العالم الآن

الأندلس ليست اسبانيا…!

هويّة الأندلس كما يراها مثقّفوها

تعود فكرة إحياء الهوية الأندلسية كما تكرّست في عصر ازدهارها قبل «حروب الاسترداد»، في عصرنا الحاضر، إلى زمن ليس بعيداً نسبياً. وربما تكون مقولة الشاعر الأندلسي القتيل فيدريكو لوركا، في عشرينات القرن الماضي، دفاعاً عن هذه الهوية قبل مقتله، أبرز الإشارات القوية إليها.  حيث يقول أيان جيبسون، مؤرّخ سيرة لوركا، في هذا المجال، على ما يعتبره السبب الأهم لاغتيال الشاعر الأندلسي الأشهر: «في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، وقبل أسابيع قليلة من اغتيال لوركا في آب/ أغسطس 1936، سُئِل الشاعرُ عن رأيه في سقوط غرناطة في أيدي الإسبان عام 1492، فأجاب: «كانت نكبة – يوماً أسود- رغم أنّهم يلقنوننا العكس في المدارس: حضارة رائعةٌ، وشعرٌ، وفلكٌ، وعمران، ورقةُ شعور فريدةٌ في العالم، ضاعت كلّها، لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي «جنّة البخلاء» التي يلعب بمقدّراتها الآن أراذل البرجوازيين في إسبانيا».

ظهر هذا التصريح على صفحات أكبر جريدة في مدريد، فكان سبباً مباشراً في موت الشاعر وهو في الثامنة والثلاثين». ويضيف جيبسون: (وقبل خمس سنين من ذلك، قال لوركا: «أعتقد أنّ أصلي الغرناطي منحني شعوراً بالتآخي مع جميع المضطهدين غجراً وسوداً ويهوداً، ومع المورسكيين «المغاربة» الذين نحفظ ذكراهم نحن الغرناطيين في قلوبنا». لا شك في أنّ الشاعر كان على علاقة وثيقة بغرناطة التي ضاعت إلى الأبد عام 1492).

كان ذلك قبل قرن تقريباً، ويبدو واضحاً أنّ هذه القضية قد أخذت منحىً تصاعدياً في العقود الأخيرة في إسبانيا ذاتها، حتى بات لها جمهورها ونخبتها من المثقّفين والأكاديميين والمؤرّخين الأندلسيين المتخصّصين، إضافة طبعاً إلى جمهورها من عامّة الأندلسيين.
ضمن هذا العنوان الخاص بتمايز الهوية الأندلسية عن الهوية الإسبانية وصعودها، يأتي الوثائقي التلفزيوني «ثلاثية الأندلس – حكاية الشاطئَين» الذي حرّره وأخرجه جيزوس أرنستو وكارلوس مونتيفورت، ليكون مصدراً مهمّاً يسلّط الضوء على جهود ثلّة من المؤرّخين والمثقّفين الأندلسيين في السنوات القليلة الماضية لمراجعة ومحاولة استعادة تاريخ بلادهم باتجاه ترسيخ هوية وطنية أندلسية يعتبرونها ملغاة ومُقصاة من التاريخ الإسباني العام. ويبلغ الجهد والحماس ببعضهم درجة يعتبر فيها ما سُمي بـ«حروب الاسترداد» التي أنهت الوجود العربي الإسلامي في الأندلس غزواً واحتلالاً أجنبياً قام بها الإسبان الشماليون لوطنهم الأندلس. شارك في هذا الوثائقي كل من: إيمانيويلو فيرين – مؤرخ وباحث في فقه اللغة العربية، وأنخيلس كاستيانو عالمة الأنثروبولوجيا، وفرناندو كلاوز موراليس الكاتب والعالم الأنثروبولجي، وإنريكو سوريا المؤرّخ والباحث، وإيسيدورو مورينيو الباحث والخبير في الأنثروبولوجيا، وفيردريكو زاراغوز المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو.

خلفيّة تاريخيّة

وقبل أن نستعرض مناقشين بعض ما ورد في هذا الوثائقي المهمّ، لنلقِ نظرة سريعة على الماضي البعيد لما يُعرف اليوم بإسبانيا بهدف تفهّم خلفية الموضوع التاريخية وموقع الأندلس العربية المسلمة فيه: احتلّ الرومان في عهد جمهوريّتهم، خلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، شبه الجزيرة الإيبيرية التي تضمّ اليوم إسبانيا والبرتغال. وخلال قرون عدّة، اندمجت اللهجات واللغات المحلية باللغة اللاتينية أو تفرّعت أخرى عنها، باستثناء لغة الباسك في جبالهم العصية التي بقيت كما كانت. وقد احتلّ الجرمان الوندال «فيندال» والجمع منه «لوس فيندالوس»، وهي المفردة التي غدت لاحقاً اسم علم لبلاد الأندلس جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية غارسة بذلك بذور كيانية جغرافية أولية ستتحوّل بعد قرون إلى كيانية جغراسياسية. وقد نظَّم القوط الغربيون أنفسهم في إسبانيا، وأسّسوا ممالكهم في شمال ووسط شبه الجزيرة وألحقوا الجنوب الأندلسي بهم لقرون عدّة. وفي عام 711م، عَبَرَ العرب والبربر المسلمون من أفريقيا ما بات يعرف اليوم بمضيق جبل طارق، والذي كان يسمّى قديماً «بحر الزقاق» أو «بحر المجاز». وألحقوا جنوب الأندلس وأجزاء من وسطه بالدولة العربية الإسلامية الأموية المروانية وعاصمتها دمشق، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وتمّت لهم السيطرة على غالبية شبه الجزيرة بقيادة موسى بن نصير.
جدد عبد الرحمن الداخل الأموي فتح الأندلس بمعنى معين، بعدما جاءها مطارَداً من قبل العباسيين الذين دمّروا دولة بني أمية. وشهدت الأندلس في عهده وعهد خلفائه الأوائل ذروة ازدهارها، ثم بدأ عهد التدهور والانحدار. وانقسمت هذه الدولة وتفكّكت إلى دويلات متناحرة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وفي القرن الثامن، بدأت دويلات الشمال الإسباني المسيحي حروبها ضد الدويلات الأندلسية المسلمة حين تشكّلت الدولة الإسبانية «الحديثة» من اتحاد مملكتَي قشتالة والتي تشمل المساحة الأكبر من إسبانيا المعروفة اليوم، وتُنسب إليها اللغة الإسبانية المعاصرة، وإقليم أراغون الأصغر مساحة جنوب فرنسا والممتد شرق الأندلس حتى غرناطة جنوبا، وهزمت آخر الدويلات الأندلسية المسلمة العربية في غرناطة وجزر الكناري في أواخر القرن الخامس عشر.
سميت تلك الحروب في التاريخ الإسباني بحروب الاسترداد، كما أسلفنا، وتم خلالها وبعدها بقرون قليلة، تحويل الأقليات الدينية في إسبانيا من المسلمين واليهود إلى المسيحية أو طردهم من البلاد. والثابت علمياً، أنّ الوجود العربي في شبه الجزيرة طيلة ثمانية قرون تركَ أثاره الثقافية والجينية الوراثية، رغم كلّ عوامل الإقصاء والاجتثاث حيث يتزايد اليوم عدد الأندلسيين الذين يتباهون بأرومتهم العربية أو اليهودية على قلة اليهود آنذاك قياساً إلى غيرهم من مكوّنات.

التأريخ الجديد: مقاربة أوليّة

سنحاول الآن مقاربة هذه المحاولة التأريخية الجديدة للمراجعة والبحث عن الهوية الأندلسية والتعريف بأسسها النظرية والتاريخية، إضافة إلى التعريف بوجهات نظر دعاتها المعاصرين بشيء من الاختصار. صحيح أنّ أحد المؤرّخين في هذه المجموعة، وهو إيميلو فيرين، يبالغ في إنكار حدوث غزو أو فتح عربي إسلامي لجنوب شبه الجزيرة الإيبيرية، ويعتقد بدلاً من ذلك بحدوث ما يسمّيها «ثورة ثقافية» جاءت أو تمدّدت من الشرق، وأثمرت عن قيام الحضارة الأندلسية ذات التعدّدية الدينية واللغوية والثقافية بعامة، ولكن الخطّ العام لكلامه وكلام زملائه مهمّ وجديد وجدير بالتأمل والدراسة بهدف وضعه في سياقه التاريخي واستجلاء معالمه ومضامينه واستشراف آفاقه.
تأريخياً، لا تُعتبر فكرة «عدم وجود غزو عربي إسلامي لشبه الجزيرة» جديدة تماماً، وهناك روايات وردت حتى في المصادر العربية تحدثت عن حالة تخلخل في الحكم واضطراب في بلاد الأندلس قبل قدوم العرب. فهناك مَن تحدث عن اضطرابات سياسية كبيرة وقعت آنذاك، حين حاول بعض المُلوك القوط الخروج على طبيعة التنظيم القبلي لمجتمع المملكة القوطيَّة وجعل نظام الحُكم وراثيًاً، ما أدَى إلى إثارة التنافُس بين الطامعين في العرش، حتَى أضحى تاريخ الملكيَة القوطيَة، في أواخر عهد المملكة، سلسلة من المُؤامرات والاغتيالات والحروب الداخليّة. ولم يلبث هذا الصراع الداخلي أن دخل مرحلته الأخيرة في عهد الملك إخيكا، واستمرّ في عهد خُلفائه، وأدّى إلى ضعف المملكة وسُقوطها بيُسر في أيدي المُسلمين. وهناك من تحدث عن تواطؤ حدث بين حاكم طنجة وسبتة القوطي يليان والعرب المسلمين وسهّل دخولهم الأندلس بسبب خلافاته مع الملك القوطي لذريق «رودريك». وهذه الرواية توردها كُل المصادر العربيّة والإسلاميّة القديمة من دون استثناء. وتفيد رواياتٌ أُخرى بـ«أنَّ يُليان لم يكن يتوقّع، حين طلب المُساعدة من المُسلمين، أن يستقر هؤلاء في الأندلُس، ويبدو أنّه خطّط فقط للاستعانة بهم لخلع لذريق وإعادة أولاد غيطشة إلى الحُكم» .

 والخلاصة، حتى هذه الروايات لا تنفي حقيقة وقوع الغزو العربي لشبه الجزيرة والسيطرة عليها بالسلاح، خلافاً لما يقوله المؤرّخ الأندلسي المعاصر إيميلو فيرين.
اللافت في هذا الوثائقي التلفزيوني، هو أنّ هؤلاء المؤرّخين الأندلسيين ينظرون إلى تجربة أجدادهم في القرون الخوالي بفخر، وخصوصاً في تجربة التعددية الدينية والتسامح الفعلي بين أهل الديانات الثلاث، الإسلام كدين للأغلبية، والمسيحية واليهودية. حتى أنهم أقاموا نصباً فنياً لرموز هذه الديانات، هو عبارة عن ثلاثة صنابير مياه على واحد منها صليب، وعلى الثاني هلال وعلى الثالث نجمة سداسية، كلّ واحد يرمز لدين منها وتصب ثلاثتها في حوض واحد. وهم يدافعون عن هويتهم المُقصاة والملغاة من قبل الإسبان الشماليين مع ما قد يثيره هذا النصب الفني وما يعبر عنه من نظرة متماثلة إلى الأديان الثلاثة من تحفّظات محقة بسبب ثانوية الوجود اليهودي، دينياً وديموغرافياً وإنتاجاً حضارياً، ما قد يجعل هذا الوجود محشوراً حشراً لأسباب أيديولوجية.
ولكي نأخذ صورة تقريبية عن واقع الحال الدينية العامة في الأندلس العربية الإسلامية، نعلم أنّ دولة الأندلس أقامت مؤسّسة دينية منظمة للمسيحيين يشرف عليها رجال الدين منهم «فكان لهم ثلاث أبرشيَّات في طُليطلة وإشبيلية وماردة، كما كان لهم ثماني عشرة أُسقُفيَّة، أمّا الأديرة فكانت كثيرةً جداً، إذ كان منها حول قُرطُبة وحدها أكثر من خمسة عشر ديراً». وبنى المُسلمون المساجد في كُل مكانٍ نزلوا فيه، غير أنَّهُم في بعض الأحيان كانوا يجعلون من الكنائس مساجد في الأمكنة التي دخل جميع أهلها من القوط والإفرنج في الإسلام، أو كانوا يقسمون الكنائس بين الذين دخلوا في الإسلام وبين الذين اختاروا أن يبقوا على المسيحيّة من أهل البلد الواحد.

أما اليهود، فقد كان وجودهم العددي متواضعاً. ولدينا إشارات تاريخية تسجّل أنهم قد سبقوا العرب المسلمين في القدوم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وانحازوا إليهم في الصراع الحربي الذي دار بينهم وبين الممالك القوطية. وهناك إشارات وشهادات تاريخية تؤكد تعرّض اليهود في الأندلس إلى الاضطهاد في زمن الملك رودريكز «لذريق»، قبل عبور قوة طريف بن مالك الاستطلاعية، وفق الرواية العربية للفتح، ثم عبور طارق بن زياد بقواته. هناك أيضاً إشارات أخرى إلى دور يهودي مساند للعرب المسلمين في معركة السيطرة على بلدة «إلبيرة» وهي من أعمال غرناطة، وقد أوكل لهم القائد ابن زياد إدارتها ومساندة الحامية المسلمة فيها ففعلوا. وربما كان أكبر وجود لليهود هو في جزيرة مايوركا، ولكن غالبيتهم الساحقة أبيدت من قبل الإسبان بعد سقوط دولة العرب المسلمين في الأندلس، ومن تبقى منهم حياً أُجبر على تغيير دينه إلى المسيحية.
إنَّ هذه الوقائع شيء تاريخي موثّق، أما المبالغة بدورهم وجعله مثيلاً أو مقارباً للدور أو الحضور العربي الإسلامي من قبل بعض المنادين بالهوية الأندلسية المتمايزة، فهو أمر غير علمي ولا هو تاريخي تماماً وقد ينطوي على أهداف أخرى خارج السياق التاريخي والحضاري لهذه الحالة. ويكفي أن نتذكر أن يهود الأندلس لم يقدموا، مقابل مئات العلماء والفلاسفة والمبدعين العرب المسلمين، إلا مساهمة أقل من متواضعة ولا يمكن لنا في هذا المجال أن نجد في كتب التاريخ إلا أسماء يهودية قليلة قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. منهم، وفي مقدمتهم الفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون، الذي لا يمكن اعتباره أندلسياً تماماً إلا على جهة مسقط رأسه. فقد هاجر ابن ميمون مبكراً من قرطبة إلى مدينة فاس المغربية للدراسة في جامعة القرويين، ثمّ هاجر منها إلى مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي قرَّبه وجعله طبيبه الشخصي ووزيراً له، ثم سافر إلى فلسطين لفترة قصيرة ثم عاد إلى مصر وعاش فيها وأصبح نقيباً ليهودها حتى وفاته.
ويمكن أيضاً أن نذكر حسداي بن شفروط الذي كان يعمل طبيباً ودبلوماسياً في بلاط عبد الرحمن الثالث (912 – 961) والحكم الثاني (961 – 972). وفي قرطبة عُرف منهم الشاعر والعالم أبراهام بن عزرا، الذي ألّف ثلاثة كتب في علم الحساب. واشتهر إبراهام بارحيا البارشالوني بنظريته التي دارت حول علم الهندسة، في القرن الثاني عشر، كما ساهم بارحيا في تأليف موسوعة مهمّة تمحورت حول الرياضيات. وبخلاف هؤلاء لا يكاد التاريخ يذكر لنا أسماء أخرى من يهود الأندلس؛ أما لو بدأنا بذكر أسماء العلماء والأدباء والأطباء والقادة السياسيين والعسكريين العرب والبربر المسلمين فلا نكاد أن ننتهي!
على هذا، لا يمكننا أن نماثل بين الوجودين بما يرويه أحد المشاركين في الحديث على سبيل تأكيد الوجود الحضاري لليهود في الأندلس من (أن الدكتاتور فرانكو كان يضع في مكتبه ذراع القديسة الكاثوليكية ذات الأصول يهودية القديسة تيريزا وراعية الكنسية الإسبانية لكي تلهمه!)
ولهذا، يحقّ لنا أن نواجه هذه الرؤية المشوَّشة لتجربة التعايش الأندلسية بسؤال كاشف يقول: ترى، لماذا هذه النظرة إقصائية لجذور تجربة التعايش الأندلسي العربية الإسلامية الشرقية؟ وبكلمات أخرى: من أين جاءت هذه التجربة الحضارية المتميّزة للتعددية والتعايش في الأندلس القديمة، هل سقطت عليها من كوكب بعيد، أم أنها طلعت كغرس عجيب من أرض الأندلس ذاتها؟ ألم تكن هناك تجربة أمٌّ لهذه التجربة حملها العرب المسلمون معهم وعبروا بها بحر الزقاق؟

الجذور المشرقية لهويّة الحضارة الأندلسية  

 إن التجربة التعددية القائمة على العيش المشترك والسماحة في الأندلس القديمة، التي يفاخر بها بعض من جيل المثقفين الأندلسيين المعاصرين وبين علماء إناسة “إنثروبولوجيون” ومؤرخون، كما أسلفنا، تذكرنا مباشرة بتجربة الحضارة العربية الإسلامية الأم في المشرق العربي وخصوصاً في العهد العباسي وعاصمته الزاهرة بغداد. فهذه البداية الحضارية، وخصوصاً في طورها العباسي الأول، تأسست أصلاً على التعددية والتنوع، وشارك في بناء حضارتها ممثلون فاعلون من عدة قوميات وأديان إلى جانب العرب المسلمين، فمساهمة العلماء الفرس والترك، والأذريين والهنود وعموم الآسيويين والمسيحيين العرب واليهود المزراحيم والأفارقة البربر وغير البربر، وبلغة الثقافة عهد ذاك أي العربية إلى جانب الأعمال المترجمة للإغريق والرومان والهنود هي مساهمة فعالة وتأسيسية.

هل فتح العرب المسلمون الأندلس فعلا؟

وبالعودة لما قاله دعاة استعادة الهوية الأندلسية “القديمة الجديدة” المعاصرون، نتوقف عند ما ذكره إيمانيويلو غونزالس فيرين، وهو مؤرخ وباحث في فقه اللغة العربية، ومفاده أن الأندلس، بعد ما عُرف بحروب الاسترداد الشمالية، خضعت لعملية صناعة ذاكرة جمعية على نطاق واسع. ونفهم من السياق أنه يقصد عملية صناعة ذاكرة جمعية غير موضوعية ومنحازة ضد الهوية الأندلسية. فهو يؤكد (أن تاريخ مملكة ليون واستورياس، وتاريخ مملكة قشتالة كوريثة كُتِبَ، كما كُتِبَ التاريخ الاستعماري للأندلس في خدمة مشروع معين هو المشروع القومي الكاثوليكي، وهذا منطقي فقط في قلب شبه الجزيرة الإيبيرية، ولكنه لا ينطبق على الأندلس، ولا على أميركا اللاتينية- الناطقة بالإسبانية).

ويذهب فيرين إلى أن: “الحديث عن الاحتلال العربي لشبه الجزيرية الإيبيرية أمر مصطنع، ومجرد حكاية عُدَّتْ كتاريخ حقيقي لتبرير سقوط الحكم القوطي، ويصبح ضرورة ملحة عندما يرتبط بالفترة اللاحقة لفترة الاستعادة “حروب الاسترداد”. إنَّ المحور الأساس في جوهر الفكرة القومية الكاثوليكية في إسبانيا هو أن الشر يأتي دائما من الخارج، والآخرون هم الذين جاؤوا من الخارج لتعكير صفو شبه الجزيرة الإيبيرية. وللحفاظ على تلك الصورة الخادعة لا بد من الحفاظ على خرافة الاحتلال العربي، ولكن الحقيقة مختلفة عما أخبرونا به”.

من الطبيعي أننا لا يمكن أن نتفق مع فيرين في كل ما ذهب إليه، فحقائق التاريخ أكثر صلابة وثقلاً مما يتصور البعض، ولا يمكن نفي الفتح العسكري العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية أو ما يسميه “الاحتلال العربي”. ربما تكون هناك شيء من الحقيقة، في وصف وتقديم هذا الفتح من قبل من سماهم “القوميين الكاثوليك” آنذاك على أنه “شر قادم من الخارج”، ولكن الفتح العسكري بحد ذاته حدث تاريخي حقيقي موثق جيداً تأريخياً كما سنوضح في ما يلي.

يقول فيرين في معرض تفنيده للحدث العربي، إن (تاريخ فتح العرب لشبه الجزيرة الإيبيرية كتب بعد مائة وخمسين سنة من 711م، وهناك رواية عربية وأخرى لاتينية للأمر، وهي مجرد حكايات تاريخية عربية ولاتينية وليست مصدراً موثوقاً للتاريخ. هناك عملات واختام ونقوش، لكن لا توجد وثيقة يعتد بها تقول كان هناك غزو عربي، بل كان هناك تعريب، ثورة ثقافية ودينية وسياسية جاءت من الشرق إلى الغرب. وإذا درس تاريخ الأندلس بترتيب وروية فلن يمكن القول حينها أن العرب غزوا الأندلس)[1].

الرد على تشكيكات فيرين:

ويمكننا القول إنَّ اعتراضات فيرين هنا على واقعة الغزو العربي، والتصغير من شأن ما وجد من توثيقات وسجلات تاريخية وصفها بالحكايات وإهماله للعملات والنقوش والأختام رغم اعترافه بوجودها أمر لا يعتد بها علمياً. وحتى مقولة “الثورة الثقافية والتعريب القادم من الشرق” يمكن وضعها في السياق التاريخي لما بعد حدث الفتح الحربي دون أن تتغير الصورة كثيراً، إذ أنَّ الفرادة لم تكن في حدث الفتح الحربي بحذ ذاته، بل في ما تمخض عنه من قيام تجربة في البناء والتكون الحضاري الإنساني المثقفي الجديد والذي لا عهد للقارة الأوروبية الجرداء حضارياً آنذاك به.

هذا أولاً، وثانياً فالرقم الذي يؤرخ به فيرين لأول الكتابات التأريخية العربية واللاتينية الموثقة لفتح الأندلس وهو مائة وخمسون عاماً غير صحيح تماماً، ولدينا “تأرخات” ووثائق تاريخية أبكر من هذا التاريخ بكثير، ومنها كتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم. وهو مؤرخ مصري ولد في القرن الثاني للهجرة وبالتحديد سنة 187 أي بعد ثمانين عاماً من سنة 107 التي اكتمل بها الفتح العربي الإسلامي للأندلس. وقد أفرد بن عبد الحكم فصلاً خاصاً هو الخامس ذكر فيه كيفية وتفاصيل الفتح العربي لشمال إفريقية والأندلس والنوبة.

والأهم من هذا الدليل التأريخي، هو أن لدينا وثائق مهمة عن مجريات الفتح ومنها وثيقة الصلح المؤرخة في سنة 94 هـ والتي استسلم بموجبها حاكم إحدى المقاطعات القوطية لجيوش المسلمين بقيادة عبد العزيز بن مُوسى بن نُصير. والحاكم المقصود هو (نبيلٌ قوطيّ عرفهُ المُسلمين باسم “تُدمير” ويُلفظ في لُغته الأُم “ثيوديمير”. وكان ثيوديمير يعيشُ شبهَ مستقلٍ في تلك المنطقة مُنذ أيَّام لُذريق “رودريك”، الذي قيل بأنَّهُ استخلفهُ على الأندلُس قُبيل اندلاع معركة وادي لكة. ويرد في هذه الوثيقة (كتابٌ من عبدُ العزيز بن مُوسى بن نُصير لِتُدمير بن عبدوس أنَّهُ نزل على الصُلح، وأنَّ لهُ عهد الله وذمَّة نبيِّه “ص” ألَّا يُقدَّم لهُ ولا لِأحدٍ من أصحابه ولا يُؤخَّر، ولا يُنزع من مُلكه، وأنَّهُم لا يُقتلون ولا يُسبون ولا يُفرَّق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يُكرهوا على دينهم ولا تُحرق كنائسهم ولا يُنزع من كنائسهم ما يُعبد. وأنَّهُ صالح على سبع مدائن: أوريولة وبلتنة ولقنت ومولُه وبلَّانة ولورقة وألُه، لا يُؤوي لنا آبقاً ولا يُؤوي لنا عدُوّاً ولا يُخيفُ لنا آمناً ولا يكتُمُ خبر عدوٍّ علمه)[2].

وقد حدث الاتفاق على هذه الوثيقة بعد معارك عنيفة كبرى من أهمها معركة “لكة” الدامية سنة 92 هـ، وكانت هذه الاتفاقية التي عقدت بعدها بأقل من عامين نتيجة لها بشكل من الأشكال. والتزم العرب بهذه المعاهدة رغم أنها انطوت يومها على خدعة حربية من قبل ثيوديمير، ولكن العرب المسلمين التزموا بما عاهدوا القوطي عليه. أما مصير ملك الأندلس القوطي لذريق الذي هزمه العرب المسلمون فقد بقي مجهولاً لفترة طويلة، حتى كشفت إحدى المخطوطات القوطيَّة العائدة إلى القرن التاسع الميلاديّ عنه وورد فيها (أنَّهُ عُثر في قرية “إقطانية” (الكائنة في الپُرتُغال المُعاصرة) على شاهد قبرٍ نُقش عليه عبارة “هُنا يرقُد لُذريق، ملك القوط” (باللاتينية: Hic requiescit Rodericus, rex Gothorum)[3].

إنَّ ما يختصر تفاصيل وجهة نظر هؤلاء المثقفين الأندلسيين المعاصرين بصدد الموقف مما يسمى “حروب الاسترداد” يمكن ان نجده في ما قالته إحدى تلميذات عالمة الإنثروبولوجيا أنخيلس كاستيانو في هذا الوثائقي صراحة: “نحن نتحدث دوما عن الاستعادة “حرب الاسترداد” ولم تكن هناك استعادة بل كانت غزوا قام به المسيحيون من الشمال للأندلس”.

أما غونزالس فيرين، سالف الذكر، فيوضح هذه الفكرة مزيدا من التوضيح بقوله” “إن فكرة الاستعادة “الاسترداد”، قيلت لتبرير غزو بعض ممالك الشمال للجنوب الأندلسي وتدمير أيقونة ثقافية هي الأندلس التي كانت مثالاً للتسامح الديني وتعايش الأديان الثلاثة في ثقافة واحدة”.

حرب مشاريع سياسية أم حرب قومية دينية؟

ولكن فيرين يختلف في طرحه التاريخي عن بعض زملائه المؤرخين و”الإنثروبولوجيين “فهو يرى في حروب الاسترداد حرباً بين شمال وجنوب، لكل منهما مشروعه، وليس غزواً مسيحياً لجنوب غير مسيحي،  فيقول: “ثمة شيء ولد مع احتلال إشبيلية عام 1248م. إذا نظرنا إلى احتلال فرناندو الثالث كاحتلال إسباني، فسنفهم ماذا كان يحدث في الجنوب وهو مشروع سياسي لمملكة قشتالة وملكها فرناندو، وإذا بدأنا بتوصيفه كاحتلال مسيحي فسيكون ذلك تفسيراً أيديولوجياً، فكيف يكون غزواً مسيحياً وستون بالمائة من جنود فرناندو من المسلمين، وكان الحليف الأساسي لفرناندو هو ابن الأحمر ولي عهد مملكة غرناطة المسلم،  وكانوا يغزون تلك الأراضي في الجنوب لغايات سياسية ولم يكونوا يطردون المسلمين لأنهم مسلمون”.

[4]والواضح أن الأرقام التي يذكرها فيرين تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وخصوصاً زعمه القائل إن 60% من جنود فرناندو كانوا من المسلمين.

والواقع التأريخي يقول لنا شيئاً آخر مختلفا: إن ابن الأحمر حاكم غرناطة، كان قد عقد صلحاً أقرب إلى الاستسلام مع فرنادنو الثالث في ظروف شديدة التعقيد. فقد كان فرناندو الثالث ملك قشتالة يرى في ابن الأحمر بعد هزيمة ووفاة ابن هود حاكم قرطبة، زعيمَ الأندلسِ الحقيقي والخصم الذي يجب تحطيمه. وكان ابن الأحمر يحاول توطيد مملكته الناشئة في غرناطة، ويشعر بخطر دائم من الإسبان، ولكنه انتهى بأن ضمن عدم سقوط حكمه مؤقتاً، مقابل أن يضحى باستقلاله، بل وأصبح دمية بأيدي الإسبان، فشاركهم في محاصرة اشبيلية وهو يقود العرب المسلمين، وهو ما سار على منواله حكام وأمراء أندلسيون آخرون غير ابن الأحمر لاحقاً فتحالفوا مع فرناندو القوي مخافة سقوط ممالكهم، وقاتلوا ضد بني قومهم 1236! فهل قرأ فيرين هذه الأحداث والتحالفات بين أمراء عرب مسلمين تحالفوا مع فرناندو واستسلموا له بفعل منطق الغلبة والقوة، فاعتبر فيرين أنهم أصبحوا جزءاً من قوات الشمال الإسباني؟ وهل يعقل أن هؤلاء الحلفاء شكلوا ستين بالمائة من قوات فرناندو الثالث، ولم يحاولوا أن يوحدوا قواهم ويقفوا بوجهه ويهزموه؟ أعتقد أن من الصعب جدا الأخذ بهذا المنطق، والموافقة على هذه الاستنتاجات المؤسسة عليه والتي يخرج بها فيرين.

خلاصة القول، هي أن هذا الفيلم التلفزيوني الوثائقي “ثلاثية الأندلس – حكاية الشاطئين” نجح إلى حد بعيد في عرض واقع حال البحث الذي يقوم به المثقفون الأندلسيون وفي طليعتهم العلماء المتخصصون عن وفي الهوية الأندلسية اليوم وبطريقة جريئة تتحصن بالعلوم الحديثة وأساليبها.

المراجع

1-الوثائقي التلفزيوني: ثلاثية الأندلس / حكاية الشاطئين

 رابط الجزء الأول:

https://www.youtube.com/watch?v=EgTHuEwtLA8

رابط الجزء الثاني:

https://www.youtube.com/watch?v=bAdy6TgYLlA

2- ابن قُتيبة الدينوري، أبو مُحمَّد عبدُ الله بن عبدُ المجيد بن مُسلم; تحقيق: مُحمَّد محمود الرافعي (1322هـ – 1904م). الإمامة والسياسة، الجُزء الأوَّل (الطبعة الأولى). القاهرة – مصر: مطبعة النيل. صفحة 136.

3-Thompson, E. A. (1969). The Goths in Spain. Oxford: Clarendon Press. page 250. ISBN 0-19-814271-4.

4- الوثائقي التلفزيوني «ثلاثية الأندلس: حكاية الشاطئين» – مصدر سابق

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق