قراءة فكر أنطون سعاده من منظور فلسفي ومن زاوية الدراسات فن، ولكنها ليست فن الممكن، مادامت تتحرك ضمن فضاء الخيال وتتغذى على السؤال ودهشته، فكل قراءة هي جواب على تساؤل ما، وبهذا المعنى هي تفكير إشكالي يتأسس على الهدم والبناء، تفكير لا يروم إعادة استنساخ الواقع كما هو، بل إبداع جديد للواقع.
من هنا ستبدو القراءة مسكونة بتساؤلات جوهرية: كيف يمكن مواجهة واقع وطننا في جانبه المأساوي؟ وهل من الحكمة أن يتنازل الإنسان عن أحلامه وعن هويته ويرضخ لشهوة الأصنام وتناقضات الواقع التي حطمها سعاده؟ وهل الهروب من الواقع إلى الخيال والتحرر من “اللوغس” وضوابطه المنطقية والسفر في عوالم “الميثوس” جنون أم حكمة؟
أسّس سعاده عبر استشهاده حالةً من الحضور المعرفيّ تمثّلت أوّلاً بإنتاج معرفة “مزعجة” فكّكت ما وراء الوجه البشريّ المتوحّش الاستبدادي/ الاستعماريّ، ومكّنته من أداء دور سوسيولوجيّ العموم، أي السوسيولوجيّ الّذي ينتج معرفة عن الناس/ المجتمع.
إنّ لغة سعاده لحظة استشهاده ليست أبداً بتلك اللغة الصعبة، بل إنّها لغة الناس الّتي حملت هموم التغيير، كما حملت وعياً بواقعهم اليوميّ ومعاناتهم التراكميّة، وهو ما كشفه لمحاميه حميد فرنجية فيما دفعه لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي: “بعد درس أوليّ منظّم قررت أنّ فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها”.
لهذا أرى أن محاولة الإمساك بأجوبة لهذه التساؤلات ستدفعنا إلى النظر في شكل قراءة راهنية سعاده أولًا ثم التوغل في مضمونها.
ففي الذكرى 73 لاستشهاده، كيف يمكن لنا أن نفهم رسالة المعلم أنطون سعاده؟
هل هي مغامرة العقل الثانية التي يجب أن نتبعها لقراءة وفهم رسالته بعيداً من الأساطير وهو القائل: «ما جئتكم بالمعجزات »؟
لمعرفة المستقبل كما يستشرف سعاده يجب أن تكون قراءتنا عقلية لأنّ «عظمة نصّ أنطون سعاده ليست في ما يقوله حرفياً، بل في ما يمكن أن يقوله الآن وسيقوله في المستقبل» يقول الشاعر أدونيس.
بهذه الرؤية فإنّ القراءة العقلية المنفتحة لتعاليم المعلم ستجعل النص غنيّاً وخلاقّاً ومفتوحاً، خصوصاً أنّ هذا النص لم يأتِ بهدف تعطيل العقل الذي اعتبره سعاده أنه الشرع الأعلى للإنسان، فلماذا يعمل الكثير من القوميين على تعطيل هذا العقل عبر التعامل مع النص وكأنه مقدّس؟
بديهي أنّ ثمة إشكاليات كثيرة في فهم رسالة المعلم سعاده، وأنا أقصد بالمعلم تحديداً بعيداً من ترداد مصطلح ولقب الزعيم الذي أصبح بديهياً باعتباره المؤسس وواضع مبادئ النهضة القومية الاجتماعية. ولكن قبل الدخول في قراءة وفهم ظاهرة إطلاقه حركة العقل في بلادنا، نرى أنفسنا أمام أسئلة بُنيوية لا يمكننا كقوميين الهروب منها في مواجهة الراهن.
أهمّ هذه الأسئلة هي: هل يبدو فكر سعاده وهو النهضوي علمياً، يتسع لكلّ فئات مجتمعنا وعابراً للانتماءات المختلفة؟ هل هو ملائم لهذا التبدّل الهائل في الأفكار والقيم والاتجاهات في الألفية الثالثة؟ هل نحن في حاجة إلى إعادة استكشافه كمفكر وصاحب نظرية متكاملة؟
ومن الأسئلة الراهنة: هل أصبح المسرح السوري كله هذه المرة ساحة لعقيدته في عصر العولمة؟ ثم كيف نقرأ فلسفة سعاده قراءة عصرية؟ كيف نجعله متوافقاً مع المستجدات والمتغيّرات؟
في ضوء هذه الأسئلة كيف نفهم ما قاله سعاده: إنّ المبادئ ليست قوالب نهائية للعقل وليست أصناماً جامدة، بل هي قواعد لانطلاق الفكر.
قدّم مفكرو الحزب السوري القومي الاجتماعي، دراسات وأبحاثاً ووجهات نظر تقرأ فكر سعاده من جوانب متعدّدة، من ضمنها فكرة الزعامة وتأثيرها في بناء المؤسسات حتى الشهادة «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت»، جملة اختصرت دوره كمعلم حتى في الشهادة. ونحن هنا ملزمون بِاتباع تعاليمه لأنها مرتبطة بالحقائق العلمية، والحقائق كما هو معلوم: وجود ومعرفة بها.
لا شك في أنّ الأسئلة هي مجسّات المعرفة، وتجليات الفكر الفعّال، وهي مؤشرات عبقرية المعلم وخلقه الذي نحن في صدده، ودائماً ما كان العباقرة يطرحون أسئلة مهمة ومنذ الطفولة. فالأسئلة مفاتيح للإضاءة، ولا يطرحها غير العقل الفعّال والنظام المصمّم على العمل، وعلى البحث عن العلل والأسباب والعقبات والظواهر التي تعيشها بلادنا، لتطوير الحياة والفكر من دون المسّ بالثوابت، لأنّ التطوّر هو الناموس العام للحياة الإنسانية. لكن هذا التطوّر، من حيث هو حركة إنسانية إلى أمام، يفترض أيضاً قوى روحية، معرفية وقيمية، وقوى مادية، طبيعية ومنتجة تحققه كما يرى الأمين هنري حاماتي.
ولأنّ المعرفة خارج العقل مثل التلاوة التي تلامس العواطف، فإنّ قراءة سعاده تنفذ إلى القلب والعقل معاً. ولأنّ سعاده هو صاحب قضية وجودنا هذه، فهو ابن المدرسة العلمية: يؤسّس عقليتنا المجتمعية على الحقائق العلمية، مثلما يقيم مذهبه الاجتماعي السياسي على هذه الحقائق.
منهج التفكير القومي الاجتماعي، يتمثل في أسلوب التعامل مع الحقائق العلمية، لفهم أحوال الاجتماع البشري والتصدّي لقضاياه، هو منهج يقوم على قانون العوامل والحالات الذي يعتبره سعاده القانون الأساسي للاجتماع البشري، ومنهجاً شمولياً يُلزِم استقراء كلّ العوامل والنواميس الممكن استطلاعها واستعمالها، إضافة إلى كونه منهجاً يقدّم أرحب مدى لإطلاق العقل في القضية، ومنهجاً يرى التطوّر حاصل تفاعل القوى المادية والروحية.
كما في العديد من المجتمعات الغربية فإنّ سعاده ينطلق من ملاحظة أنّ دراسة المجتمعات أيّ علم الاجتماع، أخذت حيّزاً كبيراً في الغرب، لكنها ظلت مهملة في بلادنا، لذلك عمد إلى البحث في هذا المضمار بالذات لأهميته في توضيح نشوء الهوية القومية وتطورّها، كما تقول الدكتورة صفية سعاده.
إنّ التمكن والتعامل مع فكر سعاده بصيغة الماضي في ضوء التحديات الراهنة هو كمن يحاول الحصول على معلومات من مسافر قادم من بلد غريب وبعيد، بلد يختلف كثيراً في تحوّلاته ونظرته عمّا لدينا. ولذلك يتحتم علينا بذل الجهد إذا أردنا حقاً فهم رسالة سعاده، لكن ليس كمن يحملها ذلك المسافر، بل بصيغة الراهن وذلك لسبب وحيد وهو أنّ نصوص سعاده هي مصدر غني لفهم التحوّلات التي تجري في الهلال السوري الخصيب.
ندرك تماماً أنّ أيّ قراءة لفهم فلسفته يجب أن تبقى مصانة إلى درجة «التقديس»، طالما تنساق في تطلعاتها ضمن إطار البحث عن أفق فكري يحتفي بعقل الإنسان، لا أن يستعبدُه.
مهمة القوميين في هذه المرحلة هي إطلاق حركة العقل كما أرادها سعاده أولاً، ومن ثم تحليل وإسقاط فكره الغني على الواقع بتحوّلاته الخطيرة على وحدة أرضنا وشعبنا وحمايتهما، وبذلك نكون أوفياء لا لمنهج سعاده فحسب، بل لجوهر رسالته ولما جاء من أجله ورحل باكراً.
هل يصلح فكر سعاده لتطوير مستقبل بلادنا؟ نعم، ولكن علينا بالمعرفة وقراءة كافة الأفكار والفلسفات لا البقاء في الدائرة الحزبية المغلقة، بل جعل الدائرة الحزبية مركز انطلاق لفهم العالم على ضوء فهمنا للتعاليم.