أيقظ فيّ كتاب نزار سلّوم هواجس وهموماً ومشاعر خلتُ أنها رقدت رقدةَ أهل الكهف. ودفعتني إلى استعادة ما كان يعتمل في داخلي منذ سنوات طوال، ووصل في مرات كثيرة إلى حد الانفجار في تحليلات وتفاسير نزقة تعبّر بالألم عن الخيبة، وبالوقاحة عن فقدان الأمل.
عرفت من خلال وسائل التواصل أن نزار سلّوم وضع كتاباً حول مشروع أنطون سعاده النهضوي باسم “البحث عن زيوسودرا”. في الحقيقة لم أفهم ما عنته هذه الكلمة، ولا مرّت عليّ مع أني وضعت كتاباً في “بنى السرد الحكائي في الأدب الشعبي” ومنها بنية الأسطورة من التكوين إلى الخلق إلى العلاقة بين الآلهة والبشر، وانتشار الفساد وقرار الطوفان للتخلص من بني البشر، وتدخّل أحد الآلهة الأخيار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن لا فائدة من وجود الآلهة إذا لم يكن ثمة بشر يحكمونهم. وعمد هذا الإله إلى الطلب من “فائق الحكمة” أن يدبّر فلكاً يحمل ما يمكن حمله من الأخيار لحفظ البشرية من الفناء. وكان أن عرفتُ أن زيوسودرا ما هو إلا “فائق الحكمة” في الأساطير القديمة. كما ثمة اسم آخر في أسطورة أخرى غاب اسمه عن ذهني كما غابت، ولا ضرورة في هذه العجالة للعودة إلى المصدر.
فهمت، من بَعد، أن المطلوب هو فقط وجود منقذ لسورية من الدمار والاندثار، أكثر من كونه منقذاً للحزب الذي أخذ على عاتقه انقاذ سورية من التفتت وإعادتها إلى دورها الطليعي في الحضارة العالمية. وأنا على يقين أن ما يعنيه نزار سلّوم، وأنا على معرفة وثيقة به وصداقة حميمة، هو إنقاذ الحزب الذي أخذ على عاتقه إنقاذ سورية. لأنه من شبه المستحيل أن يظهر منقذ من خارج العقيدة القوميّة الاجتماعيّة باعتبارها نهضة وحركة ومؤسسة تنظيمية، تعمل بالتمفصل الذي لا فكاك فيه لصنع الوحدة القومية وصيانة الأمة السوريّة، الغاية الأساسية، من التفكك والضياع.
هذا هو الهاجس الأساسي الذي شغل فكر ووجدان نزار سلّوم، المجبولَين بالألم والخيبة، مما آلت إليه الأمور، ولحظِهِ القطيعة التامة بين ما هي عليه النهضة بثباتها العقيدي، من حيث هي تحديد واضح لما عليه أن تكون الأمة، والمجال الرحب الذي لا يحدّه حد، في توسّل كل ما يمكن من انتاج فكري في شتى أمور الحياة، لرفعة شؤون هذه الأمة المحدّدة جغرافيّاً ومتحداً اجتماعيًاً تامّ المواصفات ذا تاريخ مجيد يعود إلى آلاف السنين.
طرح نزار سلّوم تساؤلات عديدة حكمت بحثه ذا المحاور المتعدّدة، والمُصاغة، على ما أظن، في فترات زمنية متباعدة، وإن كان يجمعها همّ واحد، وهو محاولة الجواب، بالحجة والبرهان، لتوضيح أسباب تعثّر أنطون سعاده في تحقيق غايته بعد وضع أسس النهضة القوميّة الاجتماعيّة في سورية؛ ومن ثم فشل الحزب، ليس فقط في استكمال العمل على تنكّب هذه النهضة، بل أيضاً فشله في إيجاد المشروع الاستراتيجي القومي الذي عليه أن يعمل من أجل وحدة سورية، وإيجاد المكان اللائق بها بين الأمم. بل والأمرّ من ذلك، أنه يمثل الأمة السورية مصغّرة، باعتباره الحزب المؤهّل للقيام بهذه المهمة السامية، على غير ما هي عليه الأحزاب العادية. باعتباره حزباً لا اعتياديّاً. والمفارقة أنه لم يكن حزباً موحّداً فكريًاً، في زمن أنطون سعاده كزعيم له، ولا تنظيمياً، بعد غياب سعاده. صحيح أن لبنَنَة الحزب كانت خروجاً سافراً عن عقيدة الحزب وغايته، ولكنه كان خروجاً لا لبس فيه، ولا باطنيّاً. كان واضحاً. ولذلك كان من السهل تجاوزه والعودة إلى المسلك السليم، فكريّاً وتنظيميّاً. أما بعد ذلك، فالأمر مختلف. والمحنة أشدّ. إذ بدل أن تكون القيادة مجنّدة للعمل من أجل نصرة العقيدة وتحقيق أهدافها باسم الحزب ونظامه واستراتيجياته، تحوّلت، ومنذ استشهاد سعاده، إلى مجموعات من المتسلقين، حوّلوا الحزب إلى مطيّة للوصول إلى ما يحقّق منافعهم الشخصية، من سياسية واجتماعية، والحلول في واجهة الحياة اليومية للواقع المأزوم الذي من المفترض أن يكون محطّ النار، المبرّر الأساس لانتمائهم النهضوي.
المسألة في نظر سلّوم ليست فقط في المقارنة بين حزب سعاده اللا إعتيادي، وحزب ما بعد سعاده الاعتيادي. المسألة في الفكر والنزعة القيادية المحكومة بالفكر، والمفتوحة على كل الاحتمالات، ومن ضمنها بالطبع المسألة السياسية. تحوّل الحزب بعد سعاده إلى مجرد حزب سياسي يتوسّل المنافع الخصوصية والمناصب بطموح عجيب وغريب وبعيد عن المناقب القومية الاجتماعية لشغل مركز في نظام طائفي أو وظيفة عليها العين، ليعبّر عن نجاحه واختراقه حاجز المنع من المشاركة في دولة طائفية يقودها نظام منتج بذاته للفساد والفاسدين. لا لشيء إلا ليكون الحزب مشاركاً في مغانم الحكم، ومطيّة للطامحين والمتسلّقين، وتابعاً لمن يغذّي شرايينه بالنسغ اللازم للاستمرار. ولا يهم إذا كان هذا الاستمرار على مغايرة وقطيعة مع العقيدة والنهضة. فيكون الحزب على هذا النحو، غريباً عن مرتكزاته، جاحداً لتطلعاته، متنكرّاً لمبادئه، فقيراً، إذا لم يكن معدماً، بإنجازاته. لهذا كلّه صار الحزب ليس فقط حزباً عاديّاً، بل الحزب ما دون العادي، ويعمل تحت إمرة أحزاب عادية وأجهزة عادية.
ولأنَّ الحزب العادي يشتغل بالسياسة، لتحقيق أهداف قادته السياسيين، كان على هؤلاء أن يستقطبوا الأنصار والمؤيدين، كأي حزب سياسي. ولأنه كذلك، فهو يفرض المحاور والمنافسة والاستئثار بالسلطة، وإبعاد المعارضين، بالسياسة وليس بغير ذلك. أما الفكر والعقيدة والغاية السامية فشأن آخر. وهل علينا بعد ذلك، أن نتساءل عن سبب الانقسامات، أو الانشقاقات النابعة من التنظيم ومن النظام نفسه، باسم الديمقراطية وحرية الرأي وحق المعارضة، والأشرّ من ذلك، الوصول إلى هذا الدرك باسم النظام، ومن أجل الحفاظ على سلامة العقيدة؟
ولهذا، يمكن الكلام على مجموعات من المنتمين إلى العقيدة، والملتزمين بمبادئها وغايتها. منها من محض ثقته الكاملة لقيادة الحزب على امتداد تاريخه الطويل، حتى ما قبل استشهاد سعادة. تسكن القيادة إلى هؤلاء إن كانوا هنا أو هناك. وتُكبر فيهم الطاعة والالتزام بالنظام، وتُغدق عليهم المراتب والعطايا. ومنها من يسأل ويناقش بالأسئلة البديهية الأربعة: كيف ومتى أين ولماذا؟ فتدير لهم ظهرها، مع التعوّذ بالله من الشيطان الرجيم. أما الباقيات، فتبقى صامتة، أو متألمة أو خائبة، أو مغادِرة ولو إلى ظلمات كهوف الطوائف. وفي حال الانقسام، يتبع فريق من الملتزمين هذه القيادة أو تلك. ويبدأ الرمي بالحجارة والزجاجات الفارغة والشتيمة واللعنات والاتهامات بالخروج على النظام وتدمير الحزب والقضاء على الأمل. ولا من داعٍ لذكر أسباب التجمع هنا أو هناك. فذلك معروف من الجميع. وهل علينا أن نذكر البذخ في توزيع رتبة الأمانة، وأسباب هذا التضخم. ومن أجل ماذا؟ أيضًا المسألة معروفة من الجميع. يكفي هذا القول وقد كثُر.
أما المحور الثاني في الكتاب، وهو الأهم فكريًّا وجرأة، فهو عرض وتحليل مسلك سعاده العملي في ذلك التمفصل المتين مع العقيدة والغاية التي نذر نفسه من أجلها، وأسّس الحزب الذي عليه أن يقود هذا المسلك بزعامته. هذا التحليل الذي يربط بين فكر سعاده ونضاله، باعتباره، بالإضافة إلى كونه مفكراً نهضويّاً، مناضلاً سياسيّاً خارجاً عن المألوف. يعمل في السياسة من حيث هي مطلب قومي، وفي خدمة القضية القومية. ولأنها مطلب قومي، فهي تتطلّب الإشباع في الوعي القومي، وفي الثقافة القومية، وفي فهم السياسة على أنها جزء من ثقافة عميقة الجذور، تعمل على إعلاء شأنها كسياسة في سبيل خدمة الثقافة القومية باعتبارها جزءاً منها. ما عدا ذلك، توصل السياسة إلى غايات أخرى لا علاقة لها بالقضية القومية ولا بثقافتها. بل تحيل إلى غايات مغايرة تبقى في قاع النزعات الشخصية والطموح الفردي وشهوة التسلّق.
ما أوصل سعاده إلى الاستشهاد، ليست مثاليته المفرطة، وقد استند إلى علم الاجتماع، وإلى المنهجية العلمية في تقرير ما يمكن أن تكون عليه سورية، إذا حسُن العمل والنضال. ولكن التحليل العلمي والفكر الخلّاق والطموح، والإخلاص في العمل، والنضال من أجل الوصول إلى الغاية لا تكفي وحدها. الطاقة والقدرة، والإرادة والتنفيذ تبقى قاصرة إذا لم يرافقها شأنان يساهمان في عملية التغيير للوصول إلى الغاية، ولا بدّ من توفّرهما. حركة التاريخ واللحظة التاريخية المناسبة، المؤاتية وغير المؤاتية، تساهمان في النجاح أو الفشل. والدعم من قوى وأحزاب وأنظمة متوافقة مع النهج القومي أو مؤيدة، بدون غاية فوق أو أعلى من غاية الحزب وزعيمه المؤسس، المندغمة غايته مع غاية الحزب في حركته النهضوية، وفي عقيدته الواضحة. الشأنان لم يتوفّرا. ليس هذا فحسب، بل الشأنان جاءا مضادّين لتوجّه سعاده وحزبه. هذان الشأنان، حسب سلّوم، وهو على حق في ذلك، أوصلا سعاده إلى حقل الرماية والاعدام.
ما من شكّ في أن هذا التحليل المفتوح على المجالات الرحبة التي تتيحها العقيدة القوميّة الاجتماعيّة، كانت مغلقة، أو أشبه ما تكون، على امتداد فترة ما بعد الاستشهاد. وأدّى هذا الاغلاق إلى ابتعاد مفكرين كبار عن الفكر القومي الاجتماعي، أو صمتوا، أو افترقوا. هنا يعود نزار سلّوم إلى فتح هذا الباب المؤدّي إلى تلك الفضاءات الرحبة، ليس فقط من أجل الكلام للكلام، ولزيادة التراكم المكرّر والمعاد والمضجر، بل أيضاً، للخروج من هذه الصفة الملحمية التي أُلصقت بسعاده، على يد مريديه، والدون كيشوتيّة على يد خصومه ومعارضيه. والكفّ عن توسّل مقولات سعاده واعتبارها كليشيهات خارج سياقها التاريخي، ومناسبات قولها المفصولة عن الزمان والمكان، وكأنها مقولات قدسية، على أهميتها وأهمية قولها في المكان الزمان المناسبين، وضمن مسار إطارها التاريخي.
هذا أهم ما حمله كتاب نزار سلّوم الممتع والمفتّق لجراحات خلتُ أنها اندملت. أما باقي ما حمله فهو شرح في أصل العقيدة وفصلها، وأهمية ما قدمه سعاده في القومية الاجتماعية. وأهم ما جاء فيها التحليل المبتكر لمندرجات الفكر القومي وأهميتها في إنقاذ سورية من الهلاك. وليس فيها ما هو قابل للنقاش سوى مسألة سَيرَنة الأديان، ولا مجال لمناقشتها في هذه العجالة. ولا يلزم لذلك إلا إيجاد “الفائق الحكمة”، زيوسودرا، لاستكمال هذه المهمة بإعادة التمفصل المتين بين العقيدة والنهضة وحاملهما، بالممارسة، الحزب بمؤسساته. أما البحث خارج إطار الفكر القومي، بالحزب أو بالأحزاب المتداولة من الحزب، فهو بحث في خواء أو سراب. والأمل في إيجاده، مماثل لأمل إبليس في الجنة.