من المنطقي جداً مقاربة الديمقراطية كظاهرة سياسية دائمة الحصول والاستمرار وعميقة الاتصال بالاجتماع من خلال ارتباطها بظهور الإرادة الشعبية العامة، وظهور الوعي القومي الوطني لمصالحها وحقوقها في مواجهة الاستبداد على مستوى الدول والمجتمعات الآخذة في التطور الاقتصادي الصناعي والعلمي والثقافي.
وهذا له قيمته في أن المسار التاريخي لها، مسار يحكم الشعوب التائقة للتحرر، من خلال نمو وعيها المضطرد ولن يقف عند حد سواء رغب البعض أم لم يرغب لاعتبارات إيديولوجية أو مصالح خاصة.
وعلى أساس ذلك يمكن مقاربتها كنظام سياسي متطور بأساسه ومعناه وآلياته.
الأساس التعبيري الحقوقي الإنساني والوطني للديمقراطية:
الجميع أحرار متساوون بالكرامة الإنسانية،
الجميع مواطنون متساوون بالمواطنة الاجتماعية.
- الأساس التعبيري الحقوقي الإنساني للديمقراطية:
أول تجسيد سياسي لها في الدولة كان في نيل حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وما يمثّل ذلك من تحرر شخصية الفرد الآخذة في الظهور والاستقلال، وبما يجسّد كرامة الحياة الإنسانية، وبما يتجلّى بتنشيط حيوية المجتمع وحرية الحراك للإرادة الشعبية.
فمن المثير للغرابة والحزن والاشمئزاز، أنه حتى الآن توجد دول على هذا الأرض في عصر التمدن العصري، تحرم شعوبها هذه الحقوق وتسلب مواطنيها الكرامة والحياة اللائقة، فتلك الحقوق وممارستها هي معيار قيمي لمدى تطور الدولة والمجتمع، وهي درجة أولى على سلّم بلوغ الحقيقة الإنسانية الكبرى في بلوغ حياة أجود وعالم أجمل وقيم أعلى.
فلم يعد مقبولاً على المستوى الإنساني والوطني الأخلاقي، بوجود سجناء رأي واعتقال سياسي وممارسة أبشع أساليب التعذيب بحقهم أو وجود حرمان بكل أشكاله.
كما من المؤسف والمدمر للوطن وجود ما يسمى معارضة خارجية بسبب عدم السماح لها من ممارسة سياسية وثقافية حرة في الداخل.
ولم يعد مقبولاً عند الرأي العام الآخذ في التطور، كما مدانٌ كل حزب كان في السلطة أو في المعارضة، لا يدافع عن حقوق الإنسان الأساسية وعن معتقلي الرأي، كقضية مقدسة تتقدم كل القضايا، لأنها تمس كرامة الإنسان وحيوية المجتمع ومصلحته في الصميم.
فالكرامة والحرية مثل الخبز في بلدان بأمس الحاجة إلى التغيير على كل المستويات. والحرمان هو صاعق التفجير للعنف والانحراف الوطني والسياسي والثقافي والأخلاقي في كل مجتمع.
فحقوق الحرية هي الأساس التعبيري الإنساني للديمقراطية لا يمكنها الاستغناء عنه إطلاقاً، وإلاَّ كانت قناعاً سخيفاً واهياً لممارسة الاستبداد.
والحرية لا تتجزأ، فهي تشمل مواجهة كل أشكال الاستبداد السياسية والثقافية والحزبية والدينية والطائفية، وهي طاقة الصراع من أجل بلوغ التغيير المنشود.
- الأساس التعبيري الحقوقي الاجتماعي الوطني المدني للديمقراطية:
كان في إسقاط الدولة الأوتوقراطية والثيوقراطية، أي في فصل الدين عن الدولة، واعتبار رابطة الوطن والمجتمع والاشتراك في الحياة الاقتصادية الاجتماعية هي معيار عادل لتوحيد حقوق الهوية في الدولة، والذي يفضي إلى وحدة مكونات المجتمع دون إقصاء أو ظلم، كما يؤمّن أساساً اجتماعياً مدنيا لاعتبار الجميع مواطنين متساوين بالمواطنة.
هذا في الأساس التعبيري عن مصالح المجتمع والوطن للديمقراطية كنظام سياسي، وبدون ذلك هو تلفيق ثقافي ونفاق سياسي يخدم أغراضاً جزئية مدمرة باسم الديمقراطية.
وأما مقاربة الديمقراطية كممارسة في الدول أو الأحزاب:
من المنطقي جداً مقاربتها على أرضية مفهوم السلطة نشوء وتطوراً وتنوعاً ووظيفة، وذلك لكونها شديدة الاتصال بالصراع على السلطة في الدولة، والذي يعتبر من أخطر الصراعات المدمرة لمقومات الدول والأحزاب، إن لم يتم قنونته وتنظيمه لتجنيبه الانزلاق إلى الصراع العنفي القاتل.
وحتى تكون المقاربة ذات جدوى مفيدة من ناحية الفهم، أحب أن أقاربها على أرضية الفساد السياسي، وهو المرض العضال الذي يصيب أي سلطة في حزب أو دولة ويجهز على وظائفها وقيمتها ودورها.
فالسلطة ظاهرة طبيعية رافقت نشوء شخصية الفرد وشخصية الجماعة كإرادة عامة على شكل أحزاب وجمعيات وكدولة.
والدولة في بنيتها وتطورها أضحت تعني سلطة وإدارة ولكل منهما مؤسساتها المختصة والمحددة الوظيفة والدور.
وكذلك حدث تطور كبير في تنوع السلطات، فعدا عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، برزت السلطة الرابعة سلطة الإعلام والرأي العام والتي تطورت كثيراً على ضوء تطور الإعلام الإلكتروني.
السلطة حين تمرض تعني التسلّط والسيطرة.
كما هناك سلطة بسلطان، والسلطان يعني ما تتميز به شخصية المفوّض له السلطة والممارس لها من ملكات ومعرفة وخبرة ووجدان صادق، والتي تعطي لسلطته الممنوحة قيمة وتأثيراً وجدوى أكثر.
وحين مقاربة فكرة السلطة يجب النظر إليها من مسألتين هامتين:
وذلك كي نستطيع تقييم عمل السلطة من خلال كونها حقاً وخدمة.
حق في اتخاذ القرار لخدمة القضية أو الوظيفة المنوطة بها أي مسؤوليتها أمام منفذي القرار.
- مسألة انبثاق السلطة.
- مسألة جدلية تفاعل الرأي والقرار.
انبثاق السلطة:
من ناحية تحديد القاعدة الانتخابية ومن يحق له الانتخاب وقد توسعت كثيراً بتطور الديمقراطية لتشمل الشعب كاملاً بعد سن البلوغ، وتشمل الصف الحزبي المعني بالقضية، وغير ذلك هو استبداد مقنّع مهما تم تجميل القناع فدونه عقبات وتبعات سيئة على أداء السلطة.
ومن ناحية تحديد قانون الانتخاب وله أشكال كثيرة.
كل التطورات التي حدثت على قانون الانتخاب كانت تصب في تحقيق عدالة ومصداقية أكثر في التمثيل السياسي لمكونات المجتمع السياسية وتحقيق مصلحة وطنية أكثر في تأمين وحدة المجتمع.
مسألة تفاعل الرأي والقرار:
للارتقاء أكثر في عمل السلطة وتحسين أدائها ولجم شهوتها ومحاربة انحرافها في خدمة أصحاب المصلحة والقضية وذلك من خلال تشريع مؤسسات الرأي وحمايتها وتسهيل تفاعلها مع مؤسسات القرار من ضمن مؤسسات موصوفة ومشرّعة.
فالفساد السياسي يعني الأمراض التالية:
- الاستئثار بالسلطة.
- عجز السلطة.
- سوء استخدام السلطة.
(حسب كتاب فلسفة السلطة للمفكر ناصيف نصار)
من هنا ندرك قيمة ومعنى الديمقراطية التمثيلة والتعبيرية في مواجهة ذلك.
- الاستئثار بالسلطة: المواجهة بالعدل التشريعي
وما تعني من جنوح نحو التسلّط والسيطرة والإقصاء والإلغاء، وهو من ينتج الفساد الذي يضرب كل وظائف الدولة أو الحزب، ويجهض عملها وقيمتها، كما يفجّر الصراع العنفي على السلطة والاستقواء بالخارج وبالتالي تدمير الوطن والمجتمع.
لا تتم مواجهته إلا بممارسة الديمقراطية التمثيلية بأساسها التعبيري الحقوقي للحرية والهوية، وممارسة الانتخاب وفق قانون انتخابي عادل وعصري، يكفل حق التفويض وحق الحجب لمانح السلطة بحرية، ويكفل تداول السلطة بشكل سليم وسلمي وتنافسي مفيد، ويكفل فصل السلطات أو مركزتها حسب المتطلبات السياسية والظروف النضالية لتحسين عملها وأدائها.
وقد طرأ تطور كبير على ألية الانتخاب سواء الانتخاب المباشر أو الانتخاب عبر المصافي ووفق شروط ومؤهلات لضمان تمثيل نوعي أفضل من خلال تطعيم التمثيل بمعاني تعبيرية.
طبعاً، هناك مراحل استثنائية في التاريخ ولظروف خاصة تخص كل مجتمع وأمة، تم جمع السلطات ومركزتها بيد قيادات كان لها دوراً قيادياً رائداً في لحظة تاريخية معينة، ولكن هذا النظام أثبت أنه غير صالح بشكل دائم.
- عجز السلطة: المواجهة بالعدل التشريعي
وما يعني من وصول أشخاص غير مؤهلين لها وغير اختصاصيين وغير أصحاب خبرة ومعرفة، وتتم مواجهته من خلال تجسيد فكرة الديمقراطية التعبيرية في وضع شروط ومؤهلات أخلاقية وعلمية وعملية ومعرفية واختصاصية للمرشحين إلى الانتخابات أو المرشحين لمسؤوليات تنفيذية، وتشريع مجالس المستشارين والمختصين والدراسات وربطها بعمل مختلف السلطات، وهذا ما عملت عليه وماتزال تعمل مختلف الأنظمة الديمقراطية في العالم.
- سوء استخدام السلطة: المواجهة بالعدل القضائي
من قبل المكلف بها لأغراض خاصة، وتتم مواجهته من خلال تفعيل عمل السلطة القضائية ومؤسساتها وتحريرها من سيطرة السلطة السياسية بفصل السلطات، وتفعيل السلطة الرابعة الممثلة في الإعلام ومؤسساته، وفي تفعيل تفاعل مؤسسات الرأي والقرار.
وكل ذلك يتوقف على تحرير السلطة السياسية من الاستئثار وجنوحها الى التسلط والسيطرة.
فالفساد السياسي من عجز ومن سوء استخدام ومن تدمير مقدرات الدولة أو الحزب هو ثمرة فاسدة لاستئثار السلطة.
لأن السلطة المتسلّطة تكون غايتها الأولى البقاء في السلطة وكسب الموالاة لها فقط، واستخدام كل الأساليب لذلك من ترهيب وترغيب، بما فيه القمع والعصا على المعارضين وترغيب الموالين بالجزرة وإفساد الشعب لكي يكون تحت الحساب الاستنسابي الذي يخدم تسلّطها وفسادها.
—————————————————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذه المقالة في وقت واحد مع مجلة فينيق.