تعني الفرانكفونية في تعريفها الإعلامي الأشهر الترويج للغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، مثلما تعني الانتماء إلى “منظمة دولية مقرها باريس و”تعتمد اللغة الفرنسية قاعدة لها، وتعمل على تعزيز وتوطيد الروابط السياسية والثقافية والأمنية والاقتصادية في ما بينها لتتمكن من مواجهة التحديات”. ولكن الفرانكفونية أمست تعني في ما تعنيه نزعة أيديولوجية مناهضة للثقافات المحلية للبلدان المستعمَرة السابقة تبلغ أحياناً درجة تأييد الدعوات الإنفصالية الثقافية أو السياسية التي يتبناها بعض الأفراد والجماعات.
إنَّ الفرانكفونية تمت بصلة مضمونية وثيقة إلى نمط الإستعمار الفرنسي الخاص والذي لا يقف عند ما يعنيه ويتطلبه النمط الإستعماري الأوروبي التقليدي من نهب ثروات البلدان المستعمَرة وتحويلها إلى سوق للسلع الرأسمالية ومصدر لليد العاملة الرخيصة والخامات الثمينة وموضعها القواعد العسكرية الاستراتيجية بل تتعدها إلى ما يسميه عبد الإله بلقزيز (إجراء جراحة ثقافية ولغوية تيتبع المستعمَر للمستعمِر وتأتي على استقلال شخصيته وكيانه/ ص 19 – الفرانكفونية: أيديولوجيا. سياسات. تحدي ثقافي لغوي/ مجموعة مؤلفين”.
هذا المضمون ما يزال يشي به حتى اليوم تعريفها على موقعها الرسمي الذي يجعل اللغة الفرنسية حاملة لمشروع “القيم الإنسانية” كما تفهمها الدولة الفرنسية حيث يقول التعريف: (الفرانكفونية تمثل مجالاً من أكبر المجالات اللغوية العالمية. فهي ليست مجرد تقاسم لغة لأنها تعتمد أيضاً على أساس الاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية. ويمثل هذان العنصران الدعائم التي ترتكز عليها المنظمة الدولية للفرنكوفونية/ تقرير لموقع بي بي سي).
وعلى هذا فليس دقيقاً القول إن الفرانكفونية هي مجرد تهمة تشنيعية يلقيها الإسلاميون السلفيون ضد خصومهم العلمانيين المحليين، فحتى لو استعمل الإسلاميون هذه التهمة بين أسلحتهم الهجائية بمواجهة أسلحة خصومهم العلمانيين المتشددين، فهذا ليس دليلاً على جوهر الفرانكفونية الحقيقي، إذ أن الفرانكوفية كمصطلح سبقت في ظهورها صعود الحركات الإسلامية المعاصرة بعدة عقود، وقد صكَّها الجغرافي الفرنسي أونسيم روكولو كمصطلح استعماري للمرة الأولى في القرن التاسع عشر في كتاب حمل اسم “فرنسا والجزائر ومستعمراتها”. وقد برزت الدعوة لتأسيس منظمة الدول الفرانكفونية في ستينيات القرن الماضي بدعم مالي وإعلامي وسياسي ضخم من الدولة المستعمِرة “فرنسا” لتحقيق نوع من العودة من النافذة بعد أن طردتها الشعوب وحركاتها الاستقلالية من باب التحرر الوطني آنذاك.
كما وليس دقيقا أيضاً القول إن الفرانكفونية وشبيهتها الإنكلوفونية ومنظمة “الكومنولث” خالية من أي بعد سياسي وثقافي وأيديولوجي، فهي محملة بهذه الأبعاد رغم كل الكلام الإنشائي الذي ينفي وجودها، ولعل الأسوأ من تبرئة الفرانكفونية من هذه الأبعاد هي مساواتها بالنزعة الهوياتية المحلية “الوطنية” واعتبارها مساوية أو مماثلة لما يسمونها العربفونية “نسبة إلى اللغة والهوية العربيتين”.
إنَّ مساواة نزعة التبعية الفرانكوفونية لدائرة ثقافة وسياسة البلد المستعمِر السابق “فرنسا” باللغة والثقافة المحلية العربية في بلد عربي ما دليل ملموس على البعد الأيديولوجي في هذا المسعى القائم على التبعية غالباً، أما عملياً فنحن نجد أحياناً، إلى جانب الفرانكفونية التابعة المستَلبة نوعاً من الفرانكوفونية الإيجابية المندغمة بهويتها الوطنية ولا يعدو استعمالها للغة الفرنسية إلا أداة تواصل وتوصيل إلى جانب اللغة الوطنية المحلية.
بمعنى أن هذا البعد ليس سلبياً دائماً، فهناك أمثلة على اتجاه فرانكفوني آخر يعتمد الاستقلالية والنزعة الوطنية المدافعة عن ثقافتها وهويتها المحلية منتجة أدبها باللغة الفرنسية أو بالفرنسية واللغة العربية معاً كما هي الحال مع الكاتب التقدمي الجزائري رشيد بوجدرة وغيره، وهو – في المناسبة – كاتب مهمش وغير مرحب به من قبل المؤسسات الثقافية الفرنسية قبل غيرها ولهذا السبب الاستقلالي بالذات!
هناك أيضاً نوع نفعي من الفرانكفونية اللغوية يخص بعض الدول التي لا تضم الكثير من الناطقين بالفرنسية ولكنها تطمع ببعض المساعدات المادية وغير المادية التي تمنحها الدول المستعمِرة السابقة، وهناك أيضاً نوع شبه محايد منها يمثله بعض الأكاديميين والعاملين في ميادين العلوم التخصيصية باللغة الفرنسية دون أن يترتب على ذلك أية تبعية أو مواقف سياسية مشتقة من السياسيات الفرنسية الرسمية للدولة لمؤسسة الفرنسية.
لقد تأسست منظمة الدول الفرانكفونية ومقرها باريس بدعم فرنسي مباشر وبمبادرة من “شخصيات سياسية في مطلع ستينيات القرن الماضي بتقديم اقتراح يقضي بتجميع البلدان حديثة العهد بالاستقلال والراغبة في الحفاظ على علاقات لغوية وثقافية مع البلد المستعمر السابق “فرنسا” كان من بينها الحبيب بورقيبة ورؤساء النيجر والسنغال وكمبوديا، كما كتب مصطفى المسناوي، مجلة العربي عدد / 515/2001. ولكن نفوذ ودائرة الفرانكفونية لا يقتصر على المستعمرات السابقة، بل يشمل ست دول أوروبية هي سويسرا، رومانيا، لوكسمبورج، بلغاريا، ألبانيا، موناكو، فرنسا، وفي قسم من بلجيكا، وهذه الدول وإن لم تكن جزءاً من المستعمرات الفرنسية نتيجة روابط ثقافية قديمة وبسبب سيادة اللغة الفرنسية كلغة للطبقات الارستقراطية في بلاطات بعض الممالك الأوروبية فالفرنسية “هي لغة العائلات الملكية والنبيلة في كل الأقطار الأوروبية بما فيها روسيا ودول أوروبا الشرقية” كما كتب جورج قرم، مضاف إلى ذلك عامل صعود وهيمنة اللغة الفرنسية خارج فرنسا وفي “كل أوربا منذ بداية عصر التنوير الأوروبي – في القرن الثامن عشر- وكانت هي المعتمدة في العلاقات الدولية ” كما يسجل الباحث جورج قرم.
—————————————————–
رابط تحميل كتاب “الفرانكفونية: أيديولوجيا. سياسات. تحدي ثقافي لغوي/ مجموعة مؤلفين”: