تبدو الدعوات المتكررة إلى «إعادة محاكمة أنطون سعاده» ارتداداً من جوهر(الحدث) إلى قشور(الواقعة)، ومحاولةً لاختزال قضيةٍ مصيرية بملفٍّ قانوني، وانشغالاً عن الأسئلة الصادمة للراهن بأجوبةٍ مُضَمِّدةٍ للماضي.
أولاً: لأن المشكلات الكبرى التي أسَّستْ لصراع سعادة مع السلطات (الهويَّة، الحرية، العدالة، فصل الدين عن الدولة..) ميدانُها تلافيف العقول لا أروقة المحاكم.
وثانياً: لأن السلوك الاستبدادي القائم على قتل المعارضين، نهجٌ متجذِّر في بنية المؤسسات الحاكمة على مرِّ العصور. فهو لم يبدأ بصَلب الحلاّج، مثلاً، ولم ينته بإعدام سعادة. بل إنه استشرى في ما بعد، وصار من مألوفات الواقع، حتى استغنى منفِّذوه عن اللجوء إلى (شكليّات) المحاكم.
وثالثاً: لأن (قضية سعاده) ستبقى مفتوحةً مادامت حالُ أفكارنا كحالِ أرضنا: جفافٌ يَزحَف، وأسوارٌ تتعالى، وتخومٌ تَضِيق. وما دام مصير طاقاتِنا كمصير أنهارنا: ينابيعُ أسيرة، ومجارٍ مشتَّتة، ومصبّاتٌ دامية.
لكلِّ حركةٍ هدف. ومع تقديري للنوايا (الأخلاقية والحقوقية) الطيّبة التي تكمن وراء هذه الدعوات، إلاّ أنني لا أستطيع إلاّ أن أُساجِل مُطلِقيها في الثمار التي يأملون جنيَها من هذه «المحاكمة»، وسأورد بعضَها:
1 ـ اعتذار الجناة؟
بديهيٌّ أن طقوسَ الندم وسيولَ الاعتذارات وانحناءاتِ الأسف، التي يذرفها القَتَلةُ على ضحاياهم ـ سواء في الجرائم الفردية أو الجماعية ـ لم تُفلِح على مدى التاريخ (المعاصر خصوصاً) في لأْمِ أيِّ جرح، ولا في محو أيّةِ مأساة.
والأدهى أنها ـ حين تُعرَض بمؤثرات مبهرة قادرة على إقناع الجمهور أن الفاجعة لم تَقتصر على الضحيّة بل طالت أعماقَ الجلاد ـ تُضفي على القتلة سماتِ الشجاعة والنُبل، وتجعل من بقائهم (ثم تَناسُلِهم) شرطاً لتماسُك المجتمعات وعمرانِ الأرض.
وهي بذلك تَمدُّ المؤسَّساتِ المشرِّعةَ للقتل بالعنصر الأساس الداعم بُنيانَها، وترسِّخ الجريمةَ ناموساً كونيّاً، وترفع الندمَ إلى مرتبة الفضيلة. حتى ليصير التصفيق والتهليل للذئاب، وهي تؤدي فنونَ توبتها على المنصّة الأزلية الدامية، مكافأةً يسعى إليها المجرمون، وهالةَ مجدٍ تدير رؤوس تلاميذهم تقديساً ونشوة.
ألم يقل إميل سيوران: «إنَّ لدى الإنسان رغبة دفينة في الندم تَسبق الشرَّ، بل وتَخلقه.. وإن عطرَ الندم لَيقودنا نحو الشر كأنه حنين إلى بلاد أخرى»؟!
فيما يستمرالأنقياء الأبرياء وقوداً للعبةٍ جهنميّة جاهلية، لا أجد لوصفها أصدَقَ من قول المهلهل بن ربيعة:
ونبكي، حين نَذْكركم، عليكم ونقتلكم كأنّا لا نُبالي!
ثم من هو الجاني؟
الجنرال الذي خان العهد، أم السياسي الذي دبَّر الصفقة، أم الطائفي الذي أوقَد الفتنة؟
المدَّعي العام الذي امتشق أحابيلَ البلاغة حبالَ مشنقة، أم القاضي الذي كَتَمَ دويُّ مطرقته صرخاتِ الضمير؟
السجّان الذي سَكَبَ المرارةَ بجرعات موزونة، أم الجلاد الذي لم تَنَلْ من دقةِ رمياته بشاشةُ المصلوب؟
هؤلاء بَراغٍ صغيرة في آلة هائلة مُسَنَّناتُها نصوصٌ وعروش، ووقودها من دماء (الخارجين)، عِصيُّ يسوس بها الذئب الرعيَّةَ الغضبى، وأحجارٌ فاحمةٌ تحت مرجل لاتخمد ناره.
ما إنْ تنتهي أدوارهم حتى يَكنسهم غبارُ (المرحلة).
ويبقى القاتل حراً متعالياً واسعاً بل، والأدهى من كل ذلك، غامضاً
(كيف، من أين لكم أن تَعرِفوهْ؟
قاتلٌ ليس له وجهٌ، له كلُّ الوجوهْ. أدونيس ـ قصيدة الوقت 1983)
2 ـ تضميد الجرح؟
إنَّ لبعض الضمادات تأثيراً سامّاً أحياناً. وكثير من الجروح يرتبط شفاؤها ببقائها مفتوحةً على سواقي الباطن ومنفتحةً على عناصر الوجود، لتتدبَّر أمرَ التئامِها بنفسها، وتُعفي بقيةَ الأعضاء من (السهر والحمى)، وتتيح للجسد أن ينمو منيعاً بذاته، زاهياً بما خلَّفه الكدحُ الكريم فيه من نُدوب. وكم مِن ندبةٍ خشنةٍ أبهى من مفاتن النعومة، وأغلى ـ في ميزان الجَمال ـ من سِماتِ الترف.
لقد كانت حياة سعادة سؤالاً كالهطول، وكان موتُه جواباً كالنُمُوِّ. وفي الشفق الفاصل بينهما، اختار أن يَسِمَ وجهَ زمانه بِوَشْمَين أبديين:
الأول حين شَيَّع العتمةَ قائلاً: «يا خجلَ التاريخ مِن هذه الليلة»!،
والثاني حين استقبَل الفجرَ هامساً للجلاد: «شكراً».
الجملة الأولى حادّةٌ مؤلمةٌ كضربة المِشرط على موضع الداء المزمن، والكلمة الأخيرة ليِّنةٌ مرهفة كانسياب الخيط بين شفتَي الجرح كي لا يمتدَّ نزيفه إلى الباطن ولا تُمحى ندبتُه من الجِلد.
3 ـ (تكريم سعادة رسميّاً)، بإطلاق اسمه على شارع، أو نصب تمثالٍ له في ساحة، أو إدراج سيرته في المقرَّرات المدرسية.
لقد نُصبتْ للجناة تماثيل (قُربَ موقع الجريمة)، فما زادهم ذلك إلاّ تضاؤلاً. وأُمليتْ سيَرُهم على طلاب العلم، فرَمَتْها إلى مجاهل النسيان ممحاةُ الوقت.
أما الشهيد، فإنَّ لاسمه معنى تُحاك له الأجنَّةُ كلَّما (قَرَّبَ الحُبُّ فماً من فم، فسَكَبَ نَفْساً في نفس)
لوجهه قسمات تنثرها على اليابسة الأمواج العائدة من قطاف الأعماق، وليديه إيقاعٌ تكرِّره الرياحُ اللواقح.
سيرته خريرٌ في مسمع الأبد، وصوته ماءٌ يُتقِن كيف (ومتى) يَكسر صمتَ الصخور.
* * *
شهداء الفكر لا يحاكَمون. هم حُكْمُ العقلِ الرحب على الغرائز الضيقة، وحكمةُ الضوء المنقوشةُ نجوماً على جبين الظلام، واحتكامُ اليومِ إلى الغد كلّما حاصره الأمس.
لا جدوى من لَيِّ الأعناق. تموزُ أمامٌ، والأمام لا يلتفت.
نص في العمق وانا مع وجهة النظر أن الاعتذار وووو لا يعيد حقا”وحتى لا ينصف الضحية
حتى الاحلام اصبحت عبء علينا وتزيدنا من اللباس بما يليق بنا…
هذا ما جائني ردا على ما نشر في (مجلة سيرجيل) تحت عنوان -الأَمامُ لا يَلتفت-للشاعر أحمد حافظ .
(استميحك عذرا يا صديقي، هذا المقال ذكرني بمثل لجدتنا، رحمها الله،: شو بيعمل المبخر مع المفسي.
لو قبلت جبيننا ندما جميع الامم التي تكالبت على اغتصاب بلادنا واحتلال الارض وما تحتها، وقسمت الباقي الى دويلات، هذه الامم لو اعترفت باغتيال رجالنا ومفكرينا وانها اشترت الكثير لمساعدتها على غاياتها، لن نصبح احرارا من امة حرة بل يلبسنا العار ويليق بنا.
كفى احلام لان التاريخ لن يسجلها….)