من المؤكد أن الطائفية في الشرق هي من القضايا التي تم السكوت عنها والهمس بتفاصيلها عبر عقود من الزمن على الرغم من خطورتها الكبيرة على مجتمعات متشظية ومنقسمة، وبدت عورة الطائفية واضحة وفجّة عندما انفتحت الفضاءات الإعلامية وبات ما كان مسكوتاً عنه، مباحاً للنقاش والاختلاف وصولاً للتخوين، والاقصاء والتكفير.
لذا بات ضرورياً إعادة النظر في معطيات الطائفية التي تركت ظلالاً دموية على الشرق في السنوات الأخيرة.
الجذور والأسباب
ما هي أسباب وجذور الفتن الطائفية؟ ومتى تظهر؟ ومن يحرك مياهها الراكدة؟ ولمصلحة من تنفجر وتستمر الحروب الطائفية؟
بالطبع لكل فتنة طائفية عند وقوعها أسباب آنية لاشتعالها، وقد تكون هذه الأسباب مجرد عود الثقاب الذي يشعل الفتيل، وأحياناً تكون مفتعلة لحاجة من يفتعلها لتغيير الظرف والجو السياسيين المحيطين به، لكن هناك أسباباً شبه ثابتة تقف خلف الكثير من الفتن الطائفية تاريخياً وحاضراً وربما مستقبلاً أيضاً.
1-ارتباط المجتمعات سلبياً بالموروثات التاريخية، مما يجعلها حبيسة التاريخ، بل تحتكم الى وقائع حدثت منذ عشرات القرون في خلافاتها الاجتماعية والسياسية القائمة. كموضوع الإمامة والخلافة بين الشيعة والسنة عند المسلمين، وموضوع العقل والروح (العلم والدين) بين الارثوذوكس والكاثوليك والبروتستانت عند المسيحيين.
2-غياب ثقافة التعددية الفكرية وثقافة التوافق السياسية، وبالتالي غياب القبول بالتعددية الاجتماعية والثقافية في المجتمعات عامة.
3-وجود مصالح ضيقة، أو أجندات سياسية ضيقة، لدى بعض الجماعات المهيمنة على الطوائف، فتستقوي بالهوية الطائفية على حساب الهويات الوطنية الجامعة.
4-بروز الأصوات المطالبة بالهويات الخاصة العرقية والدينية والمذهبية، التي تكاثرت متزامنة مع سقوط ايديولوجيات عالمية كانت سائدة ومهيمنة كالشيوعية، وبعد سقوط جدار برلين تشجعت الاقليات المهمشة والقوميات المنسية لتفعيل هويتها سياسياً ودولياً وهي الحالة التي تم وصفها بمصطلح ( انفجار الهوية)، حيث تقدر المجموعات التي نادت بهوياتها الخاصة بما يزيد على 3000 في مختلف أنحاء العالم، مقارنة بنحو 900 مجموعة في أواخر سبعينات القرن العشرين، ويُقدر عدد الحركات الانفصالية التي قامت في هذا الإطار بنحو 600 حركة خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
5-غياب العدالة في توزيع موارد الدولة، أي عدم توازن الدولة في توزيع الموارد بين مناطقها وطوائفها ومحافظاتها، وذلك بسبب غياب العدالة في خطط التنمية التي تتبناها الحكومة فنجد مناطق ثرية وأخرى فقيرة، مناطق تعيش المدنية العمرانية في مدن حديثة، وأخرى تعيش في بيوت عشوائية تأخذ شكل القرى رغم كونها تاريخياً تعد من المدن القديمة وبالتالي يستشعر أهل تلك المناطق بالظلم.
6-شعور أهل بعض القوميات أو الديانات والطوائف بوجود تاريخ من الظلم المتراكم على مجتمعاتهم.
7-غلبة الهوية الأقرب الى الذات المتمثلة في القبيلة والطائفة والمذهب على الهويات الجامعة، وقد تتحول الهويات الضيقة الى هويات قاتلة كما يسميها أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة) إذ يقول: (إن كلمة هوية مضللة فهي توحي في بادئ الأمر بحق مشروع ثم تصبح أداة قتال. ذلك المفهوم الذي يختصر الهوية في انتماء واحد يختصر البشر في موقف متحيز ومتعصب ما يحولهم الى قتلة واتباع قتلة).
8-استخدام ورقة المذهب والطائفة كأداة في الصراع والتنافس السياسيين بين مكونات المجتمع السياسي الواحد، وفي حالة أخرى يتم استخدام هذه الورقة في الصراع بين تلك المكونات والدولة، فتتهم المكونات الدولة بأنها نظام طائفي في سياسته، أو تتهم الدولة المكونات بالتهمة ذاتها، وتارة أخرى تتنافس القوى الداخلة في الدولة أو التي خارجها لاستخدام الورقة ذاتها للوصول الى السلطة والنفوذ والمصالح. فيبقى بذلك المجتمع المدني ومنظماته الحديثة في حالة تراجع وعجز عن ممارسة دوره.
9-استجابة بعض الاطراف الداخلية لمتطلبات ورؤى بعض السياسات والأطراف الإقليمية والدولية التي من مصلحتها استمرار الفتن الطائفية لتقوية نفوذها في الداخل.
10-استمرار الصراعات الاجتماعية الناتجة عن امتدادات فشل مشاريع النهضة والتحرر السياسي والاقتصادي والثقافي منذ ما يقارب ثمانية عقود وحتى الان، ففي فترة النهوض السياسي القومي بعد الحرب العالمية الثانية والطموح الى بناء سلطة شعبية ووطنية في الوقت ذاته كان الميل شديداً لدى مختلف الطوائف الدينية وغير الدينية الى الانصهار، وحدث الامر ذاته في فترة النهوض الوطني ضد الاستعمار اذ كان هذا الصراع يخلق نوعاً من الإجماع القومي يدعم الشعور بالانتماء الى جماعة واحدة ضد الانتماءات الجزئية المتعددة ولم تعد الطائفية الى السطح بشكل عنيف إلا مع وصول هذا المشروع الى الإخفاق وعاد كل الى قواعده التقليدية غير واثق بالمستقبل، وعمّق إخفاق المشروع الوطني الاستقلالي هذا الشعور ففقدت الجماعة اي مثال أعلى جديد واضطرت الى العودة للتشبث بالمثل الجزئية الماضية التي تتضمن لها وحدها شيئاً من المناعة ضد الانحلال والضياع وشيئاً من القوة والسلطة ضد الدولة التي لم تعد تعبر عنها، أو التي أدركت أنها لا تعبر عنها.
11-إنعكاساً لمجموعة من الاخفاقات التي مُنيَّ بها العالم الثالث في البعد الإصلاحي والتحديثي، واتساع الفجوة بين العالم المتقدم ودول العالم النامي، وغياب مؤشرات النجاح عن ارتفاع مستوى المواطن والاسرة مادياً وتنموياً فينعكس عليهما بالاندفاع للانكفاء على الذات نحو (الهوية الضيقة).
12-وجود إعلام يساهم في صب الزيت على نار الصراع على الهوية، فقد تبدأ الفتن من خبر أو تعليق إعلامي صغير، فيدخل الفضاء الإعلامي في دائرة الاستفزاز والاستفزاز المضاد.
الدور الخطير للإعلام
التطور التكنولوجي والإعلامي في السنوات الأخيرة واتساع مساحة الاعلام الفضائي والالكتروني جعل من القضايا الطائفية مادة دسمة ومكشوفة وصاخبة على هذه الوسائل الإعلامية، فظهر الوجه القبيح للطائفية فجاً بلا أي رتوش، وبسرعة ظهرت قنوات فضائية بصبغة دينية اسلامية ومسيحية كل منها تعبر عن الفكر المذهبي الذي تتبعه، وبذلك انتهت مرحلة الإعلام الرسمي الذي كان يضبط مثل هذه الافكار والخطابات الدينية المحرضة على الفتنة، ومع غياب الرقابة الذاتية شهد الفضاء الاعلامي انفلاتاً خطيراً باسم الحرية!
إلى أن يتقدم الوعي القومي وتأخذ الدول ومجتمعاتها بمبدأ فصل الدين عن الدولة، ستبقى الطائفيّة ظلال الدم على رداء هذا الشرق البائس.