لن أجيب عن هذا السؤال من خلال مقاربة فلسفية وإنما من خلال مقاربة تجريبية تعتمد الوقائع التاريخية والأنثروبولوجية. والأركيولوجية. ولعل خير ما نبدأ به استقصاءنا هذا هو صياغة تعريف للدين وتعريف للإنسان، لأنه بدون تعريف الظاهرة التي نعمل على دراستها قد نجد أنفسنا نتابع جوانب ثانوية منها على حساب جوانبها الرئيسية. لذلك أقول ربما يتناسب مع أغراض هذه الدراسة المختصرة ما يلي:
الدين هو تصور للوجود برمته على أنه يتكون من مجالين، مجال قدسي مفارق للطبيعة غير منظور، ومجال طبيعائي منظور يشتمل على كل الظواهر المادية والحية. يجمع هذين المجالين على استقلالهما قوة تصدر عن المجال القدسي وتنبث في المجال الطبيعائي لتسبب فيه كل حركة وحياة. وتتجلى هذه القوة للوعي الإنساني من خلال خبرة انفعالية غير عقلية تعطيه إحساساً بالخوف والانجذاب في آن معاً. وينجم عن استجابة الإنسان لهذه الخبرة صياغات رمزية تحتوي العالم في شبكة من التفسيرات تجعله أقل غموضاً هي الأساطير، وسلسلة من الأفعال تجعله أقل خطراً هي الطقوس.
أما عن الإنسان فإنه ينتمي إلى فصيلة من الأحياء ندعوها بالرئيسيات / Primate، وهي تضم مجموعة من العائلات القردية أهمها الشمبانزي والغوريلا. وكان عالم الأحياء البريطاني داروين صاحب نظرية الانتقاء الطبيعي في التطور، أول من قال في أواسط القرن التاسع عشر بالأصل القردي للإنسان واستقلاله عن المملكة الحيوانية نتيجة عملية تطور طبيعي، ونظراً للشبه الذي لاحظه بين سلوك الشمبانزي وسلوك الإنسان فقد افترض بحدسه المبدع أن عائلة الإنسان قد تطورت عن عائلة الشمبانزي عبر حلقة مفقودة وسيطة بينهما توقع العثور عليها في مستقبل قريب. ولكننا صرنا الآن نعرف من خلال مكتشفات علم الأنثروبولوجيا البشرية، أن الإنسان لم يتطور عن الشمبانزي، ولكن الاثنين ينتميان إلى سلف واحد نجم عنه خطان تطوريان، قاد أحدهما إلى ظهور الشمبانزي والآخر إلى ظهور كائنات قردية تبدي سلوكاً إنسانياً دعاها علماء الأنثروبولوجيا هومينويد / Hominoid أي أشباه البشر، أو الأناسي كما تترجم الكلمة إلى العربية. أي أن الحلقة المفقودة التي قال بها داروين قد وُجدت ولكنها ليست حلقة واحدة وإنما عدة حلقات قادت كل واحدة منها إلى الأخرى وصولاً إلى الشكل والسلوك الإنساني.
ولكن ما هو السلوك الإنساني أو شبه الإنساني الذي بدا من هذه الكائنات القردية؟ إن ما يدفعنا إلى إطلاق صفة الشبيه بالإنسان على كائنٍ مازال في هيئة الحيوان هو صناعته للأدوات واستخدامه لها، لأن هذا النشاط ينقله من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة / Culture، والسلوك الثقافي هو كل سلوك لا ينجم عن الغرائز أو الدوافع الطبيعية وإنما عن تفكير وتمييز عقلي. وقد عثر علماء الأنثروبولوجيا البشرية من خلال تنقيباتهم في أفريقيا على مقدمات للسلوك وللهيئة الإنسانية، تبدت في هياكل عظمية وأدوات حجرية صنعها واستخدمها أصحاب تلك الهياكل، وهم ينتمون إلى ثلاث حلقات تطورية ظهرت تباعاً وكل واحدة منها تبدي قرباً أكثر من الإنسان سواء في حجم الدماغ أم في الهيئة والسلوك. وقد أطلق عليها العلماء أسماء مستمدة من اللغة اليونانية القديمة أو اللاتينية، وهي:
1– أسترالوبيثيكوس / Australopithecus. وأقدم هياكله العظيمة ترجع إلى بدايات المليون الثالث قبل الميلاد. ولكنه لم يصنع الأدوات حتى أواسط المليون الثالث.
2– هومو هابيليس / Homo Habilis. وأقدم هياكله العظمية ترجع إلى بداية المليون الثاني قبل الميلاد، وهو يتمتع بدماغ أكبر من سابقه وصنع أدواتاً حجرية أكثر إتقاناً منه.
3– هومو إريكتوس / Homo Erictus. وتعود أقدم آثاره إلى نحو مليون ونصف قبل الميلاد، وهيئته أكثر انتصاباً من سابقه ويتمتع بدماغ أكبر وصنع أدوات أكثر اتقاناً. وقد خرج هذا الإنسي من إفريقيا، وانتشر في أوربا وآسيا، ومن آثاره في سورية الهيكل المعروف بإنسان يبرود، وفي الصين الهيكل المعروف بإنسان بكين.
بعد ذلك يختفي الأناسي ويظهر إنسان النياندرتال ذو الهيئة الإنسانية الكاملة ولكن مع جبهة بارزة وفك عريض، وأقدم آثاره تعود إلى نحو 200.000 سنة قبل الميلاد، وهو يتمتع بدماغ يماثل في حجمه تقريباً دماغ الإنسان العاقل الذي جاء بعده. وقد انتشر النياندرتال في أوربا وآسيا وتعاصر مع الإنسان العاقل لفترة قصيرة ثم اختفت آثاره، نهائياً، ولم يبق من أحفاد الأناسي سوى الإنسان العاقل الذي ظهر قبل نحو 50.000 سنة قبل الميلاد، فعمر الأرض ووضع أسس حضارتنا القائمة اليوم.
بعد هذا التعريف للدين وللإنسان يأتي السؤال المهم وهو: متى اتصل الدين بالإنسان وفي أي مرحلة من مراحل تطوره؟
لقد جاءت صناعة الأدوات الحجرية الأولى نتيجة لتحقيق فكر منتجها مستوى من التجريد ساعده على ذلك، ومن المرجح أن هذا المستوى من التجريد قد ساعده أيضاً على ابتكار لغة بدائية، وعلى تكوين أفكار دينية أولى من خلال استجابته لعالم خطر مليء بالأسرار والغوامض. إلا أننا لا نستطيع العثور على شواهد تؤيد هذه الفرضية حتى منتصف عصر الهومو إريكتوس نحو عام 900.000 قبل الميلاد، فقد تم في أواخر تسعينيات القرن العشرين اكتشاف موقع في إسبانيا، عاش فيه هذا الإنسي وكان يدفن موتاه بطريقة وصفها المنقبون بأنها تدل على أنه كان يُعدهم للانتقال إلى عالم آخر([1]). ونحن هنا أمام عتبة الدين. على أن الدلائل على دين الهومو إريكتوس تبقى مبعثرة وغير واضحة تماماً، ولذلك يتوجب علينا أن ننتظر عصر النياندرتال لكي نتخطى العتبة ونلج إلى البنية السامقة للدين.
لم يترك لنا إنسان النياندرتال شواهد على إنتاجه لأي نوع من أنواع الفنون يمكنها أن تدلنا على وسطه الفكري، ولكنه ترك لنا بقايا دفن متشابهة في جميع مقابره، تنم عن إيمانه بوجود مجال غيبي غير منظور، وبانقسام الإنسان إلى جسد مادي وروح أثيرية تلتحق بذلك المجال الغيبي بعد الموت. كما ترك لنا في بعض الكهوف التي لعبت على ما يبدو دور المقامات الدينية، ترتيباً مقصوداً لجماجم الدب (الذي كان أقوى الحيوانات في ذلك العصر الجليدي)، وبعض عظامه، يدل على أن راس الدب كان موضوعاً لاختيار روحي، وأنه كان بمثابة شارة مقدسة تُعبر عن حضور القوة غير المنظورة السارية في العالم، وهي قوة غفلة غير مشخصة أقرب في سلوكها إلى مفهوم الطاقة في العلم الحديث، وأبعد ما تكون عن مفهوم الإله. لذلك نستطيع الحديث عن دين نياندرتالي بدون آلهة نياندرتالية، لأنه كان على الآلهة أن تنتظر طويلاً قبل أن تتصدر تماثيلها معابد الإنسان وتغدو في مركز حياته الروحية، وقبل تمثال الإله الذي يعقد صلة بين العابد وإلهه الخفي، قام الإنسان بوضع شارة مقدسة مستمدة من وسطه الطبيعي في مقاماته البدائية لتلعب الدور نفسه.
يمكن تلخيص الفرق بين الإله والقوة السارية في الطبيعة في أن الإله عبارة عن كائن فوق طبيعائي يتمتع بشخصية وله إرادة وأهواء ورغبات، وسيرة حياة ترويها الأساطير، وعلاقة البشر به هي علاقة استمالة واسترضاء من قبل البشر وعطفٍ ومنةٍ وعطاء من قبل الإله. أما القوة السارية فلا تتمتع بشخصية وتؤثر في المجال الطبيعي بشكل أوتوماتيكي دون التزام بالمعايير الأخلاقية، فهي تفعل الخير مثلما تفعل الشر، مثل الطاقة الكهرومغناطيسية التي تضيء المصباح الكهربائي أو تحدث صاعقة مدمرة، وعلاقة البشر بها هي علاقة مؤثر بمتأثر، ويستطيع توجيهها لمصلحته أو رد أذاها عنه من خلال طقوس ذات طبيعة سحرية.
ولكي أوضح الفرق بين طقوس الصلاة التي يستعطف الإنسان من خلالها الآلهة والطقوس السحرية التي تؤثر في القوة، أسوق المثال التالي عن ظاهرة سقوط المطر. ففي المعتقدات التي تؤمن بالآلهة المشخصة هنالك إله موكل بشؤون المطر يتوجه إليه عباده لكي يمن عليهم بمطره إذا تأخر عن ذلك. أما في المعتقدات البدائية التي تخلو من الآلهة، فإن ساحر القبيلة الذي يدعى في الأنثروبولوجيا الحديثة بصانع المطر / Rain maker يقود طقوساً تتضمن حركات وإيقاعات وأصوات بينها تقليد صوت هطول المطر بأداة خاصة، من شأنها دفع القوة السارية إلى إنزال المطر.
هذا التفسير لعقائد العصر الحجري يجد سنداً له من عقائد الشعوب البدائية الحديثة التي بقيت على هامش خط التطور الرئيسي للحضارة، وحافظت على الكثير من خصائص العصور الحجرية حتى عصر الاستعمار الأوروبي، عندما احتك بها ودرسها المبشرون المسيحيون الأوائل ثم علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، ولا أستطيع في هذا المجال الضيق سوى إيراد بعضٍ من الأمثلة عن مضامينها.
يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، وهو واحد من أهم دارسي ثقافة سكان استراليا الأصليين في كتابه «الأشكال الأولية للخبرة الدينية» الذي عكف فيه على دراسة وتحليل المعتقدات والطقوس الطوطمية لدى الاستراليين ما يلي:
إن ما يقدسه الاسترالي بالدرجة الأولى هو قوة غفلة غير مشخصة تسري في مظاهر الطبيعة والكون، وقد عبَّر عن هذه القوة من خلال رمز مادي مستمد من عالم الحيوان هو الطوطم الذي تتخذه كل عشيرة رمزاً لها وتتسمى باسمه، مثل عشيرة الكانجر أو الأفعى أو النسر، وما إلى ذلك من الحيوانات المعروفة في استراليا. وقد رأى الاسترالي في هذه القوة نوعاً من الطاقة التي تمارس فعاليتها من خلال سيالتها في الموضوعات المادية، وهو يخشى من التعامل معها بطريقة مخالفة للقواعد الطقسية كيلا تصيبه بصدمة تشبه ما نعرفه عن الصدمة الكهربائية اليوم، وفي أمريكا الشمالية التي يسود فيها المبدأ الطوطمي أيضاً، تدور معتقدات الهنود الحمر حول قوة شمولية كامنة وراء كل التحولات الجارية في العالم المادي والمجتمع الإنساني، وهم في كل منطقة يطلقون عليها اسماً معيناً ترجمه الأوربيون إلى مصطلح «الروح الكبرى»، وهو مصطلح غير دقيق لأن مفهوم الروح يتضمن مفهوم الشخصية، ولكن الأوروبيين كانوا يصفون ما يرونه من خلال ما يعرفونه. وإضافة إلى تجلياتها على المستوى الطبيعي في حركة الأجرام السماوية، ودورة الفصول وخصب الأرض وما لا يحصى من التجليات الأخرى، فإن لها تجليات أخرى على المستوى الاجتماعي، فعن طريقها يتلقى القادة في أحلامهم منها عوناً على اتخاذ قراراتهم، وهي مصدر إلهام لكل أنواع الفنون. وعلى الرغم من أن احتكاك الهنود الحمر بالثقافة الأوربية قد أدى إلى ظهور آلهة مشخصة في معتقداتهم (وإن على نطاق ضيق) إلا أن هذه الآلهة بقيت تستمد قوتها وفعاليتها من تلك القوة الشمولية التي هي أقرب إلى ساحٍ طاقي دينامي ينطوي على كل الممكنات وينتج كل الأشياء([2]).
ومن جزر المحيط الهادي ميلانيزيا وبولونيزيا، جاءنا مصطلح المانا الذي يستخدمه الانثروبولوجيون في تسمية القوة القدسية، يقول المبشر البريطاني كوردنغتون في كتابه عن ثقافة ميلانيزيا ما يلي:
هنالك اعتقاد لدى الميلانيزيين بوجود قوة حيادية أخلاقياً وغير مادية يطلقون عليها اسم مانا، وهذه القوة تتجلى بشكل مادي وتحدث آثاراً مادية، وتقوم ديانتهم على طريقة التعامل مع هذه القوة وتوجيهها طقسياً من أجل الإفادة من آثارها، غير أننا يجب أن نحذر من النظر إلى المانا باعتبارها شخصية إلهية عليا، لأن فكرة الإله الأعلى غريبة عن العقل الميلانيزي([3]).
نكتفي بهذا القدر من الأمثلة المستمدة من الثقافات البدائية ونعود إلى العصور الحجرية، فبعد عصر النياندرتال جاء عصر الإنسان العاقل الذي تميز بنهضة جمالية غير مسبوقة، تمثلت في رسوم الكهوف الجدارية والمنحوتات الصغيرة على شكل دمى والمصنوعات اليدوية وقطع الزينة. وسوف نركز فيما يلي على رسوم الكهوف. فقد تم الكشف حتى الآن عن مئة كهف في أوربا أشهرها كهف ألتاميرا وكهف لاسكو، وكهف الأخوة الثلاثة، مليئة بالرسوم الجدارية التي تتخذ من الحيوان موضوعاً رئيسياً لها. وما يلفت النظر في هذه الكهوف أنها لم تستعمل للسكن أو لأي غرض دنيوي، ولم يوجد فيها سوى أقلام المغرة التي كانت تستخدم في الرسم. ومعظمها يقع على مسافة بعيدة عن المدخل ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر دهليز طويل وضيق ومعتم، قد يمتد في بعض الحالات إلى أكثر من 500م. وهذا يعني أن إنسان ذلك العصر لم يكن يلج إلى هذه الكهوف ليستمتع بمشهد الرسوم وإنما لممارسة طقوس لا ندري كنهها، تتوسل إلى الطاقة الكونية من خلال رسوم حيوانية تُمثل بشكل رئيسي الثور البري والبيسون والحصان والوعل، ملونة بالأحمر والأسود والأصفر، وكلها إما في وضعية الانطلاق أو التأهب للانطلاق. وقد أظهر الفنانون في تنفيذها قدراً من الحيوية وقوة التعبير قل مثيلها في أي عصر من العصور. ومنذ التأكد من انتماء هذه الرسوم إلى عصر الإنسان العاقل تعددت النظريات في تفسيرها، ولكنني أرى أن مفتاح فهمنا لوظيفتها هو أن ننظر إلى تلك الهيئات لا باعتبارها تنتمي إلى فضائل معينة، وإنما باعتبارها مفردات في لغة رمزية، ورداءً لقوة ما ورائية وجدت تعبيرها الأمثل في قوة الحيوان على المستوى الطبيعي.
مع نهايات العصر الحجري القديم تتوقف كل أنواع فنون الإنسان العاقل في أوربا فيما يبدو وكأنه انحطاط شامل لثقافة ذلك العصر، ويأخذ الثقل الحضاري بالتحول إلى منطقة شرقي المتوسط. فمع بدايات الألف التاسع قبل الميلاد، شهدت منطقة الهلال الخصيب، واستطالاتها الشمالية في جنوب آسيا الصغرى، جملة من التحولات الجذرية في تحصيل المعاش أحدثت أثراً عميقاً في مجرى التاريخ الإنساني، ووضعت الحضارة الإنسانية على السكة التي أوصلتها إلى العصور الحديثة. وقد دُعيت هذه التحولات بالثورة النيوليتية أي ثورة العصر الحجري الحديث، فخلال هذا العصر خرج الإنسان الصياد من الكهف وتوقف عن التجوال بحثاً عن الغذاء، واستقر في الأرض وبنى بيته بيده في القرى الأولى، واخذ بإنتاج الغذاء بدلاً من جمعه، وعمل على تدجين الحيوان بدلاً من صيده. وقد ترك لنا إنسان ذلك العصر شواهد على وسطه الفكري وحياته الدينية تدل على استمرارية عقيدة المجال القدسي والقوة السارية التي وجدناها في العصر الحجري القديم. وسأركز فيما يلي على الشواهد التي وجدها المنقبون في موقعين نيوليتيين هما تل المريبط في حوض الفرات الأوسط، وشتال حيول، في سهل قونية بجنوب الأناضول.
فمنذ بدايات العصر النيوليتي في تل المريبط، وهو من المواقع النيوليتية الرائدة، تتوفر لدينا الدلائل على استخدام رأس الثور البري كشارة مقدسة. فإلى جانب بيوت السكن تم اكتشاف بيوت أخرى غير مخصصة للسكن تتميز بديكور داخلي خاص يدل على أنها استُخدمت كمقامات دينية، فقد رُفعت على طول جدرانها مصاطب طينية عُرض عليها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران ذات القرون الضخمة، وتُشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف مغروسة إلى جانبها تكويناً معروضاً للناظرين دفعة واحدة. إن هذا الترتيب المقصود الذي لا ينبئ عن استعمالية معينة، والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولا شك مدلولات إيديولوجية معينة، فنحن هنا أمام البدايات الأولى للمعبد وطقوس كان موضوعها رأس الثور، الذي صار مركزاً لإجماع روحي واختيار إيديولوجي يتخطى شكله الطبيعي ليغدو رمزاً للقوة السارية في الطبيعة([4]).
أما في شتال حيوك فقد تحول المقام الديني البسيط خلال الألف السابع إلى معبد حقيقي، فهنا نجد رؤوس الثيران المنحوتة من مادة الجص معلقة على جدار المعبد، مع المبالغة في حجم القرون التي تعطي للناظر إليها إحساساً بالقوة والعظمة، وأمام الجدار عدة نماذج من رمز البوكرانيا الذي يتكون من مصطبة طينية واطئة ينبثق من طرفيها قرنان ضخمان، الأمر الذي يدل على استمرارية رأس الثور كمستودع للقوة الماورائية خلال عصر النيوليت. وبعد انقضاء نحو ألفي سنة على نهاية العصر الحجري الحديث والدخول في عصر النحاس، نأتي إلى عصر الآلهة عندما تحولت القوة إلى إله ذي قوة، ولكن قرون الثور بقيت رمزاً للألوهة ومن خلالها نستطيع التعرف على الإله بين الشخصيات المرسومة أو المنحوتة، فنجده يرتدي غطاء رأس ينبثق من جانبيه قرنان.
أما عن التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي قادت إلى تشخيص الألوهة فلا نستطيع التحدث عنها في هذا المجال الضيق أو إيفاءها حقها بأي أسلوب موجز([5]).
كل هذا يقودنا إلى القول بأن الدين قد اتصل بالإنسان في سياق استقلاله عن المملكة الحيوانية، ثم رافقه عبر مراحل تطوره كقوة دافعة لا كابحة. فالإيقاع الموسيقي الأول كان دينياً، وكذلك القصيدة الأولى والأغنية الأولى والرقصة الأولى، والحكاية الأولى. وفي عصر المدنيات الكبرى في الهلال الخصيب ووادي النيل، كانت المعابد بمثابة دور للعلم ومراصد لمراقبة الأفلاك في السماء، وكان الكهان هم الشريحة المثقفة التي تنقل الميراث الحضاري من جيل إلى جيل.
ولكن هل نحن بحاجة إلى الدين؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعرف ما هي الحاجة التي يلبيها الدين، أي ما هو أصله وما بواعثه؟
هنالك نظريات عديدة تصدت للإجابة عن هذا السؤال، وأكثرها رواجاً هي النظرية العاطفية التي تقول بأن الدين هو نتاج لعاطفتين رئيسيتين عند الإنسان هما عاطفة الخوف من الموت وعاطفة الرغبة في الخلود بعد الممات، وأن هاتين العاطفتين تدفعانه إلى الدين الذي يقدم له العزاء بخلود الروح في عقائد التقمص، أو خلود الجسد بعد أن تعود الروح لتتحد به في اليوم الأخير في العقائد الأخرى. فإلى أي حد قد أفلحت هذه النظرية في تقديم تفسير شامل لأصل الظاهرة الدينية؟
إن أي نظرية تُطرح لتفسير عدد من الظواهر المتكررة والمتشابهة، تبقى مجدية حتى يثبت عدم مقدرتها على تفسير بعض الظواهر الداخلة في مجالها، وبما أن تاريخ الدين يزودنا بأمثله عن معتقدات دينية لا أثر فيها لفكرة خلود الروح الفردية، أو لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرية العاطفية تتهاوى.
ففي المعتقدات اليونانية والرافدينية والسورية القديمة، هنالك حياة أخرى ولكنها ليست تلك الحياة التي يتطلع إليها الإنسان، بل هي أسوأ من كل كوابيسه التي عاناها في الحياة الأولى. فالموتى يذهبون إلى عالم أسفل، دون تمييز بين أمير أو فقير أو بين صالح وطالح، وهناك يعيشون إلى الأبد في عتمة وظلام، نقرأ هذا الوصف للعالم الأسفل في نص بابلي بعنوان هبوط الإلهة عشتار إلى العالم الأسفل:
«إلى الأرض التي لا عودة منها اتجهت عشتار بأفكارها، إلى دار الظلام ومسكن الربة إركالا، إلى الدار التي لا يرجع منها داخل إليها، إلى المكان الذي لا يرى سكانه نوراً، حيث الغبار طعامهم والتراب معاشهم، يسبحون في الظلام وعليهم أجنحة من ريش مثل الطيور تنقلهم في أرجاء مسكنهم الذي علا الغبار والصدأ أبوابه ومزاليجه». وفي الميثولوجيا اليونانية يشرب النازلون إلى العالم الأسفل من نبع النسيان فينسون ما كانوا عليه في الحياة الأولى ثم يقضون أيامهم مثل ظلال بلا هوية أو ذاكرة.
وفي كتاب التوراة نجد انعكاساً لنظرة ثقافة سورية ووادي الرافدين من مسألة الموت. فعالم الموتى هو عالم سفلي مظلم يدعى شيئول، أو الهاوية في الترجمات العربية، تذهب إليه أرواح البشر دون تمييز، وها هو الرجل الصالح أيوب الذي يصفه مطلع سفر أيوب بأنه رجل كامل ومستقيم يحيد عن الشر، يصف العالم الأسفل الذي يتوقع الهبوط إليه بالكلمات التالية: «وكنت كأني لم أكن قط، فأُقاد من البطن إلى القبر. أليست أيامي قليلة؟ فاكفف عني (يا رب) فأرتاح قبل أن أنصرف انصراف من لا يعود إلى أرض ظلمة وظلال موت، أرض دجية حالكة كالديجور لا ترتيب فيها ونهارها كالدجى». أيوب 10: 19 -21
هذه الأمثلة وغيرها مما لا نستطيع التطرق إليه، تثبت عجز النظرية العاطفية في أصل الدين. فالخوف من الموت والطمع في الخلود لا يكمنان في أساس الدين، والنظرية عجزت عن تفسير وجود أديان لا تقدم لأتباعها مثل هذا العزاء.
وهنالك نظرية يقول بها سيغموند فرويد صاحب منهج التحليل النفسي، مفادها أن الدين ينشأ عن الحاجة لوجود إله أعلى يقوم مقام الأب، وهذه الحاجة نمت في مرحلة الطفولة تحت إحساس الطفل بضعفه وإجلاله للأب القوي القادر على كل شيء، فالإله والحالة هذه ليس إلا صورة مضخمة عن الأب. كما أن فرويد لا يميز بين الدين والشريعة عندما يُرجع الدين أيضاً إلى بدايات ظهور الشريعة الدينية، فبعد أن قتل الأولاد أباهم في القبيلة الابتدائية التي يفترض فرويد وجودها في بدايات التاريخ واستحوذوا على نسائه، شعروا بالذنب وحرموا على أنفسهم نساء أبيهم، فكان ذلك أول التشريع وابتداء الدين.
في تقييمنا لهذه النظرية المزدوجة في ظهور الدين، نقول إن اتصال الشريعة بالدين لم يحصل إلا في الفترات المتأخرة من تاريخ الدين، ولا نجده إلا في أديان الشرق الأوسط ابتداءً من الزرادشتية ثم اليهودية فالإسلام، أما في المسيحية فقد ألغى بولس الرسول الشريعة اليهودية واعتبرها بمثابة لعنة خلصنا منها يسوع المسيح، وتحولت المسيحية إلى ديانة بلا شريعة دينية. وفيما يتعلق بالشق الثاني من نظرية فرويد، نقول إن الآلهة لم تكن موجودة عند جذور الدين على ما أوضحنا سابقاً، ناهيك عن الإله الواحد الخالق والقادر على كل شيء، كما أن مثل هذا الإله لا وجود له في بعض أديان الحضارات الكبرى مثل الجاينية والبوذية التي ندعوها في دراستنا لتاريخ الدين بالأديان اللاإلهية.
كل هذا يعيدنا إلى المربع الأول في التساؤل عن أصل الدين لأقول في الخاتمة ما يلي:
إن الدين ليس حاجة إنسانية، ونحن لا نتدين لأننا بحاجة إلى الدين، وإنما لوجود طبيعة أصلية في الإنسان تجعل الدين ممكناً. وبينما تكون التعبيرات الظاهرية عن الدين عرضة للتغير مع الزمن، إلا أن التكوين النفسي الذي يجعل الدين ممكناً ثابت لا يتغير. ففي القاع من الظاهرة الدينية هنالك وعيٌ بالقدسي مغروسٌ في النفس الإنسانية نختبره من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. وتنطوي هذه الحالة على مجابهة مع قوة لا تنتمي إلى هذا العالم تعطي إحساساً بالخوف والانجذاب في آن معاً، في تجربة تأبى على الوصف بالمصطلحات والتعابير المعتادة في وصف التجارب الأخرى. وهذه التجربة لا تختص بفرد دون آخر ولا بفئة دون أخرى، بل يتعرض لها الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح ويتعاملون معها بدرجات مختلفة من القبول والاعتراف، لاسيما في دولة العلم القائمة اليوم والتي تدعونا إلى النظر إلى العالم من خلال المحاكمات العقلية الباردة والصارمة. وإن الانقياد إيجابياً لهذه التجربة فكراً وعملاً هو الأصل الذي يقوم عليه الدين.
لقد تقدمتُ بهذا الرأي في خلاصات كتابي الذي صدر عام 1995 تحت عنوان «دين الإنسان» وعارضني فيه كثير من أصحاب النزعات العقلانية المفرطة، ولكن بعد بضع سنوات أعلن علماء الجينات عن اكتشافهم لجينة في النظام الوراثي للخلية الإنسانية تعمل على توليد الإحساس بالقدسي دعوها جينة الله / God’s gene، وهذه التسمية غير دقيقة لأن ما تولده هذه الجينة في النفس ليس إحساساً بوجود الله على وجه التحديد، بل إحساساً يجعل الدين ممكنناً بكل ظواهره وتعبيراته.
مراجع
([1]) راجع بهذا الخصوص الدراسة المنشورة في مجلة Archaeology عدد Jan/Feb 1996 تحت عنوان: Treasure of the Sierra Atapuerca، للباحث Paul G.Bahn
([2]) من أجل أفكار دوركهايم في المبدأ الطوطمي. راجع كتابه:
– The Elementary Forms of Religious Life, free press, New York 1965, Chapters 1-3
([4]) Jacques Cauvin, Les Premiers Villages de Syrie-Palestine, Lyon, 1978, pp.110-117.
([5]) راجع بهذا الخصوص فصل أصل الآلهة في مؤلفي دين الإنسان.
—————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذا البحث، بإذن خاصّ من المؤلف. والبحث موجود على مدونته، وكانت الجريدة الألكترونية ناسنيوز قد نشرته أيضاً.nnasnews