يفاجئك أحياناً مقدار السذاجة والسطحية التي يناقش بها بعضُ مثقفي الليبرالية العرب – حتى لو كان هذا البعض متمكناً في تخصصه الفلسفي أو غيره – الماركسيةَ أو شخص وأعمال الفيلسوف والمناضل الاجتماعي ماركس.
هنا بعض الملاحظات حول ما كتبه الباحث ومدرس الفلسفة اللبناني علي حرب حول ما سمّاه “تهافت مقولة ماركس حول نهاية الرأسمالية”، في مقالة خفيفة وقصيرة على صفحته تطرق فيها إلى مقالة أخرى بقلم الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي – ضمن نشاطها المتميز والمفيد لتعريف القارئ العربي بتطورات المشهد الثقافي العالمي المعاصر من وجهة نظرها الشخصية – استعرضت فيها كتاب عالم الاجتماع الإيطالي فرانشيسكو بولديزّوني، الذي يحمل عنواناً أقل تشنجاً من عنوان مقالة حرب ويقول “التبشير بنهاية الرأسمالية: مغامرات فكرية قاصرة منذ كارل ماركس”.
وها نحن بإزاء مقالتين خفيفتين حول كتاب لم يترجم بعد إلى العربية، تحولت إحداهما – مقالة حرب – من قراءة كتاب بولديزوني حول ما سمّاه “المغامرات الفكرية القاصرة والمبشرة بنهاية الرأسمالية بدءاً بماركس ومروراً بغيره كما يحوي العنوان، إلى محاولة جديدة يقوم بها علي حرب لدحض الماركسية و”تنبؤات” ماركس تحديدا. فهل تنبأ ماركس فعلاً وبهذا الشكل السطحي من المراهنة بنهاية الرأسمالية وقيام الاشتراكية؟
إنَّ مهمة دحض الماركسية ليست جديدة على أية حال، إذ يكاد تراث نقد الماركسية يشكل مكتبة بحد ذاتها قد تتفوق كمياً على تلك التي يمكن أن نطلق عليها “المكتبة الماركسية”، فهو نقد مستمر لا يكاد ينضب أو يتوقف وهو بحد ذاته ما يمنح هذه الفلسفة الكفاحية ميزتها الخاصة وحيويتها الفائقة دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية وإيجابية أغلب الدراسات النقدية التي تناولت الماركسية وحللتها وخطَّأتها من على يسارها أو يمينها وحتى من داخلها.
لست هنا في معرض الكتابة عن كتاب بولديزوني لأنني لم أقرأه بعد، وليس من الصحيح واللائق أن أكتب عن كتاب لم أقرأه، إنما سأتوقف عند بعض الملاحظات التي خص بها علي حرب ماركس والماركسية كأيديولوجيا – مع ما بين المفردتين من فارق هام لم يوله الكاتب أية أهمية – لتقديم مثال على ما دعوتُهُ “سذاجة وسطحية” بعض النقد الليبرالي العربي الموجه لماركس والأيديولوجية الماركسية والتي تمايز ماركس الفيلسوف والمناضل الاجتماعي عنها مبكراً بمقولته الشهيرة والتي ترجمت ورويت بصيغ متقاربة ونصها التقريبي “الشيء الوحيد الذي أعرفه -أنا كارل ماركس – هو أنني لستُ ماركسياً”:
يكتب علي حرب “كان ماركس قد تنبأ بنهاية الرأسمالية، فكانت النتيجة نهاية الاشتراكية وبقاء الرأسمالية”. وتنطوي هذه المقولة على جملة أغلاط ومصادرات منها أن الكاتب يقرن الاشتراكية التي انتهت وانهارت بماركس، في حين يعرف غالبية المطلعين الجديين على تراث ماركس المكتوب أنه لم يكتب سطراً واحداً عن ماهية وكيفية بناء المجتمع الاشتراكي كما تجسد في التجارب الروسية والصينية وغيرهما. وحتى العموميات التي كتبها حول ضرورة إقامة سلطة “دكتاتورية البروليتاريا” وتشريك وسائل الإنتاج كانت إما تدخل في إطار العموميات، أو ككتابات بنت مناسبتها أملتها معالجته اللحظية والشخصية لأخطاء ثورة كومونة باريس سنة 1871. فهذه المقولة حول دكتاتورية البروليتاريا مثلاً كانت تصوراً لما كان يجب أن يكون، ولم يقم به الكومونيون الباريسيون من هجوم على قصر فرساي مثلاً أو الاستيلاء على البنوك وحرمان البرجوازية وأحزابها من العمل السياسي حتى يكون شكل السلطة الجديدة الانتقالية عبارة عن “دكتاتورية للبروليتاريا المنتصرة” التي تمثل الغالبية السكانية؛ أي أن ماركس لم يقدم خطة برنامجية متكاملة وقابلة للتنفيذ والبناء الاشتراكي بل ترك ذلك لإبداعات الثوار في المستقبل. وبالتالي فهو لا يتحمل مسؤولية تحويل بعض نقده لكومونة باريس إلى شكل للحكم في روسيا التي تفتقر إلى وجود بروليتاري وصناعي معتبر ووازن، ومن تحول هذه المقولة “ديكتاتورية البروليتاريا” على يد ستالين والستالينيين الذين جاءوا بعده إلى صنم أيديولوجي “مقدس”! أي أنها مقولة تدخل في باب رد فعل أملته اللحظة والظرف التاريخي في الحرب الأهلية الفرنسية، وحتى حين تلقف لينين الفكرة النقدية المناسباتية التي طرحها ماركس وجعل منها ركيزة برنامجية لحزبه وتجربته السوفيتية لاحقاً فهي لم تخرج عن هذه الماهية نسبياً، ولكنها فرِّغت من محتواها الثوري الديموقراطي بعد سيطرة الحزب الأوحد الستاليني على الدولة السوفيتية الجديدة والتي كفت عن أن تكون سوفيتية إلاّ بالاسم.
وثانياً، يجعل علي حرب مقولة ماركس المذكورة بمثابة رهان بين حالتين: فإما انتهاء الرأسمالية الملحوق بقيام الاشتراكية، أو انتهاء وفشل الاشتراكية وبقاء الرأسمالية “بفعل مرونتها وحيويتها المتجددة والقدرة على تجديد أطرها ونماذجها، واجتراح الحلول وإيجاد المخارج لأزماتها” كما يقول، وهذا خلط ومصادرة على المكشوف كما يقال. فماركس في استشرافاته المستقبلية وضع البشرية أمام احتمالين: انتصار الاشتراكية وبناء المجتمع الجديد على أنقاض الرأسمالية أو استمرار الرأسمالية المؤدي الى البربرية والهمجية. فبماذا نصف العصر الذي نعيشه اليوم إن لم يكن ذروة الهمجية والبربرية الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية، وهل هذا هو الثمن الدموي لـ “حيوية الرأسمالية وقدرتها على اجتراح الحلول لأزماتها”؟! وسنوضح ذلك بعد قليل بالأمثلة.
إذا كان علي حرب ومن يؤيده يرى في انهيار الاتحاد السوفيتي فشلاً للاشتراكية الماركسية، فيمكن الرد – حتى ضمن حدود المنطق الشكلي غير الجدلي الذي لا يأخذ به الماركسيون – بأن بقاء تجربة الصين التي تسمي نفسها اشتراكية وغيرها من التجارب في بلدان أخرى وشروع مجتمعات أخرى في تجاربها الاشتراكية الخاصة كتجارب بلدان أميركا اللاتينية يخطِّئ هذا الحكم/المفهوم. والحال، وبعيداً عن المنطق الشكلي، نجد أن اشتراكيين ماركسيين كثر انتقدوا التجربتين الروسية والصينية وغيرهما منذ البداية، واعتبروا تلك التجارب في أحسن الأحوال نسختين متقاربتين من رأسمالية الدولة ذات التوجه الاشتراكي وليسا هما الاشتراكية المبتغاة.
ثم إن واقع الحال الطبقي والإنساني عالمياً، هو كما يشهد الجميع باستثناء منظري الرجعية الإمبريالية العالمية طبعا، ذروة البربرية والهمجية الرأسمالية والتي تجلت بأشنع صورها التي لم يشهدها تاريخ البشرية متمثلة بالحروب العدوانية الغربية الطاحنة ضد شعوب الجنوب والشرق والحروب الأهلية التي تفتعلها وتساعد على نشوبها الرأسمالية العالمية والحصارات والعقوبات الاقتصادية الغربية ضد الشعوب الطامحة إلى الاستقلال والكرامة ، هذه الحروب بنوعيها التي أزهقت أرواح مئات الملايين من البشر، وحيث تفشي العنصرية والظلامية والأوبئة الواسعة ورواج تجارة السلاح والمخدرات والبشر والمجاعات التي تقتل ملايين أخرى دورياً وأدت إلى تدمير الطبيعة واستنزافها بشكل إجرامي وهجرة وتهجير الملايين من الناس من أوطانهم فهي مشاهد بربرية وهمجية تتحمل مسؤوليتها وتتسبب بها الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية أولاً وأخيراً وهي وتعطي لاحتمالية ماركس واستشرافاته المستقبلية ذات الشقين صدقية ووثوقية أكبر من أي زمن مضى.
وفي معرض كلامه عن علل وأعطال الماركسية يكتب علي حرب: “العطل الأول أن الماركسية التي ادعت، في قراءتها وتحليلاتها، الانطلاق من العلم وحقائقه في فهم الظواهر وعقلنة الوقائع، قد نظرت إلى الانسان نظرة طوباوية بوصفه يحب العدالة، والحرية والحقيقة والسلام. وهذه نظرة ساذجة ومغرقة في التفاؤل يكذبها تاريخ الانسان بصراعاته وحروبه، بجشعه وتكالبه، بفظائعه وبربريته”. لا أحد ينكر أن مجتمع المساواة اللا طبقي الذي حلم به ودعا إليه الثوار قبل وبعد ماركس هو نوع من الطوباوية و”الحلم الذهبي للإنسانية”، ولكن طوباويته تاريخية وليست ميتافيزيقية وهي طوباوية قابلة للتحقيق عبر النكسات والهزائم غالباً وليست مدعاة لاعتبار الإنسان حيواناً مفترساً متوحشاً كما يقول علي حرب ضمنياً حيث “تاريخ الانسان بصراعاته وحروبه، بجشعه وتكالبه، بفظائعه وبربريته”. فهذا الحكم بحد ذاته ساذج ولا تاريخي لأنه يحكم على الإنسان كمخلوق شرير ومطبوع على الشر مسبقاً ولا يمكن إصلاحه، لأن هذا الشر متأصل فيه بشكل خارج عن الظروف والأحوال، أي أنه ” شر ميتافيزيقي” وهذا محض هراء يعرفه طلاب الفلسفة قبل غيرهم!
فإذا كانت هناك صفحات سوداء في تاريخ البشرية تتمثل بالحروب والتكالب والبربرية، وهذا لا ينكر فهناك صفحات أخرى مخالفة لذلك، بنت فيها البشرية أرقى الحضارات وأنجزت أعظم الإنجازات العلمية والأعمال الجمالية الخلابة وقدمت المجتمعات المتآخية لفترات تاريخية معروفة، وأن فظاعات الحروب لا يتحمل المسؤولية عليها كل الجنس البشري، بل الطرف الذي ارتكبها لأن القول بإدانة الإنسان العام، الإنسان ككل، البشرية جمعاء، بسبب هذه الفظائع يعني إدانة حتى البشر من ضحايا هذه الحروب الهمجية.
عطل آخر يسجله علي حرب على الماركسية وماركس بقوله “إن ماركس اعترض على الفلاسفة لكونهم انشغلوا بفهم العالم، فيما المطلوب تغييره. ولكن ماركس لم يكن مناضلاً في الساحات والميادين، بل فيلسوف يدرس ويحلل. وإذا كان له إسهامه في تغيير الواقع، فعبر نظرياته ومقولاته التي خلقت مجالها التداولي على ساحة الفكر العالمي، بقدر ما فتحت امكانات جديدة للفهم والتشخيص أو للعمل والتدبير. وفي هذا شاهد على أننا نغير العالم بقدر ما ننجح في فهم الواقع وتشخيص مشكلاته”. والتناقض هنا واضح فهو في الجزء الأول يقطع ماركس عن تجربته النضالية التي يجهلها كما يظهر واضحاً، وفي الجزء الثاني يعود ليجمع ماركس بالتغيير العملي والفعلي الذي نادى به عبر “نظرياته ومقولاته التي خلقت مجالها التداولي على ساحة الفكر العالمي، بقدر ما فتحت امكانات جديدة للفهم والتشخيص أو للعمل والتدبير”. والواقع فماركس لم يكن مثقفاً نظرياً وفيلسوفاً يعيش في برج عاجي بل كان فيلسوفاً ومناضلاً اجتماعياً صلباً قضى عمره مشرداً ومطروداً من الدول الرأسمالية في عصره بعد أن صودرت ممتلكاته وممتلكات زوجته من قبل تلك الحكومات البرجوازية كما يوثق بول لافارج وأسس هو ورفيقه إنجلز وآخرون أول حزبين شيوعيين عالميين في العالم هما “الأممية الأولى – جمعية الشغيلة العالمية” بين (1864-1876) وهي السنوات التي كان يعمل فيها على كتابه الأهم “رأس المال” والأممية الثانية بين (1889-1916)، وظلت فعالة حتى بعد وفاته سنة 1883. وقد ساهم مع إنجلز في العديد من الأعمال والممارسات الثورية مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر التوجيه والدعم والترويج وبما يسمح له وضعه كلاجئ مطارد ومرفوض الإقامة وممنوع من التنقل والسفر من قبل غالبية الدول الرأسمالية، وكان يعاني هو وأفراد عائلته الأمراض والفاقة وقد مات أربعة من أطفاله السبعة بسبب الفقر والأمراض وسوء التغذية. فإذا لم يكن هذا الكفاح السياسي والحزبي والثقافي نوعاً من النضال العملي بهدف تغيير العالم، فماذا يمكن ان يكون إذن؟