للمرّة الأولى في التاريخ المعاصر، ربما، بدأنا نسمع الحديث عن المظالم التي تعرّضت وتتعرّض لها الجماعات الإثنية والمذهبية بهذا الزّخم، في دول الهلال السوري الخصيب. وللمرّة الأولى نجد الخطاب السياسي والشعبي في المناطق التي يغلب عليها الطابع «الكردي» أو السرياني أو العربي، يتداول فكرة «الإقليم». بل إنّ بعض الجماعات الأكثر تشدّداً يستخدم في خطابه مصطلح «الشعب الكردي» أو «الشعب السرياني» كردّ فعل طبيعي للطرح العروبي الوهمي.
ومَن يقرأ الصفحات الثقافية التي تغطّي الحراك القائم في سورية والعراق، سيكتشف العجيب من المباح، والغريب من المسكوت عنه. وما بين هذين النقيضين، تتبدّى أوهام اللغة. ولكن، من أكثر تجلّيات هذه الأوهام؛ الشِفرة الانعزالية، الطائفية منها والإثنية (العرقية)، ولا وعي الكراهية الذي تحوّل موقفاً يدخل في الاستعمال الثقافي والسياسي، وكأنّ صورة هويّة المثقف لا تتمركز ولا تتّضح ملامحها إلا عبر هذا التجنيس الانعزالي، أو تحميل التاريخ والصراعات الغاطسة في العقل حمولات انعزاليّة، وتسويق الأوهام من دون أيّة مراجعة. وهذا بطبيعة الحال، ظاهرة خطرة ومريبة، لأنّه يعني تعطيل العقل الثقافي وتجريفه، وتعطيل السؤال النقدي.
هذه الأوهام تحوّلت خندقاً لاحتواء جماعات معيّنة، ولترسيم حدود تأخذ في حسابها التجنيس الهويّاتي للبعض، وإخضاعه بالتالي لمواقف يختلط فيها السياسي والديني والطائفي والعرقي والثقافوي العنصري…!. لكنّ، الأخطر في كلّ هذا الأمر، أن يتلبّس البعض قناع “المثقف الانعزالي”، والذي نشاهده هذه الأيام كثيراً في قنواتنا الفضائية وفي الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي. وهذا “التلبّس” يستدعي معه استحضار جهاز من المصطلحات والمفاهيم والأحكام التي تعزل هذا، وتضع هذا في خانة المارق، مثلما تضع ذاك في زاوية الخارج عن الجماعة، الطائفية والعرقية.
وهكذا، في كلّ حالة تحوّل جيوسياسي يشهدها الهلال السوري الخصيب تبرز إلى الواجهة مصطلحات الهُويّة والأقلّيات والمواطنة، باعتبارها مرآةً ومعياراً ودليلاً لهذا التحوّل الحاصل في مجتمعنا. فالهُويّة الآن، ربما أكثر من أيّ وقت آخر، تظهر بوضوح على أنها أساس المشكل الكارثة – الويل، وأساس الحل أيضاً. خصوصاً أنّ الهُويّة التي تحتل الوعي والشعور والوجدان، لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، أو أنّه يمكن لأيّة جماعة أقلّية أن تصنع ما بدا لها من هُويّة، بل إنها نتاج وعي معرفي عميق ونتاج عقول حرة متحررة من العقد المغمسة كلها بالجهل والخوف. وهي بطريقة ما، موقف من الذات وتاريخها، مثلما هي موقف من الآخر والمجتمع الطبيعي الذي يتشارك معه المكان والزمان بتحدياته وتحفيزاته وإمكاناته كلها.
ممّا لا شك فيه، لم تترسّخ بعدُ في دول الهلال الخصيب الحديثة فكرة المواطنة على الصعيدين النظري والعملي. فهي تحتاج إلى جهد كبير على صعيد الدولة والحكم والسلطة والمعارضة على حدّ سواء، نظراً إلى غياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيها فكرة الدولة المدنيّة وسياقاتها!.
ففي غياب الهُويّة الواحدة للمجتمع، تبرز الخصوصيات الثقافية كهويّات دفاعيّة للمجموعات التي تخشى التهميش وطغيان الثقافات الأخرى داخل المجتمع (أي أنها ثقافات ومفاهيم خائفة وعدوانية، وبالتالي لن تكون بانية وسلامية وحضارية، غير مرتبطة بثوابت نواميس الحياة الطبيعية التي تفرضها ثقافة المكان – ثقافة الوطن بهذا المفهوم) تكون هوية المجتمع غير صحيحة، فلا تقوم بغير وظيفة الاستقواء ضد الآخر.
ومن الطبيعي هنا القول: إنّ المبالغة في الحديث عن الخصوصيات الثقافية تؤدّي، في كثير من الأحيان، إلى أن تكون أدوات بيد السلطة لمنع انطلاق الحرية والديمقراطية والتعدّدية والحديث عن حقوق الإنسان. أيضاً، هناك نقطة أساسية لمسألة خصوصية الثقافة. نعم، هناك خصوصية ثقافية للجماعات، لكنّها لا تلغي الخصوصية الأتمّ، وأعني؛ الهويّة الواحدة، بل تكون عنصر غنى وحافز ارتقاء. فهل تلغي الجداول النبع، وهي بالأساس اختلافات وخصوصيات شكلية لجوهر واحد؟.
وحين نقول الهويّة، فإنّما نتحدّث عن التماثل والاختلاف داخل المجتمع الواحد. والتماثل لا يعني التطابق، لأنّ ذلك يكون مستحيلاً في المحيط القومي والإنساني عموماً، بل إن هذا التنوع هو ظاهرة حيوية خلاقة لمجتمع متماسك شديد الفاعلية والنشاط والإنتاج الحضاري. إنّه يعني وجود نسبة لافتة من المشتركات البيئيّة والإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، أو حتى بين أفراد الجماعة الأقلّية الواحدة، أو عدد من الجماعات الأقلّيات. ولكن، يبقى أنّ هناك عناصر توحّد المجتمع، وتكوّن له شخصيّته وهويّته الواحدة التي تميّزه عن المجتمعات الأخرى، كالمجتمع الفرنسي، والمجتمع البريطاني. وهكذا الإيطالي، والإيراني، والخليجي، والمصري والمغاربي.
وبهذا المعنى، لا يمكن لأفراد والجماعات التعاطي مع موقع الهويّة كحالة مجرّدة عن البيئة الواحدة، وإنّما كعلاقات بَينيّة متداخلة، لا تتفاعل جدلياً، بل عبر وحدة حياة داخل المجتمع الواحد، تشكّل خريطة سوسيو ـــ ثقافية شاملة.
وبهذه الرؤية، تبرز الصورة الصارخة للمسألة الكردية، التي هي برأيي نموذجاً لقضية الجماعات عموماً في مجتمعنا في سورية الطبيعية ـ الهلال الخصيب. وهي مسألة لا ترتبط بالديمقراطية بقدر ما ترتبط بإدراك ثقافة المكان؛ وحيث يكتمل المكان في وعي المتّحدين عليه، يصبح هذا المكان الأتمّ هو الوطن، لأن الوطن كيان طبيعي مفروض بفعل الطبيعة الحكيمة الفاضلة الحاكمة التي لا ممانعة ممكنة لنواميسها. وإلا، هلك كل فرد أو جماعة تسير على غير نواميسها. وحيث تحتجب فيها حقوق الجماعات حين تتوارى حقوق الإنسان. ولسنا في حاجة إلى تأكيد أنّ التعدّدية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي أدوات ثقافة المواطنة. وثقافة المواطنة ليست على أساس الدين أو العنصر أو اللغة أو أي مظهر ناتج عن فعل الاجتماع البشري الذي يجري وفق قواعد ونواميس الطبيعة في اتحاد الكائن الحي مع عناصر المكان كلّها. ولأنّها حتى ولو كان ذلك، فإنّها تفسّر بمذهبية دينية وعنصرية. لكنّ المواطنة على أساس حقوق الإنسان. أيّ إعلان الحقوق الأساسية للجماعات عموماً، وما هو مسلوب منها خصوصاً. والدفاع عن هذه الحالات في المحاكم المختصة في دول الهلال السوري الخصيب، من جهة الحقوق المذكورة والتوعية في أوساط هذه الجماعات إلى وجود حقوق مجتمعية، في المقابل لفئات أخرى من الشعب واجب احترامها في مناطق انتشارها الكثيف.
إنّ الحوار هو أحد أساليب التعرّف إلى الحقائق داخل المجتمع، بعيداً من الاتهامات بين الجماعات المتحاورة. بمعنى، أنّه لم يعد ممكناً التغاضي عن الجماعات الإثنية والمذهبية وخصوصيّاتها، بذريعة أنّ ذلك يشكّل خطراً على الأمن القومي.
كوننا عرباً أو غير عرب.. كرداً أو سرياناً أو آشوريين أو أرمن أو أية تسمية أخرى ضمن لائحة مسمّيات مكوّنات سوريا الطبيعية – الهلال الخصيب، لا يقدّم ولا يؤخّر في كون هذه اللفظة أو تلك عربية أو غير عربية. يجب هنا أن ننتهي من المقاربات التي تتوكّأ على الخالات والعمّات ومصطلحات الأنساب وصِلات الرحم لننظر نظراً لغوياً وموضوعياً إلى الواقع. وهو ما شدّد عليه المفكر أنطون سعاده بالقول: «إنّ كلّ مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون بها ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية»، ويتابع سعاده: «إنّ اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أن الاجتماع أمر حادث باللغة».
——————————————
هذا المقال أعدّه الكاتب بالأصل وقدمه إلى: المركز الكردي السويدي للدراسات.