجنحتهم لتظلل أيامنا البريئة، لكننا استيقظنا ذات صباح لنجد العش فارغاً، واللقالق اختفت … تساءل الجميع يومها عن مصيرها، وكثرت التفسيرات والتأويلات والاجتهادات، لكن بعد سنين طويلة كشف لي (صديق) اللثام عن الحقيقة عندما كتب قصة قصيرة روى فيها ما حدث للقالق … تقول الحكاية أنه كان للضابط ابن بدين وشره للطعام فطلب من الحرس أن يصيدوا اللقالق ويأتوه بها وينتفوا ريشها ثم يشوونها له لينتفخ كرش الطفل الشره!!
على يسارك المركز الثقافي الذي يكمل سور المدرسة مقابل المشرحة ومنزل الضابط.
بعد ذلك نتابع تناقضات شارع يلخص المدينة فنبلغ الملعب الذي تقف بمواجهته الحديقة العامة والفرن الآلي …. ما هذه الخلطة العجيبة من الجمال … خبز وفرح وشجر بعد مشرحة ولقالق مغتالة ومنزل الضابط الغامض؟!
ذاكرة الحزن والبشاعة… والحرب
دعونا الآن نقفل راجعين في نفس الشارع ونحن في عمق الحرب …
الفرن الآلي تتقاذف السيطرة عليه الميليشيات والأجهزة الأمنية لتقاسم الغنائم اليومية، ولا مانع من اشتباكات محدودة بين الحين والآخر فيما بينهم لتثبيت الحجم اليومي للغنائم، حتى بات أهل القامشلي يتندرون وهم يسمعون أصوات إطلاق الرصاص ((اختلفوا عند الفرن)) .. هكذا يقولون ويمضون في سبيلهم غير آبهين بما يحصل!!
الملعب الذي عاش صخباً وفرحاً لا ينسى بات مهجوراً منذ أن لونته الدماء عام 2004، والمشفى بات قديماً استبدلوه بآخر جديد على أطراف المدينة، والضباط يتناوبون على السكن في المنزل الغامض، واللقالق لم تزر المدينة بعد اغتيال رفاقها.
تبرز مظاهر الحرب الصامتة عندما تعود لشارع القوتلي، فالمجمع الحكومي تحرسه الشرطة، وعلى بعد أمتار قليلة منه ترتفع حواجز الدفاع الوطني، ومن ثم مربع أمني لقوات الاسايش، وهكذا في شارع يمتد مئات الأمتار عليك أن تبدّل جلدك أمام الحواجز فلكل منها أجندته ولغته ومحظوراته … هكذا قطّعوا أوصال شارع التناقضات وعمّقوا تناقضاته المريبة التي لم يجد لها أبناء المدينة تفسيراً حتى الآن، وكأنهم يرسمون تفاصيل أرملة المدن التي تعيش بمجملها هذه التناقضات منذ سبع سنوات، مقطّعة الأوصال .. معتمة … دجاجة تبيض ذهباً لأثرياء الحرب … مهاجرون ومهجّرون… بيوت فارغة من سكانها تخشى ميليشيات تستولي عليها وتفضّ براءتها.
ربما لن يسعفني الزمن ولا أنفاس الحريّة لأعود طفلاً في عربة تختطفه شقيقته هاربة من عمو (نعمان) وإبرة البنسلين الشهرية فتمضي به لزيارة اللقالق … ولن أعود يوماً لأتمشى في شارع التناقضات من جديد … ربما بات ذكرى ومعنى لمدينتي التي انقسم أهلها على أنفسهم فأصبحوا يعيشون في عمق التناقض ….
ربما عليّ أن أزور هذا الشارع بتناقضاته البريئة العتيقة التي لا تشبه تناقضات اليوم التي يعيشها الشارع والمدينة، والتي جعلت من أرملة المدن: القامشلي، مدينة غيرّت جلدها !!.
كلما تبعت أثرك و أنت تسبر أغوار تلك البلدة أزداد تعلقاً بذاكرتي المتعبة لعلني أبقي بعضاً من الوفاء لها بعد أن لفظنا غربائها و هم يحزّونها إلى أوصال بغيضة . دمت حارساً وفياً لها .