هل خطر على بالكم، ولو للحظة خاطفة، أن ينفّذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهديداته بالاعتراض على قبول ترشيح السويد وفنلندا لعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)؟
إذا كانت فكرة التزام أردوغان بكلامه قد خامرت أي واحد منا، فهذا “الواحد” يحتاج إلى فحص مختبري عاجل ودقيق للتأكد من صحة قواه العقلية والإدراكية!
قمة مدريد الأطلسية انتهت من دون اعتراض تركي. أما الثمن الذي ستقبضه أنقرة ويدفعه الأطلسيون، فسيظهر إلى العلن تدريجياً، وسيكون من نوع “حديد بقضامي” حسب تعبير أديبنا الكبير سعيد تقي الدين.
أعطينا أردوغان مساحة في هذا المقال أكبر مما يستحق. إذن دعونا نترك الابتزاز التركي والخنوع الأطلسي، كي ننظر في المسائل الأكثر أهمية والأشد خطورة التي توافق حولها القادة الأطلسيون، أو حول خطوطها العريضة كحد أدنى… إذ يبدو أن هناك بعض التباينات الشكلية بين عدد من الدول الأعضاء، من دون أن يعني ذلك وجود خلافات جذرية!
أقترح أن لا نكترث كثيراً بالتصريحات النارية حول نشر القوات الأميركية في أوروبا، وزيادة الإنفاق العسكري، والاستمرار في تسليح وتمويل الجيش الأوكراني في مواجهة القوات الروسية…إلخ، فهذه الخطوات متوقعة منذ مدة، وهي تُنفذ منذ سنوات وإن بوتيرة أبطأ من الحاضر وأقل حجماً من المطلوب حالياً.
لكن المجتمعين اتخذوا قرارات مصيرية، وهي تلك التي قد تمهّد ـ أشدّد على عبارة قد تمهد ـ لحرب طاحنة مدّمرة في غضون السنوات العشر المقبلة… اللهم إلا إذا وافق الأقطاب الدوليون على العودة إلى الحوار الاستراتيجي المتعدد الأطراف: الأطلسي ـ روسيا، الأطلسي ـ الصين، وربما أيضاً الأطلسي ـ الصين وروسيا معاً. والهدف يكون محاولة التوصل إلى نظام عالمي جديد… لكن هذا مستبعد في الظروف الراهنة!
القرار المصيري الأول أن الأطلسي أعلن “الحرب” على الصين سياسياً وتجارياً وأمنياً. فللمرة الأولى في تاريخ الحلف، يتم ذكر الصين كخطر استراتيجي مباشر. وقد كان الأمين العام يانس ستولتنبرغ واضحاً وفظاً في اعتباره أن الصين تشكل تهديداً لمصالح الأطلسيين و”قيمهم”! ونحن لن ندخل في نقاش عقيم حول تلك “القيم”، لكننا نعتقد بأن هذا الموقف يُقرّب العالم كله من هاوية الحرب. وإمعاناً في استفزاز بكين، دعت قيادة الأطلسي دولاً بعينها لحضور قمة مدريد: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا.
القرار المصيري الثاني يُعزز القرار الأول، ذلك أن الأطلسي ينظر إلى نفسه كقوة عسكرية كبرى على مستوى العالم كله، وليس فقط في أوروبا وشمال المحيط الأطلسي. وهو يرفض قبول أية قوة أخرى منافسة له أو مستقلة عنه. ولا شيء يمنعه من استخدام كل الوسائل والأساليب المتاحة له لتحقيق تفوقه المطلق. قبل سنوات، وزّعت مقالاً توقعت فيه توسع الأطلسي باتجاه حوض البحر الأبيض المتوسط بعدما يكون قد “أنجز” احتواء دول أوروبا الشرقية. ويبدو أنني أخطأت التقدير في هذا الشأن، فقد سيطر الأطلسيون ـ مباشرة أو مداورة ـ على حوض المتوسط وقرروا الانتقال إلى المجال العالمي الأشمل.
أما القرار الثالث فيتمثل بإنشاء أحلاف أخرى إقليمية ترتبط بمحور مركزي أعلى هو الحلف الأطلسي. وما دعوة الدول الأربع المذكورة أعلاه سوى خطوة في ذلك السياق، فأعضاء هذا “الحلف” ينسقون سياساتهم المحلية لكن بمرجعية أطلسية عليا. وفي عالمنا العربي تحركات لقيام “حلف” إقليمي بدأت ملامحه ترتسم من خلال اجتماعات بين الكيان الصهيوني وبعض الدول المتعاونة معه. وسيكون في هذه الأحلاف شركاء ووكلاء وأجراء، ولكل دوره وثمنه! المتعاقد الرئيسي في واشنطن أو بروكسل يوزع الالتزامات لكي يتولاها متعاقدون فرعيون في مناطق النزاع أو التنافس.
قمة مدريد الأطلسية حددت أهداف الحلف من دون أي تحفظ. ولا شك في أن القوى المُستهدفة بالتحدي الأطلسي (أي الصين وروسيا) ستعمل على صياغة استراتيجيات مضادة على المدى القصير وعلى المدى البعيد في الوقت نفسه. وأمتنا لن تكون في منأى عن التجاذبات الإقليمية والعالمية. ولذلك يتوجب علينا أن ندرك خطورة ما يجري، وننقل الصورة على حقيقتها إلى شعبنا… وهذا هو أضعف الإيمان!!